القبس/62(قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ فَبِذَٰلِكَ فَلۡيَفۡرَحُواْ) سورة يونس:58 - موجبات الفرح الحقيقي
(قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ فَبِذَٰلِكَ فَلۡيَفۡرَحُواْ)
موضوع القبس:موجبات الفرح الحقيقي
حالة الفرح لدى الإنسان:
يحصل الإنسان في هذه الدنيا على الكثير من النعم التي يفرح بها، ويحقق الكثير من الانجازات والأعمال المفرحة كالتاجر يربح بصفقته ربحاً غير متوقع، أو المعدلات العالية التي حققتموها في الامتحانات العامة للسادس العلمي خصوصاً إذا كانت الدرجات أكثر مما كان يظن وفق تقييمه لأجوبته.
وهذا الفرح حالة وجدانية طبيعية لا يمكن الغاؤها والاعتراض عليها، وإنما يحتاج إلى وضعه في مساره الصحيح المثمر، وفي ضوء هذا نفهم ما ورد في قوله تعالى {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} (القصص:76) والمشكلة ليست في نفس الفرح والحل في قوله تعالى بعد ذلك {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص:77) فالفرح بالمال والموقع الوظيفي والجاه والنفوذ لا يكون لذات هذه الأمور لأنها زائلة ولذتها وقتية وهي لوحدها غير قادرة على تحقيق السعادة للإنسان، والشاهد على ذلك كثرة الانتحار وشيوع الأمراض النفسية والعصبية والتفكك الأسري والعنصرية والتمايز الطبقي وأمثالها من الأمراض الاجتماعية التي تؤدي إلى نشوء مافيات العنف والقتل في الدول الأكثر ترفاً ورفاهية، وقد كثر ما تنقله وسائل الاعلام عن مثل هذه الحوادث في الولايات المتحدة بحيث تعجز قوات الامن عن قمع الاضطرابات وإيقاف المواجهات وتضطر السلطات الى اعلان حالة الطوارئ.
ما يوجب الفرح الحقيقي:
فالآية تدلنا على ما يوجب الفرح الحقيقي بهذه النعم من خلال توظيفها واستثمارها في الوصول إلى الهدف الحقيقي وهو نيل رضا الله تعالى من خلال الالتزام بطاعته تبارك وتعالى فإنها توفِّر السعادة الحقيقية للإنسان {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (يونس:58)، من كلام لأمير المؤمنين (عليه السلام):(فإن المرء ليفرح بالشيء الذي لم يكن ليفوته، ويحزن على الشيء الذي لم يكن ليصيبه، فلا يكن أفضلُ ما نلتَ في نفسك من دنياك بلوغ لذةٍ أو شفاءَ غيظ، ولكن اطفاء باطل أو إحياء حق، وليكن سرورك بما قدّمت، وأسفك على ما خلّفت، وهمّك فيما بعد الموت)([1]).
الفرح للنعم المعنوية:
والذي ينبغي أن يوجب الفرح أكثر هو التوفيق للنعم المعنوية والاهتداء إليها كنعمة القرآن الكريم الذي وصفت آثاره الآية السابقة عليها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (يونس:58) فهذه النعم الإلهية (الموعظة، شفاء الصدور، الهدى، الرحمة) هي التي تستحق ان يفرح بها الإنسان فرحاً يحركه للحصول عليها والاستزادة منها، وهي آثار مترتبة يوفرها القرآن الكريم للإنسان فأول أثر للقرآن هو أن يطرق باب النفوس الغافلة المتعلّقة بالدنيا وزخارفها اللاهثة وراء الماديات، والقلوب المملوءة بالرذائل فيعظها ويوقظها من الغفلة والجهل فيحركهم نحو الطريق الصحيح.
فإذا لزموا هذا الطريق أخذ القرآن في تهذيب نفوسهم وتطهير قلوبهم بمدة قد تطول وقد تقتصر بحسب استعداد الشخص وهمته وقوة عزيمته حتى يطهره منها ويشفيه من عللها وهذه هي المرتبة الثانية.
وحينئذٍ تكون قلوبهم صافية ونفوسهم صالحة متهيئة لتلقي الأخلاق الفاضلة والمعارف الحقة والأعمال الصالحة التي يرتقون بها في درجات الكمال، وهذا هو الهدى في المرتبة الثالثة.
وبذلك يستحقون منازل الرحمة ودار الكرامة عند ربهم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
لذا ورد في الدر المنثور([2]) في تفسير الآية عن ابن عباس (قل بفضل الله) القرآن (وبرحمته) حين جعلهم من أهل القرآن، وفي حديث مروي عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) يبيّن فيه آثار القرآن التي تستحق أن يفرح الإنسان بها ويعمل لتحصيلها، قال (صلى الله عليه واله وسلم) (إن اردتم عيش السعداء وموت الشهداء والنجاة يوم الحسرة والظل يوم الحرور والهدى يوم الضلالة، فادرسوا القرآن فإنه كلام الرحمن وحرز من الشيطان ورجحان في الميزان)([3]) ويصف الإمام السجاد (عليه السلام) أنسه وفرحه بالقرآن بقوله (لو مات من بين المشرق والمغرب لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي)([4]) فهذه هي النعم الحقيقية التي تستحق الفرح بها.
نعمة الإسلام واتباع النبي وأهل البيت (عليهم السلام):
والنعمة الأخرى التي يستحق الفرح بها رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) الذي هدانا الله تعالى به للإسلام وعلّمنا القرآن وأرسله إلينا رحمة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } (الأنبياء:107)، ونعمة أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي ثبت به الإسلام وحافظ على إصالته ونقاوته وحفظ مسيرة المسلمين من الانحراف والتزييف.
لذلك كثرت الروايات في كتب المسلمين([5]) عامة أن المراد بفضل الله في الآية رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وبرحمته علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ومن بعد أمير المؤمنين الأئمة الطاهرون (عليهم السلام) ومن بعدهم العلماء العاملون المخلصون المتفانون في اعلاء كلمة الله تعالى وهداية الناس وخدمتهم، فإذا كان النظر إلى وجه العالم عبادة، وزيارته كمن زار رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) ونحو ذلك مما دلت عليه الروايات الشريفة([6]) ألا يكون مثل هؤلاء العلماء نعمة تستحق الفرح بوجودهم وأخذهم لموقعهم الذي يستحقونه؟ فالتفوا حولهم واستفيدوا منهم وخذوا بتوجيهاتهم.
فضله تعالى غير رحمته:
وظاهر الآية أن فضل الله له معنى غير رحمته لارتباط كل منهما بباء السببية، وقد ذكر المفسرون وجوهاً لإعطاء معنيين مختلفين للفضل والرحمة منها:
1- ((أن يكون المراد بالفضل ما يبسطه الله من عطائه على عامة خلقه، وبالرحمة خصوص ما يفيضه على المؤمنين فإن رحمة السعادة الدينية إذا انضمت إلى النعمة العامة من حياة ورزق وسائر البركات العامة كان المجموع منهما أحق بالفرح والسرور وأحرى بالانبساط والابتهاج))([7]) ويؤيده تقييد الرحمة بالمؤمنين في هذه الآية وغيرها.
2- إن المراد([8]) بالفضل الإلهي النعم الظاهرية أو قل المادية وقد ورد بهذا المعنى في عدة آيات كقوله تعالى {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} (النحل:14) وقوله تعالى {وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة:10)، والرحمة إشارة إلى النعم الباطنية أو المعنوية.
3- إن الفضل الإلهي بداية النعمة ويساعد عليه المعنى اللغوي للفضل وهو بذل النعمة وهبتها، والمراد بالرحمة دوام النعمة، وهذا يناسب ما ذكرناه من تفسير فضل الله برسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) ورحمته بعلي بن أبي طالب (عليه السلام) لأن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) كان السبب في هدايتنا إلى نعمة الإسلام والإمام علي (عليه السلام) سبب بقائه واستمراره وكما قيل أن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) علة محدثة وموجدة، وأمير المؤمنين (عليه السلام) علة مبقية.
أن يكون الفضل إشارة إلى نعم الجنة، والرحمة إشارة إلى العفو عن الذنب وغفرانه.
([1]) نهج البلاغة، الكتاب:66.
([2]) الدر المنثور- السيوطي: 3/308
([3]) بحار الأنوار:89/19.
([4]) أصول الكافي:كتاب فضل القرآن، ح 13.
([5]) أنظر: البرهان في تفسير القرآن: 5/376
([6]) من لا يحضره الفقيه- الصدوق: 2/206,- مستدرك الوسائل- المحدث النوري: 9/152
([7]) الميزان في تفسير القرآن:10/77.
([8]) حكى هذا الوجه وما بعده في تفسير الأمثل:5/499.