مباديء الشفافية ومظاهرها
مباديء الشفافية ومظاهرها(*)
ترد كلمة الشفافية كثيراً على ألسنة السياسيين وعموم المتصدين للعمل الاجتماعي ويطالب الجميع بأن يكون العمل شفافاً ولكن لم يشرح لنا أحد حقيقة الشفافية وكيف يكون التعامل شفافاً أي ما هي مظاهر الشفافية؟ وكيف يمكن تدريب النفس عليها أي ما هي المبادئ والخصائص التي يجب توفرها في النفس لتنطلق منها التعاملات الشفافة؟
وبصفتنا عاملين في الحقل الاجتماعي فإن من وظيفتنا تشخيص معوقات العمل ومشاكله ومقومات نجاحه كما تحدثنا في كلمة سابقة عن عناصر رفع الهمة وخلق الحوافز للاندفاع نحو مزيد من العمل وفي ضوء هذه الرؤية فقد وجدنا أن من بين المشاكل الرئيسية التي يعاني منها العمل الاجتماعي. ويعاني منها اكثر العاملين في الحركة الاسلامية – هو عدم التعامل مع الآخرين بشفافية- وهي صفة لا تختص بالعمل فقد يوصف القانون بانه شفاف أي مرن وقابل لاستيعاب الحالات الاستثنائية ويأخذ الاعذار بنظر الاعتبار وليس جامداً حدياً، فالشفافية اذن من الاسس المهمة لانجاح العمل ولضمان تطبيق القوانين والاستجابة لها بسلاسة وهي من اهم مميزات القانون الاسلامي وقادته العظماء.
وسنشير في حديثنا الى مظاهر الشفافية في الاسلام ومبادئها واصولها النفسية مستنداً الى مجموعة مباركة من الاحاديث الشريفة وستكون الاشارة مجملة تاركاً بيانها التفصيلي الى الفضلاء والمفكرين لاغتناء مصادرنا الاسلامية بهذه الاحاديث المباركة:
1- انصاف الآخرين من نفسك: فإذا كان رأي الاخر صحيحاً فكن شجاعاً وقل له ذلك وتنازل عن رأيك واعترف بخطأك لذا قالوا ان الاعتراف بالخطأ فضيلة وقد وبّـخ الله تعالى من يتمسك بموقفه ورأيه رغم اعترافه في داخله بصحة رأي الآخر وحقه فقال تعالى: (وإذا قيلَ له اتقِ الله أخذته العزةُ بالإثمِ فحسبه جهنم وبئس المهاد) وقال تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم ظلماً وعُلوّاً فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) ودعا تبارك وتعالى عباده الى إعطاء الآخرين حقهم من غير غمط ولا بخس، قال تعالى (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) وهذه الصفة شاقة على النفس ولا يتحلى بها الا من روّض نفسه ودرّبها وملك زمامها لذا جاء في الحديث الشريف عن الامام الصادق (ع) قال: (قال رسول الله (ص): (يا علي ثلاث لا تطيقها هذه الامة: المواساة للأخ في ماله وإنصاف الناس من نفسه، وذكر الله على كل حال) وليس هو سبحان الله والحمد لله ولا إله الا الله والله أكبر، ولكن اذا ورد على ما يحرم خاف الله عز وجل عنده وتركه).
2- المشاورة وعدم الاستبداد بالرأي وعدم الاستكبار عن سماع رأي الآخرين ونصيحتهم فإنها قوة اضافية لك لانضمام عقولهم الى عقلك فكأنك تفكر بمجموع عقولهم وهو كمال ونضج للرأي لذا جاء فيما أوصى به النبي (ص) علياً (ع): (لا مظاهرة أوثق من المشاورة ولا عقل كالتدبير) وعن أمير المؤمنين (ع): (من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها عقولها) وعن الصادق (ع) : (ما يمنع أحدكم اذا ورد عليه ما لا قبل له به ان يستشير رجلا عاقلاً له دين وورع، ثم قال أبو عبد الله (ع) اما انه اذا فعل ذلك لم يخذله الله بل يرفعه الله، ورماه بخير الامور وأقربها لله . واعطانا النبي (ص) والائمة (ع) الدروس العملية في ضرورة المشورة وهم أكمل الخلق وسادتهم والمتصلون بالتسديدات الإلهية التزاماً بقوله تعالى (وشاورهم في الامر فإذا عزمت فتوكل على الله) ووصف عباده المفلحين بقوله عزّ من قائل (وأمرهم شورى بينهم) وعن بعض أصحاب الامام الصادق (ع): قال: قال لي الصادق (ع): (أشر عليّ برجل له فضل وأمانة، فقلت: انا أشير عليك، فقال شبه المغضب: إن رسول الله (ص) كان يستشير أصحابه ثم يعزم على ما يريد الله.
3- اعتماد مبدأ الحوار وعدم فرض الرأي على الآخر مهما كنت مقتنعاً به فإن رسول الله (ص) كان يعلم انه على حق ومع ذلك أمره الله تعالى بالحوار مع الآخرين (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّه)(آل عمران: من الآية64)، وقوله سبحانه: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(العنكبوت: من الآية46)، وقد ثقف الاسلام اتباعه على حرية التعبير عن الرأي واختيار العقيدة قال تعالى (لا إكراه في الدين) ويبلغ هذا المبدأ أوفى حالاته واكملها حينما يأمر الله تبارك وتعالى المسلمين ان يوفّروا الامن والحماية لمن يريد من المعسكر الآخر ان يستمع الى هذا الدين ثم يعيده الى بلاده آمناً ليختار بكل حرية (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) (التوبة:6) . فهل يوجد حث على الحوار وهل توجد شفافية اكثر مما في الاسلام.
4 – التواضع، لأن التكبر والنظر الى الأنا والاعجاب بالنفس يصد عن سماع الحق ويعمي البصيرة ويذل صاحبه وعلى العكس منه فإن التواضع يرفع صاحبه ففي الحديث : (من تواضع لله رفعه الله) ، وفي دعاء مكارم الاخلاق للإمام السجاد (ع): (ولا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزّاً ظاهراً إلا أحدثت لي ذلّةً باطنة عند نفسي بقدرها) فلا تتكبر عن الآخرين وتواضع لأدنى خلق الله فقد يجري الله الكلمة المفيدة النافعة الصالحة على لسان من لا تأبه بهم، ومما روي عن سيرة عيسى روح الله (ع) انه قال لحوارييه يوماً: أريد ان اغسل اقدامكم قالوا نحن أولى بأن نفعل لك ذلك يا روح الله. قال (ع): لكي تتواضعوا من بعدي.
5- سعة الصدر، وقد ورد في الحديث (آلة الرياسة سعة الصدر) ولا نفهم من الرئاسة انها المناصب الحكومية الرفيعة فقط بل كل ولاية أمر لمجموعة هي رئاسة فالمعلم رئيس لطلابه وشيخ العشيرة رئيس لأبناء عشيرته والعالم الديني وإمام الجماعة رئيس لمريديه واتباعه والام رئيسة في بيتها فكل واحد محتاج الى سعة الصدر لكي ينجح في عمله ولا بد ان تتناسب سعة الصدر مع عظم المسؤولية فكلما كبرت وازداد عدد المرؤوسين وجب ان يتسع الصدر لاستيعابهم جميعاً، ومما اوصى به النبي (ص) عمه العباس (انكم لا تسعون الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم) فيمكن للانسان بسعة صدره ان يكسب الناس من حوله ويزيد ثقتهم بقيادته.
6- الحب للناس جميعاً، فليس في قلب المؤمن حقد ولا غل ولا كراهية لذلك جعل الله من نعمه على أهل الجنة انه يزيل ما بقي في صدورهم وقلوبهم من هذا قال تعالى:(وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) (الحجر:47) لأن هذا الغل والحقد والكراهية اول ما يؤذي صاحبه فيجعل حياته منكدة ومعذبة وباله مشغولاًً بهذه الدوّامة من التفكير مما يقعده عن القيام بالكثير من الأعمال الناجحة اما لو نقّى قلبه منه فسيكون سعيداً فارغ البال للمسؤوليات المهمة لكن الناس متفاوتون في تطهير قلوبهم حتى المؤمنين لذا يوجد من يدخل الجنة وهو لم يكمل تنقية قلبه مما ينكد عليه صفو الحياة في نعيم الجنان فيتم الله نعمته عليه بنزع الغل من قلبه ولكن بعد ألم طويل فلماذا لا يعمل الانسان على إزالته من الدنيا لينعم بالسعادة مباشرة ويملأ قلبه بحب الخير للناس جميعاً ولا ينال السعادة الكاملة (إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء:89) خصوصاً بين المؤمنين العاملين في مشروع اسلامي واحد حتى لو اختلفوا في الراي وفي آليات العمل فلا يؤثر ذلك على روح الصفاء اما ما نراه من تحول المودة الى تقاطع وانتقاص للآخر وتشويه لصورته وما يتبعه من غيبة ونميمة وسوء ظن وكلها من الكبائر فهذه ليست من اخلاق الاسلام ولنتاسّ بالامام الحسين (ع) الذي بكى على أعدائه يوم عاشوراء معللا ذلك بأنهم سيدخلون النار بسببي وهم المحتشدون لقتله واستئصال أهله وخاطب الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم (وما أرسلناك الا رحمة للعالمين) أي جميع العوالم من المخلوقات وليس للبشر فقط فضلاً عن المسلمين من اتباعه (ص) فلنحمل هذا القلب الكبير المملوء بالرحمة والحب وإرادة الخير ولنتأس بالنبي وآله الطاهرين (صلى الله عليهم اجمعين).
7- حسن الخلق مع الناس والتآلف معهم فمن صفات المؤمن انه يألف ويؤتلف وهذه من اهم مظاهر الشفافية ويوجد في جوامع الحديث حشد هائل من الاحاديث التي تبني في الانسان مكارم الاخلاق والخصال الحميدة قال الامام الصادق عليه السلام: (ما يقدم المؤمن على الله عز وجل بعمل بعد الفرائض احب لله تعالى من ان يسع الناس بخلقه فإن الخلق الحسن يميت الخطيئة كما تميت الشمس الجليد) ، وعنه (ع): (ان الله تبارك وتعالى ليعطي ثوابه على حسن الخلق كما يعطي المجاهد في سبيل الله). وقال رسول الله (ص): (التودد الى الناس نصف العقل). فما اجمل ان تستقبل الناس دائماً بالبشاشة والانفتاح وتتودد لهم والبسمة دائماً على وجهك حتى في أحلك الظروف وليس ان تكون عبوساً في وجوه الناس.
8- حمل الآخرين على الصحة والتماس العذر لهم ان لم يعجبك شيئ من تصرفاتهم، لذا ورد في الحديث: احمل أخاك على سبعين محمل حسن. وهو رقم يضرب للكثرة لا للتحديد فلو احتجت الى واحد وسبعين تفسيراً فاحمل عليه فقد وصلت تربية الأئمة لشيعتهم الى حد ان الامام يقول لأحد اصحابه انه لو شهد عندك خمسون قسامة (أي خمسون رجلاً يقسمون عندك) ان اخاك المؤمن قال فيك كذا وكذا ثم جاءك هو وقال لم افعل فخذ بقوله وازل قول القسامة.
9- المحافظة على حدود الصداقة التي حدها الائمة المعصومون عليهم السلام فعن الامام الصادق (ع): (لا تكون الصداقة الا بحدودها فمن كانت فيه هذه الحدود او شيء منها وإلاّ فلا تنسبه الى شيء من الصداقة
فأولها: ان تكون سريرته وعلانيته لك واحدة،
والثانية: ان يرى زينك زينه وشينك شينه،
والثالثة: ان لا تغيره عليك ولاية ولا مال،
والرابعة: لا يمنعك شيئاً تناله مقدرته،
والخامسة: وهي تجمع هذه الخصال : ان لا يسلمك عند النكبات).
10- المواساة: بل الايثار، فعن بعض اصحاب الامام الباقر (ع) قال: قال لي الباقر: أرأيت من قِبلكم اذا كان الرجل ليس عليه رداء وعند بعض اخوانه رداء يطرحه عليه؟ قال: قلت: لا، قال: ... فضرب بيده على فخذه ثم قال: ما هؤلاء بأخوة.
ووصف القرآن الكريم علاقة المؤمنين فيما بينهم بأكمل من ذلك فقال: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)(الحشر: من الآية9).
هذه هي المظاهر الرئيسية للشفافية اختصرتها لكم وهي تتطلب الكثير من الصبر والمصابرة والتربية للاتصاف بها والالتزام بمضمونها وعدم الاكتفاء بإلقاء الكلمات من دون تطبيق لذلك يقول الامام لشيعته (فأعينونا بورع واجتهاد وعفة وسداد). فالتقوى والورع والصبر وعلو الهمة والاخلاص تساعد على المضي في طريق الكمال قال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وإنها لَكَبيرةٌ إلا على الخَاشِعين)(البقرة: من الآية45) وعلى الله نتوكل ليأخذ بأيدينا وأيديكم لتحقيق هذه الصفات لنستحق شفاعة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (ع) ونفوز بمجاورة الاحبة محمد وآله الطاهرين صلى الله عليهم أجمعين والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) كلمة سماحة الشيخ (دامت تأييداته)في المؤتمر العام الاول لرابطة بنات المصطفى بتاريخ 21-22/جمادى الثانية 1426