خطاب المرحلة (505) إعداد القوة في السيرة النبوية المباركة
إعداد القوة في السيرة النبوية المباركة
(وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) ([1])
(الأنفال:60)
(وَأَعِدُّواْ) صيغة أمر وإلزام مثل (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ) وغيرها، والإعداد للشيء تهيئة المقدمات واللوازم التي يتطلبها تحقيق ذلك الشيء، كإعداد السلّم للصعود و الماء للغسل وإعداد لوازم السفر قبل الشروع فيه وهكذا.
(لَهُم) مجملة فلم يحدّد الذين يتم الاعداد والاستعداد لهم بغض النظر عن إعادة الضمير لسياق الآيات السابقة لإمكان النظر الى الآية مستقلاً، و بذلك ترك الأمر مفتوحاً لكل من بينت الآيات الكريمة و الاحاديث الشريفة انه عدو تلزم مواجهته والاستعداد له سواء كان عدواً مادياً محسوساً كالمجرمين و الطواغيت و المفسدين و كالقوى الظالمة المعتدية أو غير محسوس لكنه يدرك بالوجدان والبصيرة كالشيطان والنفس الأمارة بالسوء، والعدو الاول قد يكون معروفاً معلوماً معلناً بعداوته وقد يكون متخفياً كما في بقية الآية (وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ) مثل المنافقين المتظاهرين بلباس الدين، وقد لا يكون عدواً فعلياً الآن ولكنه سيكون كذلك لاحقاً لان الاختلاف في الافكار و الايدولوجيات والطبائع وتعارض المصالح سنة جارية بين بني البشر فيؤدي ذلك الى الصراع والتنازع إلا ما رحم ربي، فالأمر في الآية واسع و شامل إذ يجب أن يكون الاستعداد تاماً بلحاظ كل هذه الاحتمالات.
(مَّا اسْتَطَعْتُم) أي بكل ما تستطيعون من الإعداد وكل ما تسمح به قدراتكم وقد يكون شيء الآن فوق طاقتكم لكنكم إذا عملتم بكل ما تستطيعون الآن فستصبح لكم القدرة حينئذٍ على إعداد ما لم تكن تستطيعونه اليوم، نظير ما ورد في تحصيل التقوى قال تعالى (اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) (آل عمران:102) وهو أمر متعذر على الناس فجاء قوله تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن:16) ليبين وسيلة الوصول الى تلك النتيجة فالآية الأولى استراتيجية تبين الهدف الذي يراد الوصول اليه والثانية تكتيكية في المصطلح تبين كيفية الوصول إلى ذلك الهدف عبر مراحل، فإذا عملت الآن بما تستطيع من التقوى رزقك الله تعالى درجة أعلى منها وصرت تستطيعها بعد إن لم تكن، فإذا عملت بها وهبك الله تعالى أعلى منها حتى تصل الى نتيجة (حق تقاته).
(مِّن قُوَّةٍ) من بيانية وأطلقت كلمة (قُوَّةٍ) لتشمل كل أشكال ومصاديق القوى فهي لا تختص بالقوة العسكرية بل تشمل القوة الاقتصادية والسياسية والبشرية والعلمية والإعلامية والاجتماعية والتنظيمية وتشمل أيضاً ما يسمى بالقوى الناعمة التي تناولناها في عدة احاديث، حتى ان بعض الروايات جعلت من مصاديق القوة صبغ اللحية بالسواد لإظهار الشباب و الفتوة امام الاعداء فيحصل لديهم الخوف و الرعب ففي الكافي ان الحسين بن علي (عليهما السلام) أختضب بالسواد فسألوه عن ذلك فقال (أمر رســول الله (’) في غزاة غزاها أن يختضبوا بالسواد ليقووا به على المشركين)([2]).
وعلى رأس هذه القوى، القوة المعنوية والروحية التي هي أصل القوى كالإيمان و الصبر و المجاهدة و التوكل و الدعاء و التوسل و (خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) (البقرة197) و أنما كانت أصل القوى لأن بها مواجهة أصل الاعداء النفس الامارة بالسوء و الشيطان (اعدى اعدائك نفسك التي بين جنبيك)([3]) (إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً) (الإسراء53) حتى سّمى النبي (’) هذه المواجهة بالجهاد الأكبر ([4]) .
كما إن كل من هذه القوى لها مصاديق تتناسب مع كل زمان فالقوة العسكرية في زمان نزول الآية كان يراد بها السيف والقوس والرمح ونحو ذلك، لذلك وردت عدة روايات تطبق القوة في الآية على رمي السهام و ركوب الخيل، واليوم تشمل الطائرات المقاتلة والسفن الحربية والصواريخ العابرة وتأسيس الأكاديميات العسكرية التي تخرج القادة و مراكز تدريب الجنود وغير ذلك.
والخطاب واضح في الآية انه يطالب الامة بأن تقوم هي بإعداد القوة و ليس بأن تستوردها من الغير و تدّعي إنها تمتلك القوة ، أما إذا لم يعدّوا هذه القوى و لم يجهزوا انفسهم بها ولم يتمتعوا بالاكتفاء الذاتي فأنهم سيبقون تابعين لمن يزودهم بها و تمهّد الطريق لاستعبادهم. و ستكون قراراتهم مرتهنة لأولئك الذين يستضعفونهم ويملون عليهم ارادتهم.
واختيار هذه التعابير المطلقة القابلة للانطباق على كل زمان مظهر من مظاهر الاعجاز القرآني و قدرته على مخاطبة كل الأجيال حيث ينسجم مع آليات عصر النزول ويفهمه أهله وبنفس الوقت ينسجم مع معطيات القرن الواحد والعشرين والمستقبل ليكون شاهداً على خلود القرآن وملائمته لكل زمان ومكان.
ومن الواضح ان هذا الأمر بالإعداد عام بجميع الاتجاهات ،فهو عام بلحاظ الافراد لانه موجه لجميع الناس لأن المشكلة التي يراد معالجتها بهذا الأعداد - و هي مواجهة عدو الله وعدوكم - يعاني منها كل الناس، و الثمرات المرجوّة منه تكون في مصلحتهم جميعاًَ، و الأمر عام أيضاً بلحاظ الأزمان ومصاديق القوة فأهل كل زمان مطالبون بإعداد كل ما يستطيعون من أشكال القوة التي تناسب زمانهم و أوضاعهم مما أشرنا اليها لتحقيق العدالة في الأرض وإقامة دولة الانسان التي تحفظ فيها حقوق كل الناس بصفتهم الانسانية وليس حكومة الاهواء والشهوات والنزوات المليئة بالظلم والفساد الذي يعمّ كل الناس وهذه كلها اهداف انسانية يسعى كل الناس لتحصيلها، لذا كان الخطاب عاماً للجميع كما ان البدن إذا داهمه عدو استعد بتمامه لمواجهته كما في الحديث الشريف (مَثَلُ المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى)([5]).
والغرض من إعداد القوة ليس العدوان على الناس ونهب ثرواتهم واستعبادهم كما يفعل الغرب اليوم و سائر القوى الطاغوتية المتفرعنة عبر التاريخ ولا للظلم ولا الفساد ولا البغي و الاستعلاء في الأرض وإنما (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ) لإخافة أعداء الله والإنسانية الذين يعتدون على كرامة الانسان ومقدساته ويحرمونه من حقوقه ويمنعون الناس من اعتناق العقيدة الحقة بحرية، وهذه الاخافة لردعهم عن التفكير بالعدوان على الناس الآمنين وإنتهاك حرماتهم، فهو إعداد دفاعي وإحترازي: لأن كثيراً من الناس المتجبرين والطواغيت لا يردعهم عن ظلمهم وطغيانهم إلا إعداد القوة التي تخيفهم وترعبهم، وبنفس الوقت تشعر هذه القوة الاتباع بالأمن وحرية ممارسة إقامة النظام الإسلامي في حياتهم وشعائرهم الدينية، وتفتح الطريق واسعاً لمن يريد أن يتعرف على هذا الدين او يعتنقه من دون أن يمنعه أحد، وبنفس الوقت هو إعداد حركي فهذه القوة تُعدُّ لتحرير الإنسان لإنها ترفع العوائق عن حركة نشر الإسلام وإيصاله الى كل الناس، فهذه كلها من ثمرات قوة ومنعة وعزة المجتمع الإسلامي.
ومن هذا يظهر ما في التعبير (وَأَعِدُّواْ لَهُم) من لمسة وجدانية عاطفية رقيقة مليئة بالرحمة فهذا الاعداد (لَهُم) أي لمصلحة الأعداء وليس (عليهم) كما في الآية (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)(آل عمران/133) تقول أعددت لك كذا فهذا فضل وإحسان تقدّمه للآخر، فهذا الاعداد للقوى هو لمصلحة الأعداء لأنه يردعهم عن المضي في تنفيذ النوايا والمشاريع السيئة التي يريدونها فهو يحميهم من أنفسهم الأمارة بالسوء و من كيد الشيطان الرجيم الذي يريد ان يزيدهم ذنوباً الى ذنوبهم و يغرقهم في دركات الجحيم.
اعداد القوة في السيرة النبوية المباركة:
ولنأخذ تطبيقات لهذه الآية من سيرة النبي الأكرم (’) ولو باختصار بحسب ما يناسب الوقت.
فأول إعداد كان لشخصية القائد وصناعته على نحو يفي بمتطلبات أداء الرسالة العظيمة الخالدة وليكون مؤثراً في الاتباع والاعداء على حد سواء والشواهد كثيرة في حياته الشريفة، وهذا الاعداد تولاه الله تبارك وتعالى (ادبني ربي فاحسن تأديبي)([6]) (إن الله أدب نبيه ثم فوض اليه أمر الخلق)([7]) وهو (’) أولى بخطاب (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (طه:41) (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (طه:39)
والاعداد الثاني للمال اللازم للتحرك بالرسالة ورعاية الاتباع وكفالتهم مع عوائلهم بكافة احتياجاتهم ومواجهة مؤامرات الاعداد وحصارهم و مقاطعتهم وهذا ما قامت به أم المؤمنين خديجة (÷) زوج النبي (’) فصرفت كل أموالها العظيمة في سبيل الله.
والاعداد الثالث للسند القوي الذي يحميه ويأوي اليه إذا تكالب الأعداء (أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) (هود:80) وتكفل به عمه أبو طالب رضوان الله تعالى عليه.
و الإعداد الإلهي الآخر كان بإيجاد الذراع القوي الشجاع و الجندي المتفاني في طاعة ربه تعالى ونبيه (’) و الذبّ عنه و إرعاب الأعداء و منعهم من الوصول اليه و هو أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (×) ، قال الشاعر :
فلولا أبو طالب و ابنه لما مثل الدين شخصاً فقاما.
فهذا كله كان قبل إعلان الرسالة، ثم ركزّ بعد إعلانها على إعداد الاتباع عقائدياً بحيث يذوبوا في عقيدة التوحيد والرسالة النبوية المباركة ويندكوا فيها واستمر هذا الاعداد طيلة عمر الدعوة الإسلامية في مكة التي استمرت ثلاث عشرة سنة وكان غذاء هذا الاعداد القران المكي أي السور والآيات القرآنية التي نزلت في مكة وسياقاتها شاهدة على ذلك.
ثم تحرك النبي (’) لإعداد الوطن و الحاضنة لهذه الدعوة الجديدة لان البقاء طويلاً في ضمن المجتمع المعادي يؤدي الى ذوبان العقيدة في النفوس وتشتت الاتباع واستضعافهم خصوصاً بعد رحيل القائد العظيم، و لما يأس من تحقيق ذلك في مكة توجّه إلى الطائف اولاً ولم تفلح المحاولة ثم قيض الله تعالى له اهل يثرب فآمنوا به وبايعوه على النصرة بالنفس و المال و الولد في العقبة الأولى و الثانية حتى هاجر (’) اليها واقام مجتمعه الايماني هناك وأصبحت المدينة المنورة وطن الدعوة الجديدة وعاصمتها وحضنها ومنطلق حركتها.
وتلاه اعداد المجتمع لحمل الرسالة وتأسيس امة قوية متحدة فآخى بين المهاجرين اولاً ثم اخى بين المهاجرين والانصار وقضى على أسباب النزاع التي كانت داخل مجتمع يثرب بين الاوس والخزرج (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) (آل عمران:103).
ومن ثم الاعداد السياسي للدولة الجديدة من خلال عقد المعاهدات والاتفاقات التي تكسب بعض الجهات الى جانبه او تحّيدهم على الأقل ولو لفترة لتجنب فتح عدة جبهات عليه في آن واحد، وهو في بداية تأسيس دولته المباركة .
ورافق ذلك الاعداد العسكري والتعبئة الميدانية ((والمعروف ان النبي (’) بلغه ان سلاحاً جديداً مؤثراً صنع في اليمن أيام معركة حنين، فأرسل النبي (’) جماعة الى اليمن لشرائه فوراً))([8]) .
وكان ذلك كله مقترناً بالتربية الروحية من خلال الآيات القرآنية التي كانت تنزل تباعاً بحسب الحكمة الالهية و استعداد الأمة ليكون أجدى و أقوى تأثيراً (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً) الفرقان32 .
ان بعض المبهورين بالغرب والذين يريدون الانفلات واتباع الشهوات يقرنون بين الدين والتخلف او يعدّون الالتزام بالدين سبباً للتأخر ويقولون ان اوربا ما تقدمت الا حين انسلخت عن الدين، وهذا نابع من الجهل فان المسلمين لم ينهزموا و لم يتخلفوا وتستعبدهم الأمم الأخرى الا حينما تركوا اسلامهم وتخلوا عن العمل بتعاليمه ومنها هذه الآية الشريفة ولو عملوا بهذه الآية الكريمة لسادوا العالم كما قدّر لهم وكما وعد الله تعالى بذلك وسيتحقق على يد الامام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه).
([1]) ألقيت بتاريخ 30/ربيع الأول/1438 الموافق 30/12/2016
([2]) الكافي: 6/481 ح4.
([3]) المجلسي- محمد باقر- بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة- ج67 ص36.
([4]) عن أبي عبد الله × أن النبي ’ بعث سرية فلما رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، فقيل: يا رسول الله ما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس. الكافي : وجوب جهاد النفس، وقد وردت بسند اخر عن امير المؤمنين علي (×).
([5]) بحار الأنوار: ج58، ص150.
([6]) بحار الأنوار: ج 16، ص 210.
([7]) الكافي: 1/266، ح4.
([8]) تفسير الأمثل :4/104.