خطاب المرحلة (557) محكمة الضمير دليل على وجود محكمة القيامة

| |عدد القراءات : 865
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save
 

بسم الله الرحمن الرحيم

محكمة الضمير دليل على وجود محكمة القيامة ([1]) 

(وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (القيامة:2)

قيل ان (لا) زائدة للتأكيد وليست للنفي باعتبار ان الآية ظاهرة في إثبات القسم لا نفيه ولو بمعنى السياق، لذا وقيل هي (نافية) لكنها هنا ليست لنفي القسم وإنما كناية عن عظمة المقسم به أو وضوحه بحيث يستغنى عن القسم لإثباته وما يهمّنا هنا دلالة الآية على عظمة المقسم به وجلالة قدره وأهميته وهذا السياق متكرر في القرآن الكريم كقوله تعالى (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) (الواقعة:75-76).

ويشير القرآن الكريم إلى ثلاث مراتب من النفس الإنسانية:

1- المطمئنة التي اكتملت فيها العبودية لله تعالى والطاعة والتسليم له تبارك وتعالى عن رضا واطمئنان، قال تعالى (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً) (الفجر:27-28).

2- الامّارة بالسوء التي دأبت على الاستسلام للشهوات واتباع الاهواء فهي تأمر بالسوء وتدعو إلى الفحشاء والمنكر من دون أي رادع، قال تعالى (إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ) (يوسف:53) وقال تعالى (وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا) (يونس:7) وقد تتمرد هذه النفس أكثر فتصبح داعية للفساد والانحراف والضلال وساخرة من أهل الطاعة والايمان ومستهزئة بالدين، هذه النفس التي يصفها الامام السجاد (×) من خلال الشكوى منها، ويطلب من الله تعالى العون عليها (إلهِي إليْكَ أَشْكُو نَفْساً بِالسُّوءِ أَمَّارَةً، وَإلَى الْخَطيئَةِ مُبادِرَةً، وَبِمَعاصِيكَ مُولَعَةً، وَلِسَخَطِكَ مُتَعَرِّضَةً، تسْلُكُ بِي مَسالِكَ الْمَهالِكِ، وَتَجْعَلُنِي عِنْدَكَ أَهْوَنَ هالِك، كَثِيرَةَ الْعِلَلِ طَوِيلَةَ الاَمَلِ، إنْ مَسَّهَا الشَّرُّ تَجْزَعُ، وَإنْ مَسَّهَا الْخَيْرُ تَمْنَعُ، مَيَّالَةً إلَى اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ، مَمْلُوَّةً بِالْغَفْلَةِ وَالسَّهُوِ، تُسْرِعُ بِي إلَى الْحَوْبَةِ، وَتُسَوِّفُنِي بِالتَّوْبَةِ) ([2]).

3- النفس اللوّامة وهي عنوان البحث وهي بين المرتبتين ويمكن ان ترتقي إلى الأولى او تتسافل إلى الثانية فهي نفس ليست بعيدة عن الصلاح ومحبّة للطاعة الا انها تضعف احياناً فتقود صاحبها الى الوقوع في المعاصي والذنوب فتحصل عندها حالة اللوم وتأنيب الضمير والندم فتحاسب نفسها باستمرار.

وقد تحصل هذه الحالة من اللوم لأجل التقصير في عمل الخير وعدم الاستثمار الأقصى للنعم الممنوحة له ولفرص الطاعة المتاحة اذ كان يمكنه الاستزادة منها ولم يفعل، وهذا الشعور يصحب الانسان إلى يوم القيامة فيشعر بالندم والغبن على تفريطه ببعض الفرص، لذا كان من اسمائه (يوم التغابن).

وهذه الحالة من تأنيب الضمير والشعور بكربة ([3]) في القلب إنما تحصل بقرار تصدره محكمة الوجدان وهي نعمة من الله تعالى على الانسان ودليل من باطنه ينبهه الى الوقوع في المحذور واقترابه من الخطر ويحذرّه من عاقبته ويدعو الى التصحيح والمعالجة، وهذا يعني ان ضميره لا زال حياً ويمكن الاطمئنان إلى حركته وقراراته ولذا يحيل إليه النبي (|) عند الحكم في الأمور المشتبهة حيث روي قوله (|) (استفت قلبك، استفت نفسك، البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك)([4]) .

فعلى الانسان ان يبقي هذا الضمير حياً ليكون له واعظاً من نفسه ولا يميته باتباع الشهوات والانغماس في الرذائل والإصرار على الخطأ والخطيئة والتعصب والانانية. روي عن الامام السجاد (×) قوله (ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَا تَزَالُ بِخَيْرٍ مَا كَانَ لَكَ وَاعِظٌ مِنْ نَفْسِكَ وَمَا كَانَتِ الْمُحَاسَبَةُ مِنْ هَمِّكَ)([5])، وروي عن الامام الباقر (×) قوله (من لم يجعل الله له من نفسه واعظا، فإن مواعظ الناس لن تغني عنه شيئاً)([6]).

وهذا يبين احد وجوه البلاغة في الإتيان بهذا القسم مع القسم بيوم القيامة في الآية السابقة (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) فان محكمة الضمير صورة مصغرة للمحكمة الإلهية الكبرى فالحاكم واحد وهو الله تعالى، والشهود نفس الشهود وهم الجوارح والضمير، والقضايا حاضرة لا تحتاج الى تهيئة و اعداد وجمع المعلومات، والمجازاة نفسها في الروح بل والجسد حيث يقوم بعض المجرمين أحياناً بإيذاء جسده ندماً ولوماً مضافاً إلى كونها محكمة حق لا جور فيها ولا تحتاج الى مراجعة واستئناف للحكم (وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (الرعد:41).

فهذه المحكمة في باطن الانسان دليل وجداني وفطري على وجود يوم القيامة والحساب والجزاء حيث لم يخلو الانسان من هذه المحكمة وهو ذرة صغيرة فكيف يعقل خلو الوجود الواسع من المحكمة الإلهية.

ويظهر ان هذه الملازمة معروفة حتى لغير المؤمنين لذا فإنهم لكي يتخلصوا من عذاب الضمير وتأنيبه عند انغماسه في الشهوات والظلم والعدوان يخدعون أنفسهم بنفي وجود يوم القيامة والحساب والجزاء، هذا ما أكدته بعض الآيات التالية لهذه (بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ) (القيامة:5) أي انه يكذب بما هو واقع امامه من البعث والحساب ليستمر على فجوره والتحرر من الالتزام بالشريعة.

ويحسّ الانسان في وجدانه بهذا الجزاء قبل يوم القيامة، إذ إن هذا الضمير ينشر السعادة والانشراح والاطمئنان في باطن الانسان عندما يقوم بعمل صالح وتزداد السعادة كلما ازداد العمل أهمية وقيمة وكأنه يعجّل المكافأة لصاحبه، واذا صدر منه فعل سيء فانه سيبادر الى معاقبته بألم وعذاب في القلب لا يلبث ان ينعكس على شكل اعراض مرضية في البدن وقد يلجأ صاحبه الى تسليم نفسه للعقوبات كالسجن في المحاكم الوضعية ليتخلص من الألم وعذاب الضمير.

ولأهمية هذا الضمير الحي ودوره في تربية الانسان وتقويم سلوكه وتخليص صاحبه من اثار اعماله فقد استحق القسم به.

إذن علينا أن نمثل امام محكمة الوجدان والضمير يومياً وباستمرار، ونبادر إلى إثبات برائتنا ونقاوتنا أمام هذه المحكمة قبل يوم القيامة لنذهب إلى لقاء ربّنا ونحن مبرّئون من الذنوب بفضل الله ورحمته، ولنشعر بالسعادة والاطمئنان ولذا ورد التأكيد على محاسبة النفس باستمرار كقول رسول الله (|) (حاسبوا انفسكم قبل ان تحاسبوا، وزنوها قبل ان توزنوا) ([7]) وقال الامام الكاظم (×) (ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم فان عمل حسنة استزاد الله تعالى وان عمل سيئة استغفر الله تعالى) ([8]) .

وتصوروا لو أن الأمة عملت بهذا المنهج وهذه الثقافة فكيف ستكون سعيدة ناجحة لكن مشكلتنا الرئيسية في غياب هذه المبادئ الأخلاقية.



([1]) كلمة ألقاها سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على طلبة البحث الخارج بمناسبة بدء الموسم الدراسي يوم الأحد 10 / شوال / 1439 المصادف 24 / 6 / 2018

([2]) الصحيفة السجادية، مناجاة الشاكين

([3]) أشار السيد الشهيد الصدر الثاني (+) إلى هذا المصطلح مراراً في كتاب (قناديل العارفين)

([4]) كنز العمال: ٧٣١٢

([5]) وسائل الشيعة: 16/96

([6]) تحف العقول: ٢٩٤

([7]) وسائل الشيعة ج16ص95

([8]) كتاب الزهد : 76 | 203