بين الأصوليين والإخباريين (القسم الأول)

| |عدد القراءات : 2688
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بين الأصوليين والإخباريين

 

(القسم الأول)

 

بقلم : الشيخ حيدر اليعقوبي

 

 

 يعتقد البعض انه يوجد تباين شاسع بين المدرستين الإخبارية والاصولية؛ الا اننا نريد القول هنا ان المتأمل في كلمات المنصفين من الإخباريين والمحققين من الأصوليين ، يلاحظ انه لا توجد على المستوى العملي (وهو المهم) الاّ خلافات ثانوية او بسيطة سواء في المباني او التفريعات، وهذا امر طبيعي يحصل حتى بين الإخباريين أنفسهم، وبين الأصوليين أنفسهم، مع انحفاظ روح الفقاهة عند أغلب العلماء رغم وقوع مثل هذه الاختلافات الجزئية. نعم، حصلت اتهامات ضد الاصوليين اكثرها بحسب الظاهر ناشئ عن الغفلة وعدم الفهم او عن سوء النقل، او عدم التفريق بين الجانبين النظري والعملي، او الشأني والفعلي على نحو الدقة.

 

ولبيان ذلك لاحظ الامثلة التالية:

 

1 - ان الإخباري قد يعترض على الاصولي بانه يقول بحجية العقل كمدرك أساسي للأحكام الشرعية، مع ان الوارد عن المعصومين (ع) ان دين الله لا يصاب بالعقول. ولكن هذا الإخباري لم يقرأ جيداً مباحث العقل عند الأصوليين ؛ فهم بالتأكيد لا يقولون بان العقل مصدر مستقل للأحكام الشرعية؛ وانما يريدون بعض الأحكام العقلية القطعية من قبيل قبح الظلم وحسن انقاذ الغريق ونحو ذلك؛ وكذلك يريدون بعض الملازمات العقلية الواضحة من قبيل ان المولى لو امر عبده بأن يُحضر له شيئاً من اعلى السطح …، ولم يكن هناك من سبيل لصعود السطح الاّ بواسطة السلم، فان العقل والمنطق يحكمان بأن العبد مأمور بصعود السلم لأجل احضار ما يريده المولى من فوق السطح، وهذا ما يتفق عليه العقلاء سواء كانوا اخباريين ام اصوليين.

 

وقد ورد في الحديث عن المعصومين (ع): (بالعقل يطاع الله ويُعبد)، وكذلك ورد عنهم (ع) : (ان لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة؛ فاما الظاهرة فهي الرسل والانبياء والائمة؛ واما الباطنة فالعقول).

 

2 - ان الاخباري قد يعترض على الاصولي بان الاجماع الكاشف عن رأي المعصوم (ع) هو طريق ظني فكيف يسوغ له العمل به؟ وهذا الاعتراض ناشئ عن الغفلة وسوء الفهم، فالاصولي يقصد انه لو تحصل لنا هكذا اجماع فانه سيكون حجة ؛ ولا اعتقد ان الاخباري يخالف في ذلك لو حصل له اطمئنان بان اجماع معين قد كشف عن رأي المعصوم (ع). وهذا كله من باب الاطروحات العلمية، والنظريات الفقهية؛ اما في واقع العمل والتطبيق فانه لم يحصل هكذا اجماع الا في الموارد الضرورية من قبيل وجوب الصلاة والصوم ونحو ذلك؛ اما الاجماعات المدعاة فهي اما مركبة او متعارضة، او انها ناقصة وغير تامة بحسب الاستقراء؛ او انها مدركية؛  ومعلوم ان الاجماع المركب او المتعارض ليس باجماع حقيقة ، واما الاجماع الناقص فهو بالتاكيد لا يفيد الاطمئنان وانما هو مجرد تسالم ظاهري او شهرة ظاهرية ، وكلاهما لا يعتبر من الادلة اللازمة او القطعية؛ بمعنى انه لا يجب التعبد به عند الاصوليين.

 

واما الاجماع المدركي فالاصوليون يقولون: بان حجته غير مستقلة، بل لا حجية له في نفسه، وانما يلاحظ مدركه ومستنده فان كان مشتملاً على موازين الحجية أخذ به، والا لم يؤخذ او لم يجب الاخذ به، وغالباً ما يكون المدرك لهكذا اجماعات هي روايات واردة عن المعصومين(ع)  قد تكون صحيحة او قد تكون ضعيفة.

 

ثم ان اغلب الاجماعات المذكورة في الكتب هي اجماعات منقولة وغير محصلة؛ وبالتالي فهي لا تكون ملزمة ولا تكون لها حجية تامة او مستقلة، ولذلك يخالفون الكثير منها اذا كانت هناك ادلة اخرى في مقابلها، وهي كما قلنا غير ملزِمة على اية حال مادامت منقولة.

 

3 - ان الاخباري يعترض على الاصولي في اجراء الاصول العملية من قبيل البراءة، ويجعل ذلك اجتهاداً في مقابل النص. وهذا الاعتراض غير دقيق، ولم يصدر هكذا اجتهاد من محققي الاصوليين ، اذ كيف يترك الفقيه رواية معتبرة سنداً ودلالة، ويجري بدلا عنها اصلا عملياً ؟! ولئن حصل ذلك من البعض في موارد معينة فلعله لاجل عدم اقتناعه بهذه الرواية، او كانت لديه حجة اقوى معذرة له امام الخالق عز وجل، والمسلم كما ورد في نصوص المعصومين (ع) محمول على الصحة ؛ ولا يجوز اتهامه او الشك في نيته ما لم تكن هناك بيّنة واضحة على الخلاف. بل ان مثل هذه التصرفات تحصل من كبار الاخباريين الذين قد يُعرضون عن رواية بحملها على التقية او غير ذلك.

 

 وعلى اية حالة فان الاصولي يعتمد على كتب الحديث الموجودة كما يعتمد عليها الاخباري، واذا كان الاخير يعتقد بحجية الكتب الاربع، فان الاصولي يعتقد ان من واجبه الشرعي امتثال النصوص الواردة عن المعصومين (ع) في وجوب التثبت فيما يُنقل ويروى عنهم ، ووجوب التحقق فيما يصل الينا من اخبار ، وهذا ينطبق على الكتب الاربع وغيرها.

 

واما سائر مباحث علم الاصول فالمتأمل المنصف يجد ان اغلبها مباحث تنظيرية؛ وقد لا يوجد لبعضها تطبيق عملي. وغالباً ما يقوم الجانب التنظيري على مبدأ البحث عن الحل البديل عند فقدان العلاج الاصيل، وهكذا تترامى البحوث سعة وامتداداً لاجل تنمية الملكة وتقوية روح البحث والتحقيق قربة الى الله تعالى . والاّ فالفقيه الاصولي لا يحتاج عملياً الى جملة من المباحث الاصولية لانه يكتفي بالروايات المعتبرة سنداً ودلالة وهي كثيرة وشاملة ولله الحمد، حتى ورد انه ما من واقعة الا ولها حكم قد يكون واقعياً او ظاهرياً.

 

فالاصولي مثلا يبحث عن امكانية اثبات البراءة العقلية ، فيما لو لم تكن هناك براءة شرعية، وهذا البحث علمي محض كما لا يخفى ؛ لان البراءة الشرعية واردة في جملة عن الاخبار المعتبرة، فلا تصل النوبة الى البراءة العقلية. مع الالتفات الى ان جملة من الاصوليين يبنون على ان الاصل هو الاحتياط بناء على مسلك حق الطاعة للمولى عز وجل، حتى في الامور الظنية او المحتملة.

 

ولنضرب مثالاً حياتياً على ذلك فنقول : لو سمعتً احداً يقول لك: يجب ان تنقذ الغريق الموجود امامك؛  ولو بشراء حبل او نحوه؛ فاذا لم تملك المال فاطلبه من الآخرين، واذا لم يأذنوا لك فخذه منهم بدون رضاهم، فهل يحق لك ان تدعي ان هذا الشخص يجوّز الغصب او السرقة ؟!

 

هذا هو حال الاخباريين حينما يتهمون الاصوليين بدون وعي او تحقيق. وهناك اتهامات اخرى ناتجة من ملاحظة تصرفات خاصة يمكن ان تصدرمن اي فقيه اخباري او اصولي، وتبقى تلك الاتهامات الناتجة من الافتراء والتزوير والانانية؛ تماما كما يتهم العامة شيعة أهل البيت (ع) بالشرك والعياذ بالله ، لأنهم يسجدون على التربة الطاهرة ، أو لأنهم يقبلون الضريح الطاهر للمعصوم عليه السلام تكريماً وحباً لنفس المعصوم عليه السلام لأجل أن الله تعالى اصطفاه واجتباه وفضّله على سائر مخلوقاته .