القبس /18 (فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ) سورة آل عمران:159- الرحمة بالمؤمنين

| |عدد القراءات : 384
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

 (فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ)

موضوع القبس: الرحمة بالمؤمنين

من ابرز الصفات الكريمة التي سجّلها القرآن الكريم للنبي (صلى الله عليه واله): الرحمة بالمؤمنين, والشفقة عليهم, والرأفة بهم, كقوله تعالى {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة:128), وكان الغرض من بعثته الشريفة الرحمة بالعباد, قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107), وقال تعالى: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ 156 الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ } (الأعراف:157).

ومنها, الآية التي نحن بصددها, وهي قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران:159), وتستخلص منها عدة دروس:

دروس من الرحمة النبوية:

1-          أهمية صفة الرحمة فـي القائـد والمســؤول الذي يريـــد التأســي بالقيــادة النبوية المباركة؛ لأنها سر نجاح القادة, والمسؤولين في حركتهم نحو نفع الأمة, ورعايتها, وهي أساس كل احسان ومعروف تقدّمه للآخرين, وإن أساس التفاف الناس حول القائد هي الاخلاق, اما الفظ الغليظ فقد يضيّع حقه؛ لافتقاده هذه الصفة, لذا كانت من الوصايا المهمة التي وجهّها أمير المؤمنين (عليه السلام) الى مالك الاشتر لما ولاه مصر, قال (عليه السلام): (وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، والْمَحَبَّةَ لَهُمْ، واللُّطْفَ بِهِمْ)([1]), أي ان قلبك حتى لو كان غير ممتلئ بالرحمة التي هي ضرورية لنجاح عملك, فعليك أن تتكلفها, وتدرّب قلبك عليها, وتستثيرها في باطنك حتى تصبح ملكة راسخة, فان الصفات, والملكات الحسنة يمكن تحصيلها بالتهذيب, والتدريب.

وهذه الصفة يحتاج الى استشعارها كل أحد؛ لأننا كلنا مسؤولون وإن كان بدرجات متفاوتة, ففي الحديث الشريف (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)([2]), فرّب الاسرة مسؤول عن اسرته, ومدير الدائرة كذلك عن دائرته, ومثله المعلم عن طلبته, والوزير عن وزارته, والضابط عن جنوده, والمرأة عن بيتها واطفالها, وهكذا.

ولما سُئِل أحدهم من هو أحبُّ أبنائك اليك؟ لم يجب بأنه فلان, أو فلان, وانما قال: الصغير حتى يكبر, والمريض حتى يشفى, والغائب حتى يعود([3]), والجامع المشتـرك لهؤلاء هـو حاجتهـم الـى الرحمـة والشفقـة أكثـر مــن غيرهم.

2-          ان هذه الصفة, وسائر خصال الخير, والكمال, لا يمكن تحصيلها بالسعي, والعمل, وحده, بل لابد من توفيق إلهي, ولطف بالعبد, فوصفت الآية الرحمة أنها {مِنَ اللَّهِ}, عن الإمام الجواد (عليه السلام) قال: (المؤمن يحتاج الى توفيق من الله وواعظ من نفسّه وقبول ممن ينصحه)([4]).

3-          ان القائد هو محور وحدة الأمة؛ إذا كان رحيماً, ليناً, شفيقاً, وهو سبب تفرقها, وتشتتها, وانقضاضها؛ إذا كان فظاً, غليظ القلب, قاسياً لا يهتم بشؤون الرعية, ولا يتواضع لهم, ولا يتفقدهم.

ولأن أهل البيت (عليه السلام) ورثوا أخلاق النبي (صلى الله عليه واله), وصفاته الكريمة, فقد كانوا محور اجتماع الأمة, ووحدتها, وهذا ما عبّرت عنه الصديقة الزهراء (عليها السلام) بقولها: (وَطاعَتَنا نِظاماً لِلْمِلَّةِ، وَإمامَتَنا أماناً مِنَ الْفُرْقَةِ)([5]), فاذا وجدت امة متوحدة فاعلة, فاعلم ان رحمة الله شملتها, والعكس بالعكس, وقد نقل معروف بن فيروز الكرخي قوله: (إذا أراد الله بعبد خيرا فتح له باب العمل, وأغلق عنه باب الجدل, وإذا أراد الله بعبد شرا فتح له باب الجدل, وأغلق عنه باب العمل)([6]).

4-          الاجراء التربوي والاصلاحي الذي مارسه النبي (صلى الله عليه واله) مـع أصحابـه, فان الآية جاءت في السياق القرآني الذي تحدّث عن ملابسات معركة أُحد([7]), والهزيمة التي حلّت بالمسلمين بعد الانتصار الذي تحقق اول المعركة؛ نتيجة عصيان بعضهم لأوامر رسول الله (صلى الله عليه واله), فأنهزم الجيش إلا أفراد قلائل ثبتوا حول رسول الله (صلى الله عليه واله), وفي مقدمتهم أمير المؤمنين (عليه السلام).

وتسببت الهزيمة في استشهاد سبعين من اجلاء الصحابة, بينهم عم رسول الله (صلى الله عليه واله) حمزة بن عبد المطلب, والمتوقع من القادة في مثل هذه المواقف انزال العقوبات الصارمة بحق المنهزمين, مضافاً الى العقاب الإلهي؛ لارتكابهم جريمة (الفرار من الزحف).

لكن الله تعالى وجّه نبيه الى اجراء عكس المتوقع, وهو قوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} (آل عمران:159), وليس هذا فحسب, بل اعادة الثقة بأنفسهم, وإشعارهم بدورهم الفاعل في حياة الأمة, والمشاركة في قراراتها المصيرية {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (آل عمران:159), وفي هذا درس مهم لأولياء الأمور على جميع الأصعدة, بان يعتمدوا أسلوب العفو, والصفح, وزرع الثقة في نفس المخطئ, وقلع شعوره بالنقص, والدونّية, لينقلب تماماً على خطأه, ويعود الى الوضع الصالح السوي.

ولو تعاملنا بيننا بهذه الخصال النبوية الكريمة لشملتنا الرحمة, والالطاف الالهية, وحُلَّ الكثير من مشاكلنا بلطف الله تعالى.



([1]) نهج البلاغة- خطب الإمام علي (عليه السلام): 3/84.

([2]) بحار الأنوار- المجلسي: 72/38.- صحيح البخاري- البخاري: 3/125.- صحيح ابن حبان- ابن حبان: 10/343.

 ([3]) أنظر: جامع المسانيد والسنن- ابن كثير: 6/٧٤٣.- الإصابة في تمييز الصحابة- ابن حجر العسقلاني: 5/٢٥٣.

([4]) تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 457. وورد مثله عن الإمام الصادق (عليه السلام). أنظر: المحاسن- أحمد البرقي: 2/604.- وسائل الشيعة (آل البيت)- الحر العاملي: 12/25.

([5]) الاحتجاج- الشيخ الطبرسي: 1/134.

([6]) اقتضاء العلم العمل- الخطيب البغدادي: 79.- حلية الأولياء- الأصبهاني: 8/٣٦١.

([7]) أنظر: تاريخ الطبري- الطبري: 2/187.- الكامل في التاريخ- ابن الأثير: 2/148.- شرح نهج البلاغة- ابن أبي الحديد: 14/213.