القبس /34 (يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ ..) سورة المائدة:67 - يوم الغدير عيد الله الأعظم
(يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)
يوم الغدير عيد الله الأعظم
كل آيات القرآن عظيمة وجليلة، وهذه الآية من أعظم الآيات القرآنية وأجلها قدراً لأنها أسست لمستقبل الإسلام بعد النبي (صلى الله عليه واله) وخلوده وحفظته وصانته من الانحراف والتشويه في أهم منعطف ومفصل تاريخي بوفاة النبي (صلى الله عليه واله) وغياب شخصه عن مسرح الحياة.
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} أمر متوجه إلى الرسول (صلى الله عليه واله) وخوطب بهذا العنوان بصفته حامل رسالة إلهية عظيمة مهيمنة على كل الأديان وقيّمة عليها وخالدة تنظم شؤون الحياة لكل البشرية مدى الأجيال، ولأنه رسول فأنه لا يملك الا تبليغ الرسالة كما يريد المُرسل {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} (النور:54).
{بَلِّغْ} أي أوصل الرسالة بوضوح وحسم وهو تعبير أقوى من (أبلغ) ولا يتحقق التبليغ الا بأمرين: كون البيان واضحاً معبراً عن المطلوب بدقة، وكونه معلناً صريحاً وحاسماً ومشهوراً للناس.
{مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} ولم يذكره صريحاً تعظيماً له وللإشارة إلى أنه منزّل إليك من الله تعالى وليس لك أي يد فيه حتى لا يتهم بمحاباة أو مصلحة شخصية وغير ذلك، ولأنه منزل إليك فليس لك خيار إلاّ تبليغه.
وهذا الأمر المراد تبليغه لا يراد به كل ما انزل إليك ــ كما قال بعض العامة ــ لأن الجملة تصبح لغواً وتحصيل حاصل مع الجملة التالية وتصبح كالتالي ((وإن لم تبلّغ ما انزل اليك فما بلّغت ما انزل اليك)).
وليس هو قضية التوحيد أو النبوة أو البعث يوم القيامة ونحو ذلك من العقائد الحقة لأن هذه كلها بلّغها النبي (صلى الله عليه واله) منذ بداية البعثة من دون تردد فلا تحتاج إلى التطمين التالي {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}.
وليس هذا الأمر من قبيل الأحكام الشرعية لأنها بُلّغت كلها تدريجياً بحسب نزول الآيات الآمرة بها.
وإنما هو أمر محدد أنزله الله تعالى إليك في آيات سابقة وبوحي متكرر في مناسبات متعددة لتبلّغه ولكنه لم يكن حاسماً قاطعاً كما يراد تبليغه الآن، وهو أمرٌ مهم وخطير بحيث أنه يعدل الرسالة كلها، وإن لم يبلّغه فكأنه لم يبلغ الرسالة كلها كما أفاد الجزء التالي من الآية.
{مِن رَّبِّكَ} اختار الرب دون الأسماء الحسنى وإضافه إليه (صلى الله عليه واله) لإظهار مزيد من الرحمة والحنو على رسول الله (صلى الله عليه واله) بأن هذا الأمر أنزله ربك الذي ربّاك وتكفل بك وحماك ونصرك وأعلى شأنك فلتطب نفسك وليطمئن قلبك.
{وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} جملة لم يرد مثلها في القرآن الكريم وتعزّز التأكيدات المتكررة على تبليغ هذا الأمر، وظاهرها التهديد الا ان هذا المعنى غير وارد لأن النبي (صلى الله عليه واله) لا يحتمل فيه عدم التبليغ حتى يذكر جزاؤه، وقد قال تعالى {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام:124) فالآية في حقيقتها تعبير عن أهمية القضية بحيث ان اهمالها يعني التفريط بكل الرسالة وكأنه (صلى الله عليه واله) لم يفعل شيئاً خلال مدة الدعوة التي تجاوزت عشرين عاماً.
وكان يُشقّ على النبي (صلى الله عليه واله) تبليغ هذا الأمر لأنه كما يظهر من الآية يتعلق بـ ((حكم نازل، فيه شوب انتفاع للنبي (صلى الله عليه واله) واختصاصه بمزية حيوية مطلوبة لغيره أيضاً يوجب تبليغه والعمل به حرمان الناس عنه، فكان النبي (صلى الله عليه واله) يخاف إظهاره فأمره الله بتبليغه وشدَّد فيه، ووعده العصمة من الناس وعدم هدايتهم في كيدهم إن كادوا فيه)).
{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ليس المقصود بالناس اليهود وأمثالهم لأنهم قد قضي عليهم قبل ذلك بسنين ولم تبق لهم باقية، ولا يراد بهم المشركون لأن شوكتهم كسرت بفتح مكة ودخلوا في الإسلام طوعاً أو كرهاً، وإنما المراد بهم جماعة من أصحاب النبي (صلى الله عليه واله) كان يتوقع منهم التمرد والعصيان والانشقاق.
ولأن هذا الأمر يعرّضه (صلى الله عليه واله) للاتهام بأنه يبتغي به مصلحة شخصية أو محاباة([1]) وقد بلّغ النبي (صلى الله عليه واله) أحكاماً فيها ما يفسَّر على أنه مصلحة شخصية له كتزوجّه بأكثر من أربعة ولم يكن فيها حزازة ولا تردد لأنها لا تتعارض مع مصالحهم، لكن هذا الأمر المقصود بالآية من نوع خاص، لأنه يمسّ مصلحة مهمة لهم ويهدم طموحاً مُلحّاً ينتظرون تحقيقه وهو خطر عظيم قد يؤدي إلى إنهيار الكيان الإسلامي فأحبَّ النبي (صلى الله عليه واله) تأجيل تبليغه إلى وقت الضرورة لأنه يتعلق بما بعد وفاته (صلى الله عليه واله).
وهذا التحليل العقلائي المستفاد من ظاهر الآية الكريمة وتسلسل فقراتها ينسجم مع ما ورد في مصادر العامة والخاصة من نزولها في التبليغ بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) الأمر بعد رسول الله (صلى الله عليه واله) وقد نزلت فيه منذ بداية الدعوة الإسلامية آيات كثيرة كقوله تعالى {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء:214) فجمع النبي (صلى الله عليه واله) بني هاشم وأنذرهم ثم أخبرهم بأن علياً وزيره وخليفته. وتوالت الاخبارات حتى آية الولاية {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (المائدة:55) لكنها لم تصل إلى درجة التبليغ القاطع الحاسم وإقامة احتفال التنصيب الرسمي كما يقال، خشية أن يتهموه (صلى الله عليه واله) في ابن عمه. ولما علم الله تعالى أن أجله (صلى الله عليه واله) قريب أمر بإنجاز الأمر فوراً وقد أشار (صلى الله عليه واله) إلى ذلك فأنه قال قبل تبليغ الأمر (أيها الناس يوشك أن أقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي...).
وهذه القضية المهمة التي جعل تبليغها يعادل تبليغ الرسالة كلها هي تعيين القيادة المعصومة التي تخلف النبي (صلى الله عليه واله) وتواصل حمل رسالة الإسلام وصيانتها ونشرها لتستمر في أداء دورها، أي نقل ارتباط الرسالة من الحامل الشخصي وهو النبي (صلى الله عليه واله) إلى الحامل النوعي لها الذي يتصف بصفات الرسول (صلى الله عليه واله) وعلى رأسها العصمة والعلم وهو أمير المؤمنين ومن بعده الأئمة الطاهرون من بنيه (صلوات الله عليهم أجمعين) فان دوام الرسالة وحفظها يتحقق بوجود المؤهّل لحملها والا تموت الرسالة بموت حاملها كما حصل في شرائع الأنبياء السابقين حيث بقيت عرضة للتلاعب والتزوير وقد شرحنا ذلك في بحث مستقل([2]).
وان مصدر قلقه (صلى الله عليه واله) علمه بأن قوماً من أصحابه كانوا يتطلّعون للسلطة من بعده وينتظرون موته (صلى الله عليه واله) ليمسكوا بزمامها مدعومين بقطاع واسع ممن اسلموا كرهاً وانصياعاً للواقع أو طمعاً في أن يكون لهم شيء في دولة الرسول الكريم (صلى الله عليه واله) خصوصاً من قريش، وهذا ما ورد على لسان عمر بن الخطاب في أكثر من محاورة مع ابن عباس وفي أحداها قال يا بن عباس! أتدري ما منع قومكم منه بعد محمد؟ فكرهتُ أن أجيبه، فقلت: إن لم أكن أدري فأمير المؤمنين يدريني، فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة فتبجحوا على قومكم بجحاً بجحاً، فاختارت قريش لأنفسها ووفقت))([3]) وهذا يعني ان قريشاً كانت تجتمع وتناقش كيفية الاستيلاء على السلطة بعد رسول الله (صلى الله عليه واله) وفق مصالحها هي وليس مصلحة الإسلام، وقد عزمت على انتزاع الأمر من علي (عليه السلام).
وهذا ما كشف عنه أمير المؤمنين (عليه السلام) واشتكى منه لاحقاً بقوله (اللهم إني أستعديك على قريش ومن أعانهم فإنهم قد قطعوا رحمي وأكفئوا إنائي وأجمعوا على منازعتي حقا كنت أولى به من غيري)([4]).
وهؤلاء هم من كان يخشى النبي (صلى الله عليه واله) من فتنتهم وتقليبهم الأمور لو نصّب علياً خليفة من بعده، وكثير منهم ينظر إلى النبي (صلى الله عليه واله) على أنه ملك وزعيم نجح في بسط سلطانه كأبي سفيان في كلمته التي قالها عندما بويع لابن عمه عثمان بالخلافة (تلاقفوها يا بني أمية تلاقف الكرة بيد الصبيان فوالذي يحلف به أبو سفيان فلا جنة ولا نار ولا معاد)([5]) وأكّد بها قوله السابق حينما رأس جيش رسول الله (صلى الله عليه واله) على مشارف مكة وقد اضاؤوا النيران فقال للعباس بن عبدالمطلب (لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً)([6]) فقال له العباس (ويلك انها النبوة).
فلم يكن خوف رسول الله (صلى الله عليه واله) على نفسه فقد صدع بالدعوة وحيداً ولم يثنه بطش قريش وقسوتها {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} (الأحزاب:39).
فأمن الله تعالى نبيه من هذه المخاوف، وصدق وعده حينما انهال الجميع فوراً على بيعه أمير المؤمنين (عليه السلام) إماماً وخليفة من بعد رسول الله (صلى الله عليه واله)، وكان اول المبايعين أبا بكر وعمر وهما يقولان (هنيئاً لك يا ابن ابي طالب، أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة)([7]) وفي رواية أخرى قال ابن الخطاب (بخٍ بخٍ لك يا ابن ابي طالب)([8]) وظلّ يكرر الاعتراف بولاية علي (عليه السلام) في كل مناسبة([9]) كما سيأتي ان شاء الله تعالى.
ولما تم الأمر استبشر النبي (صلى الله عليه واله) وملأه السرور واطمأن على خلود الإسلام والقرآن ومستقبل الرسالة لأن الله تعالى قيّض لها من يحفظها ويصونها ونزل قول الله تبارك وتعالى {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} (المائدة:3) لأن فئات كثيرة كانت تعوِّل على وفاة النبي (صلى الله عليه واله) للتخلص من الإسلام بعد أن فشلت كل خططهم ومؤامراتهم للقضاء عليه، أما اليوم فقد دخل اليأس قلوبهم لأن النبي (صلى الله عليه واله) وإن ارتحل بشخصه إلى الرفيق الأعلى فأنه سيبقى محفوظاً بأخيه وصنوه علي بن أبي طالب (صلوات الله وسلامه عليه).
ان هذا الذي أوردنا من التفسير الظاهر من الآية الكريمة ينطبق تماماً على القضية التي نزلت فيها ونقلها جمع كبير من الصحابة أحصي منهم (110) ذكرت أسماؤهم في المصادر([10]) وألف جمع غفير من علماء الفريقين كتباً خاصة فيه فقد صنف مسعود بن ناصر السجستاني([11]) كتاب (الدراية في حديث الولاية) من سبعة عشر جزءاً روى فيه الحديث عن 120 صحابياً([12]) وألّف فيه ابن عقدة([13]) الذي وثقه ارباب المذاهب وسمى كتابه ((الولاية ومن روى غدير خم)) ورواه من 105 طرق وألف الطبري([14]) صاحب التفسير والتاريخ ((كتاب الولاية)) وروى الحديث من خمس وسبعين طريقاً([15]).
وننقل النص من مصادر العامة فقالوا ((لّما صدر رسول الله من حجّة الوداع نزلت عليه في اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة آية {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ...} فنزل غدير خمّ من الجحفة وكان يتشعب منها طريق المدينة ومصر والشام ووقف هناك حتّى لحقه من بعده وردّ من كان تقدّم ونهى أصحابه عن سمرات متفرقات بالبطحاء أن ينزلوا تحتهنّ، ثم بعث إليهن فقّمَّ ما تحتهن من الشوك ونادى بالصلاة جامعة وعمد إليهنّ وظلّل لرسول الله (صلى الله عليه واله) بثوب على شجرة سمرة من الشمس، فصلى الظهر بهجير ثمّ قام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه، وذكر ووعظ وقال ما شاء الله أن يقول، ثمّ قال: ((إنّي أوشك أن أُدعي فأجيب، وإنّي مسؤول وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟)) قالوا: نشهد أنّك بلّغت ونصحت فجزاك الله خيراً، قال: ((أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً عبده ورسوله وأنّ الجنّة حقّ وأنّ النار حقّ؟)) قالوا: بلى نشهد ذلك. قال: ((اللهمّ أشهد)) ثم قال: ((ألا تسمعون؟)) قالوا: نعم. قال: ((يا أيّها الناس إنّي فرط وأنتم واردون عليّ الحوض وإن عرضه ما بين بصرى إلى صنعاء فيه عدد النجوم قدحان من فضّة، وإنّي سائلكم عن الثقلين، فأنظروا كيف تخلفونني فيهما)). فنادى مناد: وما الثقلان يا رسول الله؟ قال: ((كتاب الله، طرف بيد الله وطرف بأيدكم، فأستمسكوا به، لا تضلّوا ولا تبدّلوا؛ وعترتي أهل بيتي، وقد نبّأني اللّطيف الخبير انّهما لن يتفرّقا حتّى يردا عليّ الحوض، سألت ذلك لهما ربّي، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلّموهما فهم أعلم منكم)) ثم قال: ((ألستم تعلمون أنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟)) قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ((ألستم تعلمون ــ أو تشهدون ــ أنّي أولى بكلّ مؤمن من نفسه؟)) قالوا: بلى يا رسول الله. ثم أخذ بيد عليّ بن أبي طالب بضبعيه فرفعها حتّى نظر الناس إلى بياض إبطيهما، ثم قال ((أيها الناس! الله مولاي وأنا مولاكم؛ فمن كنت مولاه، فهذا عليّ مولاه. اللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وأنصر من نصره، وأخذل من خذله، وأحبّ من أحبّه، وأبغض من أبغضه)). ثم قال ((اللهم اشهد)) ثم لم يتفرقا ــ رسول الله وعليّ ــ حتّى نزلت هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} (المائدة:3). فقال رسول الله (صلى الله عليه واله): ((الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة، ورضا الربّ برسالتي والولاية لعلي))([16]).
وروى جمع من علماء العامة عن ابن مسعود أنه قال (كنا نقرأ على عهد رسول الله (صلى الله عليه واله) {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ــ أن علياً مولى المؤمنين ــ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ})([17]).
ومما اشكلوا به ان المولى لها عدة معانٍ في اللغة كالناصر والحبيب وغيرهما فلا تتعين بولي الأمر، وهو احتمال مدفوع بصريح الحديث النبوي الشريف لأنه (صلى الله عليه واله) بيَّن مراده من الولي، وتكذبه أيضاً ظروف الحادثة فهل أوقف النبي (صلى الله عليه واله) تلك الجموع الحاشدة ليقول اني أحبّ علياً وأنه نصرني ونحو ذلك من الأمور الواضحة عند كل أحد.
ان مما يؤسف له تحكم الاهواء والعصبيات في اذهان المفسرين الذين لم يستقوا علومهم من أهل بيت النبوة فشرّقوا وغرّبوا واوردوا وجوهاً في تفسير الآية وسبب نزولها مما لا يناسب أجواء نزول الآية وظروف الحدث، ولا يليق صدوره منهم وفيهم ذوو عقول كبيرة والمهم عندهم صرفها عن الحقيقة التي نزلت الآية لبيانها ورواها جمع كبير من الصحابة والتابعين مع انهم يكتفون في تفسير الآية برواية واحدة عن هذا الصحابي أو ذاك ولا نريد الاطالة في عرض هذه الوجوه ومناقشتها.
أقول: واذا كانوا إلى اليوم يرفضون سماع هذه الحقيقة والايمان بها مع تواتر روايتها والقطع بصدورها فكيف كانوا في لحظة الحدث مما يعطينا فكرة عن مخاوف رسول الله (صلى الله عليه واله) من إبلاغ هذا الأمر.
وظل أمير المؤمنين وأهل بيته (عليهم السلام) وشيعته يؤكدون هذا الحق الثابت حتى لا يضيّعه المحرّفون، ومن أقواله (عليه السلام) في ذلك (فوالله ما زلت مدفوعاً عن حقي، مستأثراً عليّ منذ قبض الله نبيه صلى الله عليه حتى يوم الناس هذا)([18]).
وقال في الخطبة الشقشقية (أما والله لقد تقمصها فلان (ابن أبي قحافة) وانه ليعلم ان محلي منها محل القطب من الرحى)([19]).
وقال (عليه السلام) (لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري، ووالله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلا علي خاصة التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه)([20]).
وقال (عليه السلام) (فوالله إني لأولى الناس بالناس، لم تكن بيعتكم إياي فلتة، وليس أمري وأمركم واحدا. إني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم)([21]).
وقال (عليه السلام) (فلما مضى تنازع المسلمون الأمر من بعده، فوالله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده (صلى الله عليه واله) عن أهل بيته ولا أنهم منحوه عني من بعده، فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد (صلى الله عليه واله)! فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلما أو هدما، تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم، التي إنما هي متاع أيام قلائل)([22]).
واعتبر الأئمة المعصومون (عليهم السلام) يوم الغدير أعظم أعياد الإسلام لعظمة النعمة التي منّ الله تعالى بها فأكمل بها الدين ورضي الإسلام لنا ديناً، روى الكليني بسنده عن سالم قال (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) هل للمسلمين عيد غير يوم الجمعة والأضحى والفطر؟ قال: نعم أعظمها حرمة. قلت: وأي عيد هو جعلت فداك ؟ قال: اليوم الذي نصب فيه رسول الله (صلى الله عليه واله) أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه)([23]) ومثلها عدة روايات في نفس الباب.
وفي آمالي الشيخ الصدوق بإسناده عن الامام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال (قال رسول الله (صلى الله عليه واله): يوم غدير خم أفضل أعياد أمتي وهو اليوم الذي أمرني الله تعالى ذكره فيه بنصب أخي علي بن أبي طالب (عليه السلام) علماً لأمتي يهتدون به من بعدي وهو اليوم الذي أكمل الله فيه الدين وأتمّ على أمتي فيه النعمة ورضي لهم الإسلام دينا)([24]).
وروى الشيخ في التهذيب عن الامام الصادق (عليه السلام) قوله (وهو عيد الله الأكبر)([25]).
لذا يعبّر الامام الباقر (عليه السلام) بأسف وحسرة عن تضييع الأمة لهذا الأمر الإلهي العظيم الذي يعدل الرسالة كلها، بقوله (عليه السلام) (تعطى حقوق الناس بشهادة شاهدين وما اعطي أمير المؤمنين (عليه السلام) حقه بشهادة عشرة الآف نفس يعني الغدير) ومثله عن الامام الصادق (عليه السلام).
وقد جعل الأئمة (عليهم السلام) برنامجاً عبادياً مكثفاً في هذا اليوم شكراً لله تعالى على هذه النعمة وجعل عليها ثواباً عظيماً كالصوم والصلاة والدعاء والصدقة وتبادل التهاني مع المؤمنين، وزيارة أمير المؤمنين (عليه السلام) ولو من بعد لمن يتعذر عليه زيارة مرقد الشريف عن قرب، روى إبن ابي نصر قال (كنّا عند الرضا (عليه السلام) والمجلس غاص بأهله فتذكروا يوم الغدير فأنكره بعض الناس([26]) فقال الرضا (عليه السلام): حدثني ابي عن أبيه (عليه السلام) قال: ان يوم الغدير في السماء أشهر منه في الأرض) ثم قال (يا ابن ابي نصر، أينما كنت فاحضر يوم الغدير عند أمير المؤمنين (عليه السلام)) وبعد ان ذكر ثواب ذلك قال (والله لو عرف الناس فضل هذا اليوم بحقيقته لصافحتهم الملائكة في كل يوم عشر مرات)([27]).
ويمكن أن نفهم من الآية الكريمة أن على العاملين الرساليين ان لا يترددوا ولا يتلكأوا في نصرة مشروع الإسلام والتحرّك به مهما حاول الناس ــ بكل ما يحويه اللفظ من استصغار في هذا الموضع ــ وضع العراقيل وبث التهم والشبهات لأن الله تعالى يعصمه من هذه المكائد والخبث والشيطنة، وإنه تعالى ينصر من ينصره (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ) (الحج:40) وقد ورد هذا المعنى في خطبه لأمير المؤمنين (عليه السلام) قال فيها (فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، واعلموا ان الأمر بالمعروف والنهي عن النكر لن يقرِّبا أجلاً ولن يقطعا رزقاً)([28]).
([1]) روى الحسكاني في شواهد التنزيل (عن ابن عباس وجابر قالا: أمر الله محمداً (صلى الله عليه وآله) أن ينصب علياً للناس ليخبرهم بولايته، فتخوف رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يقولوا حابى ابن عمه، وأن يطعنوا في ذلك عليه، فأوحى الله إليه (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ) الخ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) بولايته يوم غدير الخم).
وروى عن زياد بن المنذر عن أبي جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) إلى أن قال (إن جبرئيل هبط إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: ان الله يأمرك أن تدلَّ أمتك على وليّهم على مثل ما دللتهم عليه من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم وحجهم ليلزمهم الحجة من جميع ذلك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا ربِّ ان قومي قريبوا عهد بالجاهلية وفيهم تنافس وفخر، وما منهم رجل الا وقد وتره وليّهم، وإني أخاف ــ أي من تكذيبهم ــ فأنزل الله تعالى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ). (شواهد التنزيل: 1/191-192 وراجع تفسير الآية في أسباب النزول للواحدي ونزول القرآن لأبي نعيم.
([2]) سيأتي بعنوان (كيف خطّط رسول الله (صلى الله عليه وآله) للخلافة من بعده)
([3]) تاريخ الطبري: 1/30 ط. مصر الأولى في ذكر سيرة عمر من حوادث سنة 23 هـ
([4]) نهج البلاغة: 336 الخطبة 217
([5]) الجوهري: السقيفة 39 ـ 40، ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 2/ 44
([6]) بحار الأنوار: 21/ 104، مجمع البيان في تفسير القرآن:10/471
([7]) مسند أحمد: 4/281 وسنن ابن ماجة باب فضائل علي، والرياض النضرة: 2/169.
([8]) شواهد التنزيل: 1/157،158
([9]) أورد جملة منها في (الفرقان في تفسير القرآن: 9/43) منها ما أخرجه الطبراني وفي الفتوحات الإسلامية: 3/307: حكم علي مرة على اعرابي بحكم فلم يرضَ بحكمه فتلبّبه عمر بن الخطاب وقال له: ويلك إنه مولاك ومولى كل مؤمن ومؤمنة.
([10]) راجعها في بحار الأنوار:37/181-182 وذكرهم باسمائهم في (الفرقان في تفسير القرآن: 9/25) وأضاف لهم التابعين وتابعيهم وفي سائر القرون وقد أوفى المرحوم العلامة الأميني البحث والاستقصاء وسجَّل كل هذه الاسماء و الوثائق في المجلد الأول من كتاب الغدير: 214-223 وبذل صاحب تفسير الفرقان جهداً وافياً في استقصاد مصادر التفسير والحديث والتاريخ (الفرقان في تفسير القرآن: 9/23)
([11]) محدّث، قال عنه بعض مؤرخيه ان فوائده من الأخبار لا تحصى توفي سنة 477 هـ (الاعلام للزركلي:8/117)
([12]) بحار الأنوار: 37/126
([13]) أحمد بن محمد، حافظ مكثر فقد كان يقول: احفظ مئة ألف حديث بأسانيدها توفي سنة 332 هـ (الاعلام:1/198)
([14]) محمد بن جرير: مؤرخ مفسر إمام مجتهد قلده بعض الناس عرض عليه القضاء وديوان المظالم فأبى، صاحب التاريخ المعروف ووصف بأنه أوثق المؤرخين ، له تفسير مطبوع بثلاثين جزءاً وكتب كثيرة أخرى توفي سنة 310 هــ (الاعلام:6/294)
([15]) بحار الأنوار:37/183
([16]) نقلناه بواسطة معالم المدرستين للمرحوم السيد مرتضى العسكري: 1/483-486 عن مجمع الزوائد للهيثمي: 9/105 و 163-165 وشواهد التنزيل للحسكاني: 1/192-193 ومسند أحمد: 4/281 وسنن ابن ماجة 1/43 ح 116 وغيرها.
([17]) الفرقان في تفسير القرآن: 9/19 عن الحافظ ابن مردوية/108، الدر المنثور: 3/298، الشوكاني في فتح القدير، الاربلي في كشف الغمة.
([18]) نهج البلاغة: 49 الخطبة 6
([19]) نهج البلاغة: 47 الخطبة 4
([20]) نهج البلاغة: 102 الخطبة 74
([21]) نهج البلاغة: 194 الخطبة 136
([22]) نهج البلاغة: 451 الخطبة 62
([23]) وسائل الشيعة: 10/440 أبواب الصوم المندوب، باب 14 ، ح 1
([24]) تفسير نور الثقلين:1/368 ح 29 من تفسير سورة المائدة
([25]) وسائل الشيعة: 8/89 أبواب الصلوات المندوبة باب 3 ح 1
([26]) الظاهر ان ذلك كان أيام ولايته العهد زمن المأمون فكان مجلسه الرسمي عاماً لكل الناس وليس للموالين فقط.
([27]) وسائل الشيعة: 14/389 أبواب المزار، باب 28 ح 1
([28]) وسائل الشيعة: 16/120 ، أبواب الأمر والنهي، باب 1 ح 7