الاجتهاد ووظائف المجتهد

| |عدد القراءات : 1606
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

 

الاجتهاد ووظائف المجتهد

الاجتهاد ملكة شريفة تؤهّل صاحبها لأخذ الأحكام من مصادرها وهو شرط أساسي للوصول إلى مرتبة المرجعية وقيادة الأمة التي تعبّر عن لطف إلهي عظيم باختيار من اجتمعت فيه شروطها لنيابة المعصوم (عليه السلام).

وبين الوصول إلى درجة الاجتهاد - التي هي درجة علمية- واستحقاق المرجعية وقيادة الأمة - التي هي مسؤولية دينية اجتماعية عامة- مدة زمنية أولاً لإنضاج الملكة وتقويتها بالممارسة وسعة الإحاطة، ومراتب معنوية ثانياً للسير في مدارج الكمال وتهذيب النفس والارتباط بالله تبارك وتعالى بحيث يصبح مسؤولاً عن مصير أمة كبيرة مما ذكرناه في كتاب (الأسوة الحسنة)، وتأهيل اجتماعي ثالثاً للتدريب على تحمّل المسؤولية ورعاية شؤون الأمة حتى يستحق نيابة المعصوم في استحقاقاته ووظائفه ومسؤولياته.

(مسألة 15) : الاجتهاد ملكة وقدرة فإذا توفرت في الشخص - بفضل الله تبارك وتعالى- صار مجتهداً ولا معنى لتجزئها، نعم، هي قابلة للضعف والقوة كسائر الملكات، وهي -كممارسة- قابلة للتخصص، ولما كانت الممارسة الطويلة وسعة الاطلاع على الآراء الفقهية ذات تأثير في دقة الحكم الصادر فإنّ التخصص في الفقه كالتخصص في الطب وسائر العلوم الأخرى أمر مقبول، بل مستحسن ويساهم في إنضاج العلم وتعميقه والوصول إلى نتائج مبدعة.

وإذا وجد فقيه متخصص في مجال معين وكان (أعلماً) في اختصاصه فيمكن، بل يجب الرجوع إليه في هذا المجال ويبقى في غيره ملتزماً بمرجع تقليده، ويمكن تصّور التخصص على صعيد (الفقه الفردي) المتعارف فيتخصص في كتاب القضاء مثلاً أو النكاح او البيع، ويمكن تصوره على صعيد (الفقه الاجتماعي) فيتخصص في احكام الاحوال الشخصية أو القوانين الجنائية او احكام الدولة السياسية أو الاقتصاد ونحوها.

(مسألة 16) وظائف المرجع ومسؤولياته كثيرة ومتوزعة في ابواب الفقه ولكن يمكن ادراجها ضمن عناوين ثلاثة:

الأول: الإفتاء واستخراج أحكام مختلف الحالات والوقائع من أصول التشريع.

(مسألة 17) : لا يجوز لغير المجتهد النظر في الأدلة لاستخراج الحكم الشرعي بقصد العمل به لنفسه فضلاً عن غيره، كما لا يجوز لغير من اجتمعت فيه شروط المرجعية أن يفتي أو يصدر مواقف أو أحكاماً عملية بقصد عمل الغير.

(مسألة 18) : إنّ ما قيل من حرمة التقليد على المجتهد ولزوم قيامه بنفسه بعملية الاستنباط من الأدلة لا يوجبه تحقق ملكة الاجتهاد عنده وإنّما يتنجّز وجوب الاستنباط عليه عند عدم الاطمئنان للحكم ولو باحتمال معتنى به في مسألة ما، لذا جاز إرجاع المكلفين إلى الغير سواء كان من الأحياء أو الأموات إلا في المسائل التي يتزلزل فيها هذا الاطمئنان، وفي ضوء هذا فلا يحرم على المجتهد العمل بفتاوى مجتهد غيره جامع للشرائط إذا لم تتوفر له فرصة الاستنباط إلا مع عدم حصول الاطمئنان بفتواه.

(مسألة 19) : إذا تبدّل رأي المرجع فعليه إعلام مقلديه ببيان منفصل أو بإعادة طبع الرسالة العملية مع تمييز موارد التبدّل في خصوص المسائل التي تندرج في وظيفة التقريب من الطاعة وتجنيب المعصية وحفظ المصالح.

(مسألة 20) : الاجتهاد واجب اجتماعي أو كفائي بحسب المصطلح، بمعنى أنّ على الأمة تهيئة الظروف والمقدمات لوصول العدد الكافي من أبنائها إلى مرتبة الاجتهاد، لأنّ قيادة الأمة وهدايتها وصلاحها لا يكون إلا بمن توفر فيه هذا الشرط إضافة لما تقدم وقد وعد الله تبارك وتعالى على لسان المعصومين (عليهم السلام) أن الأرض لا تخلو من حجة ترجع إليه الأمة.

(مسألة 21) : إذا سار نظام الحوزة العلمية الشريفة في طريق التخصص في الاجتهاد فيمكن أن نصل في يوم ما إلى مجلسٍ من المجتهدين الجامعين للشرائط تتوزع عليهم مسؤولية الافتاء، ويكون المرجع القائد رئيساً لهم ويمسك بالوظائف الاجتماعية كالقرار السياسي وصلاة الجمعة والقضاء وإقامة الحدود وتنظيم الميزانية المالية ونحوها.

(مسألة 22) : إذا لم تكن لمرجع التقليد فتوى في مسألة معينة وتعذّر استحصالها منه فيمكن الرجوع إلى غيره في خصوص تلك المسألة مع مراعاة أنّ ذلك الغير هو الأجمع للشروط التي ذكرناها.

(مسألة 23) : نقصد بالحاكم الشرعي في أي موضع ورد في هذه الرسالة المجتهد العادل وإن لم يكن مستجمعاً للشروط الأخرى لمرجع التقليد.

 الثاني: القضاء بين الناس والنظر في الخصومات.

(مسألة 24) : لا يجوز التحاكم إلا عند المجتهد العادل ولو لم يكن مرجعاً لتقليد المترافعين، أو عند من ينصبه المجتهد العادل للقضاء بعد أن يعرّفه صلاحياته وحدوده كالحكم في القضايا التي هي عبارة عن نقل الفتوى أو الاستماع إلى المتخاصمين وأقوال الشهود ونحوها من القرائن والأدلة ورفع القضية إلى الحاكم الشرعي ونحوها.

(مسألة 25) : إذا عجز المدّعي عن استرداد حقه بالترافع عند الحاكم الشرعي فتبقى حرمة الترافع إلى المحاكم الوضعية ثابتة إلا إذا كان الحق معيّناً ومشخّصاً في الخارج، كداره المغصوبة أو سيارته المسروقة فيجوز له الترافع لاستنقاذها، دون ما لو كان الحق كلياً في الذمة كمبلغ من المال، ولو استعاد مالاً بهذه الطريقة فأخْذُه محرم وإن كان مُحقّاً في دعواه.

(مسألة 26) : إذا نظر الحاكم الشرعي في قضية وحكم بها فلا يجوز نقض حكمه حتى لمجتهد آخر، نعم لذلك الآخر مناقشته في المقدمات والأدلة والحجج التي استند إليها كالقدح في الشهود ونحوه.

 (مسألة  27) : الحكم بثبوت الهلال ليس مشمولاً بالمسألة السابقة لأنّه ليس فيه انشاء للحكم بهذا المعنى وإنّما هو اخبار عن تطبيق وإجراء لفتوى، فيمكن لمجتهد أن يكون له نظر في ثبوت الهلال غير ما حكم به الآخر لاختلافه معه في المبنى كوحدة الآفاق وعدمها ونحوه.

(مسألة 28) : لا يجوز للمرأة التصدي لمنصب القضاء بين عموم الناس لما عُرِفَ من ذوق الشريعة وارتكاز المتشرعة من عدم وضع المرأة في مثل هذه المواقع، كالمرجعية العامة للتقليد وولاية شؤون الأمة ولكن لا مانع من تحاكم النساء إليها أو أزيد من ذلك في الحدود التي ذكرناها في المسألة (24).

 الثالث: ولاية أمر الأمة.

وهذا العنوان يضمّ عدة وظائف:

1- رعاية شؤون الأمة -كياناً وأفراداً- ومصالحها وحل مشاكلها وقضاء حوائجها.

2- الدفاع عن حقوق الأمة في جميع النواحي الدينية والاقتصادية والسياسية والفكرية والأخلاقية والاجتماعية.

3- المحافظة على وحدتها وتماسكها وصيانة عزّتها وكرامتها.

4- هدايتها إلى الكمال وإرشادها وتوجيهها إلى ما يسعدها ويصلح حالها في الدنيا والآخرة.

5- الوقوف في وجه الظلم والفساد والانحراف وتفعيل وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

6- القيام بما يتوقف عليه حفظ النظام الاجتماعي العام.

7- التصدي للوظائف الاجتماعية التي لا يجوز تأديتها اعتباطاً، كإقامة صلوات الجمعة وتنظيم العمل المسلح وتحديد مصارف الأموال العامة ومستحقيها ومراعاة العدالة في الاستفادة من الثروات الطبيعية والأراضي العامة ونحوها.

8- التدخل لتشخيص الشبهات الموضوعية التي ليست هي من وظائف المفتي لكنها من وظائف القائد وولي أمر الأمة، كإثبات أوائل الشهور وكانتهاك المقدسات الموجب للدفاع المسلح ونحوه.

وهذه العناوين العامة يندرج فيها الكثير من المسؤوليات والصلاحيات التفصيلية التي يحتاج بيانها إلى بحث خاص([1]).

والخلاصة أنّ الفقيه الجامع للشرائط لما كان نائباً عن الإمام المعصوم (عجل الله تعالى فرجه الشريف) بالنيابة العامة لا الخاصة التي تعني تعيينه بالنص من قبل الإمام فله كل الصلاحيات والوظائف التي جعلها الله تبارك وتعالى للإمام  وأذن الامام بتفويضها الى نوابه مما يرجع إلى تدبير شؤون الأمة ديناً ودنياً بحيث لا يرضى الشارع المقدس ولا العقلاء بإهمالها وتعطيلها والتي يتعذر على الامام المعصوم الحجة الغائب القيام بها مباشرة لمنافاتها لمقتضى المصلحة الالهية باخفاء امره على الناس.

والدليل على هذه الولاية لنائب الإمام - في حال غيبته- هو نفس الدليل على وجوب وجود الإمام نفسه، وهو حكم العقل بوجوب نصب إمام ومرجع يحفظ البلاد وينظّم أمور العباد الدينية والدنيوية، وقد عبّر أمير المؤمنين(عليه السلام) عن هذا الوجوب بقوله: (لابد للناس من أمير بر أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلّغ الله فيه الأجل، ويجمع به الفيء، ويُقاتَل به العدو، وتأمن به السُبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح بَرٌ ويُستراحُ من فاجر)([2]) ومع ثبوت هذه اللابدّية فيلزم منها جعلها من قبل الله تعالى ولابد أن تكون للفقيه العارف بالقانون الإلهي والقادر على استنطاق مصادر التشريع والأخذ منها وأن يكون بدرجة عالية من النزاهة وعدم الانسياق وراء أهواء النفس والترفع عن الدنيا والذوبان في الله تبارك وتعالى بحيث يعيش معه في كل وجدانه وأن يكون متخلقاً بأخلاقه تبارك وتعالى([3]).

ويؤكد هذا الحكم العقلي ويرشد إليه ما ورد عن ابن شاذان عن مولانا أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في حديث قال فيه (فإن قال فلم وجب عليهم معرفة الرسل والإقرار بهم والإذعان لهم بالطاعة، قيل له: لأنّه لما لم يكن في خلقهم وقولهم ما يكملون به مصالحهم وكان الصانع متعالياً عن أن يُرى وكان ضعفهم وعجزهم عن إدراكه ظاهراً لم يكن بُدّاً بينه وبينهم معصوم يؤدي إليهم أمره ونهيه وأدبه ويوقفهم على ما يكون فيه إحراز منافعهم ودفع مضارهم إذ لم يكن في خلقهم ما يعرفون به ويحتاجون إليه من منافعهم ومضارهم فلو لم يجب عليهم معرفته وطاعته لم يكن في مجيء الرسول منفعة ولا سد حاجة ولكان إثباته عبثاً بغير منفعة ولا صلاح وليس هذا من صفة الحكيم الذي أتقن كل شيء، فإن قال: فلمَ جعل أولي الأمر وأمر بطاعتهم، فقل: لعلل كثيرة منها أن الخلق لما وقفوا على حدود وأمروا أن لا يتعدوا ذلك الحد لما فيه من فسادهم لم يكن يثبت ذلك ولا يقوم إلا بأن يجعل عليهم فيه أميناً يمنعهم من التعدي والدخول فيما حضر عليهم لأنّه إن لم يكن ذلك كذلك لكان أحدٌ لا يترك لذته ومنفعته لفساد غيره، فجعل عليهم قيّماً يمنعهم من الفساد ويقيم فيهم الحدود والأحكام، ومنها أنّا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملة من الملل عاشوا وبقوا إلا بقيّم ورئيس لما لابد لهم من أمر الدين والدنيا فلم يجُز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق مما يعلم أنّه لابد لهم ولا قوام لهم إلا به فيقاتلون به عدوهم ويقسمون به فيئهم ويقيم لهم جمعتهم وجماعتهم ويمنع ظالمهم من مظلومهم، ومنها أنّه لو لم يجعل لهم إماماً قيّماً أميناً حافظاً مستودعاً لدرست الملة وذهب الدين وغيّرت السنة والأحكام ولزاد فيه المبتدعون ونقص منه الملحدون وشبّهوا ذلك على المسلمين، لأنّا قد وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كاملين مع اختلافهم واختلاف أهوائهم وتشتت أنحائهم فلو لم يجعل لهم قيّماً حافظاً لما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) لفسدوا على نحو ما بيّنّا وغُيّرت الشرائع والسنن والأحكام والايمان وكان في ذلك فساد الخلق أجمعين)([4]).

(مسألة 29) : ليس للمرأة ولاية أمر الأمة.

(مسألة 30) : كما أنّ الفقيه الجامع للشرائط نائب عن الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) في الامتيازات والصلاحيات فهو نائب عنه في تحمل المسؤوليات والقيام بالوظائف التي كان يؤديها الإمام (عليه السلام) وقد ذكرنا جملة وافرة منها في كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية).

(مسألة 31) : عندما لا يكون النظام السياسي قائماً على أساس الإسلام ولا يكون الفقيه مبسوط اليد فإنّه يأذن بتصرفات الحكومات القائمة في حدود ما فيه حفظ النظام الاجتماعي العام وعدم مخالفتها للشريعة فتكون تلك الحكومات بمثابة الوكيل عنه في هذه التصرفات وهو المالك الحقيقي لها، لذا يشترط استئذانه في هذه التصرفات، ويترتب على ذلك أنّ كل ما جرت عليه يد الدولة من أبنية ومؤسسات واستثمارات وغيرها فمالكها الحقيقي هو الإمام ويحتاج التصرف فيها الى اذن من نائب الامام وهو المرجع، وليست هي من مجهول المالك أو من المباحات العامة التي تُملك بالحيازة ووضع اليد.

(مسألة 32) : لا يفرض الفقيه ولايته على الأمة بالإكراه وإنّما يشترط تحقق إرادتها واقتناعها بولايته، نعم، لا نقصد بالأمة كل الأمة ولا يتم اختيار الولي الفقيه بالانتخابات العامة لكل الناس وإنّما نقصد بالأمة أهل الخبرة والاختصاص منها في هذا المجال وهم فضلاء وأساتذة الحوزة العلمية الشريفة المتصفون بالورع والنزاهة والمعرفة بمتطلبات العمل الاجتماعي وتطبيق المشروع الاسلامي المبارك.

(مسألة 33) : يجب على الفقيه أن يخطط وينفذ قولاً وعملاً بمقدار ما يُيسّره الله تبارك وتعالى له لإقناع الناس بالإسلام والنظام الإسلامي وصلاحيته لقيادة البشرية نحو السعادة والسلام.

 



(1)  فهو وارث من لا وارث له وله الولاية على أموال المفقود ويطلّق زوجته عند مرور أربع سنوات ويُجبر المحتكر على البيع ويحدد الأسعار إذا أجحفت بالناس ويتدخل في تشخيص الشبهات الموضوعية التي لها دخل في نظام حياة الناس ويشترط تحصيل إذنه بالتصرف في مجهول المالك ويتصدى لأي عمل فيه رفع للضرر عن الأمة كتوسيع الطرق وتهديم الأبنية الآيلة للسقوط ويقبض حق الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف)  ويصرفه في موارده وهو الذي ينصب القيّم على الصغير والسفيه والمجنون والمتولي للأوقاف العامة ويقوم بكل ما فيه حفظ النظام الاجتماعي العام كإقامة الجسور وبناء المدارس والمستشفيات واستخراج المعادن واستصلاح الأراضي وهو الذي يأمر بإقامة الحدود ويطلّق الزوجة إذا امتنع الزوج عن توفير حقوقها وغيرها كثير.

(2) نهج البلاغة، الخطبة 40 من كلام له (عليه السلام) في الخوارج لما سمع قولهم (لا حكم إلا لله).

(3) راجع كتابنا (الأسوة الحسنة للقادة والمصلحين).

(4) علل الشرايع للشيخ الصدوق .