القبس /4 (لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡـرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ) سورة البقرة:177- افهم حقائق الأمور جيّداً(البر والعلم والعبادة أمثلة)

| |عدد القراءات : 456
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

(لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ([1]) أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ)

موضوع القبس: افهم حقائق الأمور جيّداً

(البر والعلم والعبادة أمثلة)

[لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ] (البقرة: 177)

            [الْبِرَّ] قرئت بالنصب وهي القراءة المثبّتة في المصحف المتداول، وحقها الرفع ظاهراً لأنها اسم ليس، وهذا معروف في باب كان وأخواتها إذا كان أحد معموليها مركّباً من أن المصدرية وفعلها، لذا قالوا بجواز الوجهين، ووجه النصب أن [البرّ] خبر مقدَّم ويكون اسم [ليس] الجملة التي تليها، قد تقتضي البلاغة التقديم والتأخير مع الحفاظ على تأدية المعنى المطلوب وهومحفوظ على كلا الوجهين. نعم إذا اقترنت الجملة بالباء فيتعين أن تكون خبراً كما في قوله تعالى: [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا].

            إن القرآن حينما نزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ودوّنه بعض الصحابة كان خالياً من النقاط ومن الحركات مما فتح المجال واسعاً أمام اجتهادات القرّاء والرواة، وحصل اختلاف في القراءات حتى بلغت سبعاً أو عشراً وربما أكثر من ذلك، فالقراءة بالنصب هي المروية عن حمزة وحفص عن عاصم، وقرأها الأكثر بالرفع على القاعدة مثل نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر والكسائي وغيرهم، وهو المروي عن ابن مسعود وأُبيّ([1])، فهذه القراءة من اجتهادات القرّاء ولا يُعلم أنها من التنزيل، وقد جاءت الرخصة عن المعصومين (عليهم السلام) بجواز القراءة بما كان يرويه القرّاء في زمانهم (عليهم السلام)، قال الإمام (عليه السلام): (اقرأ كما يقرأ الناس) (اقرأوا كما عُلّمتم)([2]).

         لقد تضمّن منهج القرآن الكريم في الهداية والإصلاح عدة آليات ومنها تصحيح المفاهيم والأفكار المغلوطة، وذلك لأن كثيراً من الأعمال والسلوكيات يقوم بها أصحابها نتيجة لقناعة بنيت على فهم خاطئ لفكرة معينة، وقد تصل إلى حد ارتكاب الجرائم الشنيعة، ولو صحح المفهوم في أذهانهم لغيّروا طريقة حياتهم.

         خذ مثالاً مقولة (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) فقد جعله بعض الناس سبباً للعصبية الجاهلية والانحياز إلى عشيرته وحزبه وإن كانوا ظالمين معتدين، وهذا خلاف المبادئ الإسلامية وأخلاق المؤمنين، فلما قالها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه تعجبوا فقيل: (يا رسول اللّه، هذا ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً! قال: تمنعه من الظلم)([3]).

         فيكون حينئذٍ جزء كبير من معالجة المشاكل وحلّ الأزمات مبنياً على تصحيح هذه المفاهيم وإزالة الخلط والغموض، لما سُئل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن قتال الخوارج مع مَن بعده، قال (عليه السلام): (لا تقاتلوا الخوارج بعدي فإن من طلب الحق فأخطأه ليس كمن طلب الباطل فأدركه)([4]).

         يقصد بالأول الخوارج وبالثاني من قاتلوه في صفين أي أن الخوارج ممن اختلطت عليهم الأوراق فظنوا أن ما يفعلونه حقٌّ فلا يجوز قتالهم إلا مع إمام الحق، أما البغاة عليه في صفين فيعرفون بطلان ما هم عليه.

            فمن مسؤولية القادة والعلماء والمفكرين وصنّاع الرأي وثقافة الأمة أن يتصدوا لبيان المعاني الصحيحة للمصطلحات وإزالة الغبار عنها.

     وهذه الآية تقوم بهذا الدور وتبيّن مفردة مُهمّة في الحياة أعني [الْبِرَّ] الذي يُعرّف بأنه: (الاتساع والزيادة في فعل الخير)([5]), ومن الأسماء الحسنى [البرّ] في قوله تعالى: [إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ] (الطور: 28) لأنه واسع الخير والعطاء، ولذا سميت الصحراء بالبرية لاتساعها.

وقد ورد في الروايات أن الآية نزلت للتعريض بفعل أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين كانوا يسخرون من المسلمين عندما أمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله) بتحويل القبلة عند الصلاة من بيت المقدس إلى الكعبة المشّرفة, وأصبح للمسلمين هوية خاصة بعد أن كان أولئك يفتخرون عليهم وأنهم تابعون لهم لأنهم يصلّون إلى قبلتهم وكان النبي (صلى الله عليه وآله) يتوق إلى أن تكون الصلاة إلى الكعبة بعد الهجرة إلى المدينة [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ] (البقرة: 144), فأفقدهم تغيير القبلة هذا الادعاء, فأخذوا يشككون في صحة فعل المسلمين سابقاً أو لاحقاً.

وكانت هذه حلقة من سلسلة طويلة من المواجهة مع أعداء الإسلام، وقد نزلت عدة آيات للرد عليهم، منها قوله: [سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ المشرق والمغرب] (البقرة: 142), ومنها الآية التي نحن بصددها.

فالآية تقول: أن البر ليس أمراً شكلياً وحركة جسدية تتمظهر بالتوجه إلى هذه الجهة أو تلك فقط وفقط حتى يُركّز عليها الخصوم ويعتبروها المقياس لمعرفة الحق, بينما القلوب خاوية من الإيمان الحقيقي، والنفوس مجرّدة من الورع والتقوى، ولكن البر له حقيقة وراء هذه الشكليات تتكون من منظومة متكاملة من الاعتقادات والأخلاق والأفعال فذكرت الآية أصول العقيدة وهي الإيمان بالمبدأ والمعاد، والملائكة والأنبياء والمرسلين (عليهم السلام)، وتضمّنت أصول الأعمال الصالحة وهي إيتاء المال وإقامة الصلاة، ثم عزّزتها بأصول مكارم الأخلاق وهي الوفاء بالعهد والصبر في البأساء والضرّاء وحين البأس.

وفي الحقيقة فإن الآية شرحت معنى الإيمان المتكامل نظريّاً وعمليّاً, وإن عبّرت عنه بالبر، وفي كتاب الدر المنثور بسنده عن أبي ذر الغفاري (رضي الله عنه) أنه سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الإيمان فتلا عليه الآية فأعاد السؤال فتلاها ثانية وهكذا ثالثة([6])، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان)([7]).

هكذا يجب أن نُقيّم عباداتنا وسائر أعمالنا على أساس حقائقها وأغراضها وليس أشكالها وحركاتها البدنية التي لا تستحق شيئاً يُذكر, إذا خلت من المضمون، حتى لا يتملك العجب أحداً من العاملين أو الشعور بأنه قدَّم شيئاً يستحق عليه جزاءً عظيماً، وهو لم يزد على القيام بحركات بدنية.

ولنأخذ أمثلة من الواقع, كشخص يحيي الليل بالعبادة وهو لا يعلم بأن الحارس الليلي يجوب الشوارع على قدميه في ظل الظروف الجوية القاسية متحملاً المخاطر والتهديدات والمسؤولية الكبيرة ويتقاضى أجره عن الليلة عشرة آلاف دينار أو أكثر بقليل أي أقل من عشر دولارات فكم يستحق التعب الجسدي لإحياء الليل بالعبادة، أو نقيس الأمر على الاستئجار للعبادات, فإن أجرة صلاة يوم كامل دولاراً واحداً, أو أكثر بقليل, وصوم اليوم الواحد عشرة آلاف دينار, ونحن نريد بهذه الأعمال أن يدخلنا الله تعالى جنة عرضها السماوات والأرض.

فلا بد أن نعرف حقيقة ما يُريده الله تعالى من هذه الأعمال وهي التقوى والورع, وأن تحبّ الله تعالى وتؤثر رضا الله تعالى على ما سواه, وأن تحبّ خلق الله تعالى وتحسن إليهم بما يتيسر وتتجنب ظلمهم مطلقاً، قال الله تعالى [لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ] (الحج: 37), فالقيمة الحقيقية ليست للأشكال والمظاهر وإنما هي مع الروح والمضمون.

والملفت في الآية التي نحن بصددها أنها انتقلت من وصف [البِّر] - المصدر- إلى وصف [البَّر] - بالفتح - أو البارَّ وهو المتصف بهذه الصفات, ((ليكون بياناً وتعريفاً للرجال مع تضمنه لشرح وصفهم، وإيماءً إلى أنه لا أثر للمفهوم الخالي عن المصداق ولا فضل فيه، وهذا دأب القرآن في جميع بياناته، فإنه يبيّن المقامات ويشرح الأحوال بتعريف رجالها من غير أن يقنع ببيان المفهوم فحسب))([8])؛ لأن النظرية لا تُفهم إلا من خلال تجسيدها عمليّاً وإبرازها في سلوك الأسوة الحسنة، ولتشير إلى أن مَن اجتمعت فيه هذه العناصر يْكون البر صفة راسخة فيه حتى يصبح مجسداً للبِّر على أرض الواقع كما نقول: (علي عدل) أي أن العدل ملكة راسخة فيه حتى أصبح مثالاً ومصداقاً للعدل.

والصفات المذكورة واضحة ومحورها العبودية لله تبارك وتعالى وعدم التعلق بشيء سواه، وقد ذُكر إنفاق المال مرتين [وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ] أي على حب المال أو على حبّ الله تعالى، [وَآتَى الزَّكَاةَ] وكأنه للإشارة إلى قيامه بالإنفاقين الواجب والمستحب.

أو لوحظ في الأول أثره على المجتمع بلحاظ موارد صرفه ولوحظ في الثاني أثره على الفرد نفسه من حيث تزكيته وارتقائه.

والخطاب وإن نزل للتعريض بأهل الكتاب إلا أنه شامل للجميع كما هو ديدن القرآن الكريم.

فهذه هي صفات الأمة المؤمنة حقيقة التي هي خير أمة أخرجت للناس ولها مقام الشهادة على الأمم الأخرى [لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً] (البقرة: 143), وليس بمجرد ادعاء الانتساب.

وفي الحديث الشريف عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (أما علامة البارّ فعشرة: يحبّ في الله، ويبغض في الله, ويصاحب في الله، ويفارق في الله، ويغضب في الله، ويرضى في الله، ويعمل لله، ويطلب إليه, ويخشع لله، خائفاً مخوفاً طاهراً مخلصاً مستحيياً مراقباً، ويُحسِنُ في الله)([9])، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (ثلاث من أبواب البر: سخاء النفس، وطيب الكلام، والصبر على الأذى)([10]).

وسار على هذا المنهج القرآني -في وضع المعايير الصحيحة للأشياء وتصحيح فهم الأمور- النبيُّ والأئمة المعصومون (عليهم السلام)، روي عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: (دخل رسول الله (صلى الله عليه واله) المسجد فإذا جماعة قد أطافوا برجل فقال: ما هذا؟ فقيل: علّامة، فقال: وما العلّامة؟ فقالوا له: أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها، وأيام الجاهلية، والأشعار العربية، قال: فقال النبي (صلى الله عليه وآله): ذاك علم لا يضرّ من جهله، ولا ينفع من علمه، ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله): إنما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة قائمة، وما خلاهن فهو فضل)([11]).

إذن فالعلم الذي يستحق أن يُسمى علماً هو ما كان فيه نفع للناس في دنياهم أو آخرتهم وتقوم به حياتهم بحيث لو تركه الناس يصيبهم ضرر بفواته كعلوم الطب والهندسة، أما ما ليس كذلك كأنساب العرب ووقائعهم في الجاهلية فلا يستحق تضييع الوقت الثمين في تعلمه.

فلابد أن نراعي ذلك في ما نطالعه ونتعلمه عبر وسائل التثقيف المتنوعة التي لم تقتصر على الكتب والصحف والمجلات، بل تعدّتها إلى شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.

ومن ذلك ما رواه معلى بن خنيس قال: (سأل أبو عبد الله (عليه السلام) عن رجل وأنا عنده فقيل: أصابته الحاجة، قال: فما يصنع اليوم؟ قيل: في البيت يعبد ربه، قال: فمن أين قوته؟ قيل: من عند بعض إخوانه، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): والله للذي يقوته أشد عبادة منه)([12]).

فالرواية تصحح لنا فهمنا لعنوان مهم آخر وهي (العبادة) التي نظن أنها بكثرة الصلاة والصيام وكلما ازداد منها كان أعبد الناس وإذا بمفهومها أوسع من ذلك.

فكل عمل يساهم في إعمار الحياة وإسعاد الناس وإصلاحهم وتوفير الحياة الكريمة لهم هو من أسمى أشكال العبادة.

     وقد أدّت العقيلة زينب (عليها السلام) بنت أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه الوظيفة في مجالس الطواغيت خلال رحلة السبي وهي ربيبة القرآن، وتلقّته ممن نزل عليه الوحي وفي بيت النبوة والإمامة، ولنأخذ مثالاً على ذلك جانباً من خطابها (عليها السلام)، فقد كان يزيد وابن زياد وأزلامهم يعتقدون أنّهم هم المنتصرون فأخذتهم سكرة الغلبة ونشوتها كما وصفتهم العقيلة زينب (فشمَختَ بأنفك ونظرت في عطفك جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة والأمور متّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا).

            وتصبح مشكلة المفاهيم المقلوبة أخطر حينما تُستغل لخداع الناس وتُجعل دليلاً على شرعية حكم أولئك الطواغيت وسلطتهم، وهذا ما نبّهت إليه (صلوات الله عليها) (أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نُساق كما تُساق الإماء أنّ بنا على الله هوناً وبك عليه كرامة!! وأنّ ذلك لعظيم خطرك عنده، فمهلاً مهلاً لا تطش جهلاً، أنسيت قول الله عز وجل [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ] (آل عمران: 178).

            فهي (سلام الله عليها) لم تكتفِ بالإدلاء بحقيقة أنّ هذا ملكنا وسلطاننا خاصة ونحن أحقّ بالأمر من هذا الظالم المدّعي، ولكن فضحت هذه الأساليب لخداع الناس بأنّ هؤلاء المتسلّطين هم أصحاب الحق، ولا يزال إلى اليوم من يموّه على الناس ويكتسب شرعيته من كثرة الأتباع وشهرة العنوان وإغداق الأموال لفرض الأمر الواقع وإقناعهم بأنّ سلطته شرعية وإبعاد الحق عن أهله.

            فتواجه العقيلة زينب (عليه السلام) الطاغية يزيد بالحقيقة الدامغة وبيان المنتصر الحقيقي (فكِدْ كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحض([13]) عنك عارها. وهل رأيُك إلاّ فند، وجمعك إلاّ بدد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين فالحمد لله الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة)([14]).

            ووقفت نفس الموقف في الكوفة أمام الطاغية عبيد الله بن زياد حينما قال شامتاً: (الحمدُ لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذَبَ أحدوثتكم)([15]).

            فتصدت له بشجاعة وبلاغة أخذتهما من أبيها أمير المؤمنين (عليه السلام) قائلة: (الحمدُ لله الذي أكرمنا بنبيّه، وطهّرنا من الرجس تطهيراً، إنما يُفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا يا ابن مرجانة)([16]).

            وحاول أن يغطي فشله وهزيمته بمزيد من الشماتة قائلاً: ((كيف رأيتِ صنع الله بأخيكِ)) فأجابت (سلام الله عليها): (ما رأيتُ إلاّ جميلاً، هؤلاء قومٌ كتب الله عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاجَّ وتخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذٍ، ثكلتك أمّك يا ابن مرجانة)([17]).

            هكذا أعادت العقيلة زينب الأمور إلى نصابها وبيّنت من هو المنتصر الحقيقي وهزمت هؤلاء الطواغيت وجيوشهم الجرّارة التي غلبت بالسيف لكنّها هُزِمت بالبيان والحجة الدامغة فقلبت أفراحهم أحزاناً.

            وعلينا نحن أن نستفيد من هذا الدرس الزينبي ونُصحِّح جملة من المفاهيم والرؤى والنظريات التي أُريد بها خداع الناس وتسييرهم بالاتجاه الذي يريده أصحاب تلك الأجندات الهدّامة، ولنأخذ على ذلك مثالاً من عالم المرأة ممّا حاولوا به خداعها ودفعوها إلى ما يريدون من الانحلال والفساد ومزاحمة الرجال وترك وظيفتها الأساسية في بناء الأسرة الصالحة وتنشئة الجيل الصالح وهو شعار (المساواة).

            فهل المساواة مطلب عقلائي؟ وبتعبير آخر هل إن المساواة حق دائماً؟ والجواب هو النفي، نعم إذا كان المطلوب مساواة الرجل والمرأة بالاستحقاق والجزاء فهذا حق وقد كفله الشارع المقدّس [أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ] (آل عمران: 195) [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] (الحجرات: 13) سواء كان ذكراً أو أنثى.

            أما إذا أرادوا بالمساواة مماثلة المرأة للرجل في الوظائف والأعمال التي يؤديانها فهذا مطلبٌ غير عقلائي، بل فيه ظلمٌ للمرأة، لأن طبيعة خلقها وفسيولوجيتها وسايكولوجيتها تنسجم مع وظائف غير ما كُلّف به الرجل، فالمساواة هنا من الظلم وليس من العدالة، ومثله كمثل الطبيب الذي يعطي نوعاً واحداً من الدواء إلى مرضى متنوعين، وكالمدرّس الذي يعطي درجة واحدة لكل طلبته في الامتحان مع تفاوت إجاباتهم، وهذا هو الظلم بعينه والمطلوب تحقيق العدالة وهي قد تقتضي المساواة وقد لا تقتضي المساواة بحسب الموارد وهذا ما كفلته الشريعة المقدسة، فلو أعطينا للولد ميراثاً بقدر البنت لكان ظلماً، لأن الرجل هو الذي يصرف على المرأة ويكفل لها كل احتياجاتها فهي تشاركه في حصته، ولا يشاركها في حصتها فكيف يتساويان في الاستحقاق.

            فهذه المراعاة لتكوين كلٍّ من الرجل والمرأة وطبيعة وظائفهما مما تقتضيه الفطرة، وجرت عليه سيرة العقلاء، ويشهد به الواقع، وخذ نماذج عشوائية من تركيبة مجتمعات الغرب المدعيّة للتحضّر وانظر هذه المراعاة، كتشكيلة الحكومة أو عدد الطيارين أو عدد قادة الوحدات العسكرية وقيادات الجيش وانظر نسبة النساء إلى الرجال ستجدها ضئيلة فأين المساواة التي يريدون تسويقها إلينا؟.

            وبهذه المناسبة نشير إلى مصطلح متداول يخصّ المرأة وهو ((سنّ اليأس)) الذي يراد به عمر الخمسين للمرأة وتُسمى المرأة باليائس، وهو قد يكون له منشأ صحيح حيث يحصل فيه اليأس من الإنجاب لانقطاع الدورة الشهرية، إلاّ أنّ هذا العنوان اُخذ على إطلاقه وكأنّه سن اليأس من الحياة، مما ولّد شعوراً عندها بالإحباط وفقدان الأمل وأنّها أصبحت لا قيمة لها وانتهى دورها في الحياة وأحيلت على التقاعد كما يُقال، فتعتريها أعراض نفسية وعصبية قد تفاقم المشكلة عليها، وهذه الأعراض ليس لها أصلٌ فسيولوجي أو عضوي كما يشهد به الأطباء، أي أن بلوغ المرأة هذا العمر لا يصاحبه أي تغيير في جسمها يقتضي هذه الأعراض، وإنما هي نتائج صنعتها المرأة بنفسها بسبب ذلك الشعور الذي غذّاهُ المصطلح البائس.

            فالأليق أن يُسمى هذا العمر للمرأة (سن الكمال والنضج وتمام الرشد) لاكتمال تجربة المرأة في الحياة بعد أن تكون قد ربّت جيلاً كاملاً وتعلّمت الكثير، وهو سن التفرغ لنفسها ولآخرتها ولزوجها بعد أن انتهت من وظائف الحمل والإنجاب والتربية، وشبّ أبناؤها وبناتها فهم يعينونها على قضاء حوائجها، فهذا العمر فرصة مثمرة لكي يجتمع الزوجان من جديد على حياة زوجية يتفرغان لبعضهما ويلتفتان لآخرتهما وينشغلان لما يقرّبهما إلى الله تعالى من الطاعات والقربات مما لم تكن مشاغلهما السابقة تسمح لهما بها، كالسفر لأداء الحج والعمرة وزيارة المعصومين (صلوات الله عليهم) والصلاة المستحبة والصوم وقضاء ما فات ومطالعة الكتب، والمساهمة في الأعمال الخيرية والتبليغ الديني والوعظ والإرشاد وغيرها من فرص الكمال.

 

 



([1])  معجم القراءات القرآنية: 1/ 137.

([2])  الكافي: 2/ 631 ح 15، ح 23 من باب النوادر من كتاب فضل القرآن.

([3])  مسند أحمد: 3/ 212.

([4])  نهج البلاغة، بشرح محمد عبده: 1/ 108، الخطبة (61).

([5])  مجمع البحرين- الشيخ الطريحي: 1/184- تاج العروس- الزبيدي: 6/69.

([6])  الدر المنثور، جلال الدين السيوطي: 1/169.

([7])  بحار الأنوار: 66/ 346، مرسلاً. الدر المنثور: 1/ 170، وتفسير البيضاوي: 1/ 213.

([8])  الميزان في تفسير القرآن: 1/ 428.

([9])  تحف العقول، ابن شعبة الحراني: 21.

([10])  نهج البلاغة: 4/ 89.

([11])  الكافي، الشيخ الكليني: 1/ 32.

([12])  وسائل الشيعة (آل البيت)- الحر العاملي: 12/14/ح3.

([13])  الرحض: هو الغسل. (لسان العرب: رحض).

([14])  بحار الأنوار: 45/ 135.

([15])  بحار الأنوار: 45/ 115.

([16])  المصدر السابق: 115، نفس الرواية.

([17])  المصدر السابق: 116، نفس الرواية.