خطاب المرحلة (486) (قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي)

| |عدد القراءات : 1046
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save
 

(قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي)([1])

(يوسف/108)

 

تبّين الآية واحدة من وظائف الأنبياء والرسل والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) ومن تبعهم وحمل رسالتهم من العلماء العاملين الرساليين، وهي الدعوة الى الله تبارك وتعالى قولاً وفعلاً وعرض المشروع الإلهي على الناس واقناعهم به وهدايتهم.

وتبّين الآية ايضاً واحدة من مميزات هؤلاء القادة وخصائصهم التي تميزّهم عن غيرهم من الزعامات وتُعرِّف الأمة كيف يفرزون قياداتهم الحقة عن طلاب الدنيا ولو بأسم الدين.

وهذه الخصوصية هي الصراحة والشفافية مع الأمة (هَـذِهِ سَبِيلِي) وامتلاك الرؤية الثاقبة والنظر الدقيق ووضوح الأهداف وآليات العمل لديه المعبّر عنها في الآية بـ (البصيرة) وهي البوصلة التي ترسم المسار الصحيح للإنسان في كل حركاته وسكناته، وهذه البصيرة من الله تعالى والى الله تعالى، وما دام على بصيرة من ربّه فلا تخبّط في مسيرته ولا تناقض في أهدافه ولا تحرّكه الشهوات والانفعالات ولا تؤثر عليه هتافات الناس ولا تزويق المتزلفيـن

ولا تخدعه المكائد والحيل وهذا لا يُدرك إلا بلطف الله تعالى.

والبصر والبصيرة أصلهما واحد وهي النظر والرؤية المدركة المنتجة للعلم والمعرفة وليست كل رؤية ونظر قال تعالى (وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ) (الأعراف/198) فهم كالحيوانات لها عيون تنظر بها لكنها لا تفيدها علماً ولا معرفة، عن النبي (’) قال (ليس الاعمى من يعمى بصره، إنما الاعمى من تعمى بصيرته)([2] ) وكم من حالة او موقف ينظر اليه كثيرون لكن القليل ممن ينظر اليه بفكر واعتبار وتأمل (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا) (الأعراف/179) وإن كانت مفتوحة وينظرون بها الى الأشياء، وإنما يستفيد مما حوله في الحياة من كان له بصرٌ وبصيرة (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ) (آل عمران/13) وليس لكل من لديه عين ينظر بها، وعن أمير المؤمنين (×) قال (بالاستبصار يحصُلُ الاعتبار)([3] ).

والفرق بين البصر والبصيرة ان الأول بالعين والثانية بالقلب والعقل فقوله تعالى (عَلَى بَصِيرَةٍ) أي على حجة بينةٍ واضحةٍ من ربي (وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَـذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (الأعراف/203).

واضافة (وَمَنِ اتَّبَعَنِي) اليه (’) تشريف لهم بالحاق دعوتهم بدعوته المباركة، وأعلى مراتب البصيرة التامة ما عند المعصومين (^) لذا فأنهم القدر المتيقن من قوله تعالى (وَمَنِ اتَّبَعَنِي) وفي أصول الكافي بسنده عن أبي جعفر (×) في تفسير هذه الآية قال: (ذاك رسول الله (’) وأمير المؤمنين (×) والاوصياء (^) من بعدهما)([4]).

فهؤلاء القمم من أهل البصائر هم من يجب اتباعهم والأخذ عنهم (أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (يونس/35).

ثم تتفاوت مراتب البصيرة عند اتباعهم (صلوات الله عليهم أجمعين) في حمل الرسالة المباركة والدعوة الى الله تعالى بحسب درجة تقواهم وقربهم من الله تعالى وبحسب نقاوة فطرتهم وسلامة عقولهم وتفكيرهم وطهارة نفوسهم وقلوبهم (بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) (القيامة/14)، فهذه باختصار المقتضيات الذاتية أي من نفس الانسان لتحصيل البصيرة وتهيئة الانسان نفسه لها وهي (التقوى، طاعة الله تعالى، نقاء الفطرة، سلامة العقل والفكر، طهارة النفس والقلب).

   وخير وسيلة لتحصيل البصيرة التدبر في القرآن الكريم ومعرفة آياته، وقد وصف الله تعالى كتابه الكريم بهذا، قال تعالى (قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ) (الأنعام/104) وقال تعالى (هَـذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (الأعراف/203) وقال تعالى (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ) (الجاثية/20) وقال تعالى (بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (القصص/43)،وروي عن أمير المؤمنين (×) قوله (بالهدى يكثُرُ الاستبصار)([5]).

ومن أهم وسائل تنوير البصيرة مراقبة النفس وإصلاح عيوبها وأخطائها، عن أمير المؤمنين (×) قال (أبصر الناس من أبصر عيوبه وأقلع عن ذنوبه)([6]) وعنه (×) قال (ألا و إنّ أبصر الأبصار ما نفذ في الخير في طرفُه، ألا إنّ أسمع الأسماع ما وعى التّذكير و قَبِلَه)([7] ).

لذا لا نستغرب ممن فقد هذه الأدوات لتحصيل البصيرة وتنويرها أن يضلَّ بنفس القرآن الكريم الذي هو زادُ المستبصرين، ويستعمل القرآن نفسه لإضلال الناس وصرفهم عن اهل البصيرة، روي في الدر المنثور في تفسير قوله تعالى (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ) (الأعراف/202) بسنده عن عمر بن الخطاب قال: كنا عند رسول الله (’) مجتمعين وأنا أعرف الحزن في وجهه فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! قلت: يا رسول الله! إنا لله وإنا إليه راجعون، ماذا قال ربنا؟ قال: أتاني جبريل آنفاً فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، قلت: أجل، إنا لله وإنا إليه راجعون، فمم ذاك يا جبريل؟ قال: إن أمتك مفتنة بعدك بقليل من الدهر غير كثير، فقلت: فتنة كفر أو فتنة ضلالة؟ قال: كل ذلك سيكون، قلت: ومن أين يأتيهم ذلك وأنا تارك فيهم كتاب الله؟ قال: بكتاب الله يضلون، وأول ذلك من قبل قرائهم وأمرائهم، يمنع الأمراء الناس حقوقهم فلا يعطونها فيقتتلون ويتبع القراء أهواء الأمراء فيمدون في الغي ثم لا يقصرون، قلت: يا جبريل؟ فبم سلم من سلم منهم؟ قال: بالكف والصبر، إن أعطوا الذي لهم أخذوه وإن منعوه تركوه)([8]).

لقد عانى النبي (’) والأئمة (^) من فقدان البصيرة لدى أكثر الناس (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (يوسف/103) وابتلي أمير المؤمنين (×) بحرب أناس يحوطون بالجمل ويتبركون بخروجه ويشمونه ويقولون ما أطيب ريح روث جمل أمّنا أم المؤمنين، وابتلي (×) بقتال اناس في صفين لا يفرقّون بين الناقة والجمل ويصدّقون كل شيء يقال لهم، ومثل هؤلاء الاقوام من فاقدي البصيرة موجودون في كل زمان ومكان يُبتلى بهم القادة المصلحون ويكونون عقبة كؤود في طريقهم.

ولذا كان الأئمة (^) يشكون من ندرة أهل البصيرة في اتباعهم، ففي الحديث المعروف لأمير المؤمنين (×) مع كميل (يَا كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ إِنَّ هَذِهِ اَلْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا) الى أن قال (×) (إن ههنا لعلماً جماً - وأشار إلى صدره - لم أصب له خزنة بلى أصيب لقنا غير مأمون، مستعملا آلة الدين في طلب الدنيا، يستظهر بحجج الله على أوليائه وبنعم الله على معاصيه أو منقادا لحملة الحق (4) لا بصيرة له في أحنائه، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، اللهم لا ذا ولا ذاك، أو منهوما باللذة  سلس القياد للشهوة، أو مغرما بالجمع والادخار ليسا مـن رعــاة الديــن ولا مــن ذوي البصائر واليقين)([9] ).

إن أوضح ما يمّيز الاتباع الحقيقيين للنبي (’) وآله الكرام (^) أنهم على بصيرة من امرهم ومنهم أبو الفضل العباس بن أمير المؤمنين (×) فمما خاطبه به الامام الصادق (×) في زيارة وارث المعروفة قوله (وأنك مضيت على بصيرة من امرك مقتدياً بالصالحين ومتبعاً للنبيين) وهكذا كان أصحاب ابي عبد الله (×) المستشهدين بين يديه يشهد بذلك العدو قبل الصديق، فقد روى أصحاب التواريخ والمقاتل انه لما كثرت المبارزة بين أصحاب الامام الحسين (×) وجيش يزيد وكان النصر لأصحاب ابي عبد الله، صاح عمرو بن الحجاج الزبيدي (يا حمقى أتدرون من تقاتلون؟ فرسان المصر وأهل البصائر وقوماً مستميتين لا يبرزَّن لهم منكم أحدٌ، والله لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم)([10]).

وهكذا إذا كنّا صادقين في موالاتنا للإمام الحسين (×) ونصرتنا له (ونصرتي لكم معدّة) (يا ليتنا كنا معكم) وصادقين في انتظار امامنا المهدي الموعود (×) والمشاركة في بناء دولته المباركة فعلينا أن نستزيد من البصيرة في علاقتنا مع ربنا، وهذا ما ورد في أدعية الغيبة وتعجيل الظهور، وفي احدها (وارزقنا مرافقة اوليائك ووليك الهادي المهدي الى الهدى وتحـت لوائـه

وفي زمرته شهداء صادقين على بصيرة من دينك إنك على كل شيء قدير)([11]).



([1]) كلمة ألقاها سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) يوم الاحد 14 شعبان /1437 المصادف 22/5/2016 بمناسبة الزيارة الشعبانية وذكرى ميلاد الامام المهدي (×)..

([2]) كنز العمال: 1220.

([3]) غرر الحكم/4351.

([4]) البرهان في تفسير القرآن: 5/178.

([5]) غرر الحكم: 4816.

([6]) غرر الحكم: 3061.

([7]) نهج البلاغة: الخطبة/105.

([8]) الدر المنثور للسيوطي: 3/633.

([9]) نهج البلاغة (من كلامه × لكميل بن زياد).

([10]) مقتل الحسين (×) للخوارزمي: 2/15.

([11]) البحار :98/302 عن اقبال الاعمال والبلد الأمين والتهذيب.