خطاب المرحلة (471)وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ

| |عدد القراءات : 832
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save
 

خطاب المرحلة (471) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ

وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ([1])

(الزمر 67) (الانعام 91) (الحج 74)

أي ما عرفوا الله حق معرفته ولا أعطوه المنزلة التي يستحقّها ويتميّز بها عن غيره من المخلوقات، ولا أحسنوا فهم صفاته وأسمائه المباركة، ففي الآية عتابٌ وتوبيخٌ لهذا التقصير في إدراك حقوق الربوبية ووظائف العبودية أمام الله تبارك وتعالى، وبنفس الوقت تستبطن الآية الدعوة لتحصيل هذه المعرفة، مع الاعتراف بالعجز عن إدراك الحقيقة الإلهية، روى في الكافي عن الفضيل بن يسار، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: (إن الله لا يوصف، وكيف يوصف وقد قال الله في كتابه (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) فلا يوصف بقدر الا كان أعظم من ذلك)([2]) وفي الحديث المشهور عن رسول الله (’) (ما عرفناك حقَّ معرفتك، وما عبدناك حقَّ عبادتك)([3])، وهذا معنى للتكبير (الله اكبر) أي أكبر من أن يوصف، إذ ليس لله تعالى قدر، وإنما يقدِّر المخلوقون (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرا)  (الطلاق/3).

بل نحن عاجزون عن إدراك اسمٍ من اسمائه تعالى وصفةٍ من صفاته كالمنعم، قال الله تعالى (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا) (النحل/18)، روي عن الإمام الصادق (×) أنه قال: (أوحى الله تعالى الى موسى (×): يا موسى اشكرني حقَّ شكري، فقال: يا ربِ كيف أشكرك حقَّ شكرك، وليس من شكرٍ أشكرك به الا وأنت أنعمت به عليَّ؟ فقال: يا موسى شكرتني حق شكري حين علمت أن ذلك مني)([4]) وهذا فضلٌ من الله تعالى وكرمٌ حين جعل الاعتراف بالعجز أداءاً للحق، فإذا كنّا عاجزين عن معرفة اسم من اسمائه فكيف نقدر على معرفته حق المعرفة سبحانه وتعالى.

فالاستغراب والزجر والتوبيخ ليس من عدم معرفة الخلق للخالق حق معرفته، لانهم عاجزون عن بلوغ ذلك، ولكن الاستغراب والتوبيخ من عدم سعيهم لتحصيلها بالمقدار الممكن لهم أولا ولاستكبارهم على ربّهم مع هذا العجز ثانياً

والآية شاملة لكل الناس فكل الناس ما قدروا الله حَقَّ قدره، وكان النبي وأهل  بيته( صلوات الله عليهم اجمعين) الذين نخاطبهم بوصف (التامين في معرفة الله)([5]) اكثر الناس اقرارا بالعجز عن معرفة الله تعالى، لان الانسان كلما ازداد معرفة ازداد ادراكا لقصوره وتقصيره وخضوعه وتذلـله لله تعالى، وانما يستكبر الجأهل ون (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا) [الإسراء : 43]، نعم كما أن الناس على درجات متسافلة في عدم إعطاء الله تعالى حق قدره كذلك هم درجات متصاعدة في تعظيم قدر الله تعالى.

فبعض الذين ما قدروا الله تعالى حقَّ قدره أنكر وجوده تعالى وبعضٌ أشرك به غيره بل قدّموا غيره تعالى عليه فعبدوا الغير من دون الله تعالى فهؤلاء ما قدروا ربوبيته والوهيته حق قدرها، وبعض أنكر وحيه وبعثة الانبياء والرسل وانزال الكتب فهؤلاء ما قدروا لطفه ورحمته وحكمته وعلمه حق قدرها هذه الاسماء الحسنى التي تقتضي بعث الانبياء والرسل اذ ان الله تعالى يعلم ان الانسان عاجز عن الوصول بمفرده الى الكمال والسعادة ما لم يهده الله تعالى ببعث الانبياء وانزال الكتب، وان رحمته بعباده وحكمته تقتضيان ذلك ولا بخل في ساحته فكيف ينكرون بعث الانبياء والرسل.

وبعض أنكر المعاد يوم القيامة، فهؤلاء ما قدروا عدله وقدرته حق قدرها وبعض انكر صفاته وأسماءه كالقدرة على تدبير الكون والغلبة على اعدائه، قال تعالى (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الزمر 67).

وقال تعالى: (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج 74).

وقال تعالى: (وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) (الانعام 91) فينزِّه الله تعالى نفسه عن هذه الأباطيل (سبحانه و تعالى عما يشركون)، اذ حق قدره ان يوحَّد في الوهيته وربوبيته وفي انه المبدأ واليه المعاد وله ما بينهما، وننزهه عن كل نقص وانه لا يشبهه شيء (وتنزه عن مجانسة مخلوقاته).

وتذكر الآية في سورة الزمر مظهراً من مظاهر قدرته فالسماوات والأرضون كلها في قبضته وتحت هيمنته اللامحدودة كما أن الورقة حينما تُطوى تكون في القبضة فهو تعبير عن التسلط التام على السماوات والأرضين، وهو كذلك في الدنيا وليس في الآخرة فقط، لكن الفرق أنه تعالى في الدنيا خَوّل عباده ببعض الملك وأنحاء التصرفات، لكن الإنسان يأتي في الآخرة مجرداً عن كل ذلك (َتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ ) (الأنعام/94).

وننتقل الآن الى دائرة أضيق من الذين ما قدروا الله حق قدره وهم المؤمنون بالله تعالى فإنهم أيضا ما قدروه حق قدره بأشكال عديدة، أوضحها ارتكاب الذنوب والمعاصي فإن فيها استخفافاً بحقوق الربوبية، روى إسحاق بن عمار عن الإمام الصادق (×) حديثاً جاء فيه: (يا إسحاق خَفِ الله كأنك تراه فإن كنت لا تراه فإنه يراك، فإن شككت أنه يراك فقد كفرت وإن أيقنت أنه يراك ثم بارزته بالمعصية فقد جعلته أهون الناظرين اليك)([6]).

ومن أشكال (َمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) عدم مراعاة حقّ من أمر الله تعالى بمراعاة حقه، كالنبي (’) والأئمة المعصومين (^) والحجج من بعدهم، وفي موارد كثيرة اخرى وردت في الروايات.

 كقوله (×): (ومن لم يوقّر القرآن فقد استخف بحرمة الله)([7])، ومن مصاديق عدم توقير القرآن نبذ احكامه والعمل بالقوانين الوضعية التي يصنعها البشر .

وقوله (×): (الا ومن استخف بفقيرٍ مسلمٍ فقد استخف بحق الله والله يستخفُّ به يوم القيامة إلا أن يتوب)([8])

وفي الحديث القدسي قوله تعالى: (يا موسى إن من إعظام جلالي إكرام عبدي الذي أنلتُهُ حظاً من حطام الدنيا عبداً من عبادي مؤمناً قَصُرَتْ يدُهُ في الدنيا، فإن تكّبر عليه فقد استخف بعظيم جلالي)([9]).

ومن أشكال (َمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) الاعتقاد بأن الاسباب المخلوقة هي المؤثرة من دون الله تعالى كقول البعض (لولا فلان لما حصل كذا)، ومنها طاعة المخلوقين في غير ما امر الله تعالى به، أو تطبيق القوانين الوضعية في الحياة وترك القوانين الالهية وهكذا. وآية سورة الحج صريحة في ذلك فقد سبقها قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) ( الحج/73) فلا فرق بين من كان في الأزمنة السابقة يعبد الأصنام طمعاً في منفعة أو دفعاً لمضرةٍ بحسب اعتقاده وبين من يلتجئ اليوم الى المخلوقين من دون الله تعالى لنفس الغرض مهما كانت القوة والقدرة الموجودة عند المخلوقين كأمريكا التي يسمونها (القوة العظمى) أو أي دول أو شخصيات متفرعنة اخرى (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) فهؤلاء كلهم ما قدروا الله حق قدره (إنَّ الله لقوي عزيز) فالعزة والقدرة والعظمة لله تبارك وتعالى.

تتناول بعض الأحاديث القدسية هذه العلاقة غير المنصفة بين الناس وخالقهم، روى الإمام الرضا (×) أن أباه (×) قال: (قال رسول الله (’): يقول الله تبارك وتعالى يا بن آدم ما تنصفني أتحبّب اليك بالنعم، وتتمقّت اليّ بالمعاصي، خيري اليك نازل وشرك اليّ صاعد ولا يزال ملك كريم يأتيني عنك في كل يوم وليلة بعمل قبيح يا بن آدم لو سمعت وصفك من غيرك وأنت لا تعلم من الموصوف لسارعت الى مقته)([10])

هذا النقص والتقصير في معرفة الله تعالى بسبب الجهل أو التعصب أو اتبّاع الهوى أو التلقّي من وسائل غير صحيحة وبأدوات غير طاهرة يأخذه الإنسان الى يوم القيامة أيضاً ويجادل فيه (وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا)[الكهف : 54] فيريد أن يعرف ربه من خلال تلك القنوات المعرفيّة المشوّهة المملوءة بالشوائب، أي يفصِّل له رباً على طبق معتقداته المستندة الى الأوهام التي ذكرناها آنفاً فلو تجلى له ربه بما يليق بقدسه وجلاله فانه ينكر ربه لانه يريد رباً يصوره هو ويعرفه هو ويتناغم  مع هواه، مثلاً كان في الدنيا يتعصب لشخص او جهة او كان يؤمن بعقيدة معينة او باتجاه ما واخبره ربه في الاخرة ان محبوبه الذي يتعصب له وهم باطل فانه سيقول له انت لست ربي حقيقة، ولو كنت ربا حقا لقلت لي ان هذا الشخص او العقيدة او الحالة حق([11])، فهم يحكمون على الله تعالى بما عندهم من غث وسمين وليس العكس بأن يحكّمون الله تعالى فيما عندهم، والاول هو الذي يسميه بعض أهل  المعرفة بالرب المقيد بتصوراتنا واوهامنا والثاني بالرب المطلق الذي لاتحددّه اوهامنا وعقولنا واهواؤنا وهو الاعتقاد الصحيح.

    وتوجد رواية يظهر منها هذا المعنى عن رسول الله (’) قال: (يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول من كان يعبد شيئا فليتبعه، فيتّبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت([12])، وتبقى هذه الامة فيها منافقوها، فياتيهم الله تبارك وتعالى في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول: انا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى ياتينا ربّنا فاذا جاء ربنا عرفناه فياتيهم الله تعالى في صورته التي يعرفون، فيقول: انا ربكم فيقولون: انت ربنا فيتبعونه)([13]).

فإذا أردنا معرفة الله حق معرفته فلنأخذها من أهل ها وهم أهل  البيت (^) عدل القرآن وصنوه والقرآن الناطق، ومن ادعية أمير المؤمنين والامام الحسين والامام السجاد (صلوات الله عليهم اجمعين) والكلمات الاخرى للائمة المعصومين (^).



([1] ) كلمة لسماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) القيت يوم الجمعة 7/صفر/1437 الموافق 20/11/2015

([2]) الكافي: 1/80 ح11

([3]) بحار الانوار: 71/23

([4]) ميزان الحكمة: 4/473

([5]) من زيارة الجامعة الكبيرة

([6]) بحار الانوار: 5/323 عن ثواب الاعمال ورجال الكشي وقضاء حقوق المؤمنين.

([7]) البحار: 89/19 ح18.

([8]) البحار:69/38  ح30.

([9]) البحار: 23/267 ح12.

([10]) بحار الانوار: 77/19 ح2 عن عيون اخبار الرضا: 2/28

([11]) مثلاً الذين يؤمنون بالتطبير ويقولون (ديني تطبيري) فلو تجلى لهم رب العزة والجلال وقال لهم التطبير ليس من الشعائر الحسينية وانما هو طقس وفعالية ابتدعها البعض للتعبير عن تفاعله مع قضية الحسين (عليه السلام)، فان هؤلاء سيقولون انت لست رباً حقاً، ولو كنت الرب الحقيقي لقلت لنا أن الدين هو التطبير

([12]) وقد يكون هؤلاء الطواغيت متلبسين بزي علماء الدين (تَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ) [التوبة : 31]

([13]) صحيح مسلم: 82، باب 81 معرفة طريق الرؤية، ح 299