(وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً) - العطاء في سبيل الله تعالى غنيمة وليس خسارة

| |عدد القراءات : 2235
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

 (وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً) (التوبة:98)

العطاء في سبيل الله تعالى غنيمة وليس خسارة[1]

تبيّن الآية الكريمة صفة من صفات المنافقين من أعراب وغيرهم وهي انهم يعدّون ما ينفقون من أموال ليحافظوا على وجودهم في المجتمع الإسلامي مغرماً أي تلفاً وخسارةً وتضييعاً للأموال لأنهم لم يعطوها عن إيمان وعقيدة ونية مخلصة لله تعالى حتى يبتغوا بها الأجر والعوض، وإنما انفقوها رياءاً أو سمعة أو ليتظاهروا بأنهم ملتزمون بالدين وهم يستبطنون التمرد على الله تعالى وعدم الاعتراف بشريعته فلا يستفيدون مما انفقوا شيئا فينتابهم الأسى لما فقدوا من أموال بلا فائدة من وجهة نظرهم.

ولو كانوا صادقين في ايمانهم لاعتبروا ما ينفقون في سبيل الله تعالى ونصرة نبيه (صلى الله عليه وآله) ونشر دينه والمساهمة في المشاريع الخيرية ومساعدة المحتاجين (مغنماً) لأنه سيعود عليهم بالخير الكثير في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلأنه سينمي المال ويزيده وإنما سميت الزكاة بهذا لأنها سبب لنمو المال وزيادته وكذا الصدقة فإنها تستنزل الرزق وتدفع البلاء.

وأما في الآخرة فان الله تعالى يضاعف الأجر لمن أنفق في سبيله أضعافاً مضاعفة حتى قال تعالى (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ) (البقرة:261) فالإنسان الواعي ذو البصيرة يجد ما ينفق في سبيل الله غنيمة ورزقاً لا يمكن تفويته فيسعى اليه ويحرص عليه، سواء تعلق الانفاق بالمال أو الجهد أو الوقت أو التفكير والاهتمام أو الكلمة الطيبة وغيرها ويرتقي ليكون الانفاق بالنفس والولد.

فيرى المنافقون ــ وربما بعض ضعاف الايمان ــ ان من يصرف المال لبناء مسجد أو تزويج شاب مؤمن أو إقامة مشروع خيري، قد أضاع ماله الذي جمعه بجهود مضنية، ويرى ان من يقتل في سبيل الله وحماية المقدسات مغررّاً به قد خسر دنياه وهكذا.

ولأن المنافقين يعتبرون كل هذا الانفاق مغرماً وخسارة وعملاً عبثياً لا فائدة منه فهم يثبّطون العاملين ويثنونهم عن عزمهم على فعل الخير والمعروف ويطلبون منهم ان يوفروا مالهم ووقتهم وجهدهم لشؤونهم الشخصية وعدم تضيعها في المشاريع العامة المثمرة، فعلى المؤمنين الواعين الذين يعرفون جيداً ان هذا العمل والانفاق مغنم وخير وبركة ان لا يتأثروا بأراجيف المنافقين.

واذا استوعب الانسان هذه الحقيقة فانه سيتجاوز الكثير من المصائب والمصاعب وسيندفع نحو عمل الخير، خذ مثلاً ما جاء فيمن فقد جنيناً سقط من بطن أمه قبل اكتمال نموه عن الامام الصادق (عليه السلام) حيث نقل قول جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) (إن السقط يجيء محبنطئاً على باب الجنة فيقال له: أدخل الجنة، فيقول: لا، حتى يدخل أبواي الجنة قبلي)[2] .

لاحظوا كيف تحول المغرم إلى مغنم والألم إلى أمل بفضل الله تعالى وان من مرّت به مثل هذه المصيبة قد انفتحت امامه فرصة عظيمة لطاعة الله تعالى والفوز برضوانه ذلك بأن هذا الجنين الذي مات سيكون شفيعه يوم القيامة ولا يدخل الجنة الا ويدخل أبويه معه، فأي غنيمة أعظم من هذه؟ فتهون عليه المصيبة ويرضى بقضاء الله تعالى.

وهكذا من يجمع الأموال بعرق جبينه ثم يضعها في مشروع خيري فأنه لا يرى نفسه قد خسر شيئاً وانه أضاع ماله بل قدمّه ثمناً لغنيمة عظيمة.

أقول هذا لاطمأن أحبّتي من المواكب والجمعيات الخيرية وسائر المؤسسات الدينية والإنسانية والاجتماعية المباركة الذين يواصلون الليل والنهار في خدمة الناس وعمل المعروف وإقامة شعائر الدين ان لا يثبطهم كلام الكسالى والمرائين وفاقدي البصيرة ومسلوبي التوفيق.

وقد حكى لنا التاريخ مواقف لعظماء عرفوا قيمة هذه الغنيمة مثل عبدالله بن عمرو الأنصاري والد جابر بن عبدالله الأنصاري فأنه بعد ان فاضت روحه الطاهرة شهيداً في معركة أحد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) تلقته الملائكة وسأله الله تبارك وتعالى عن ماذا يريد وماذا يطلب؟ فقال: أريد ان ارجع الى الدنيا لأقاتل وأُقتل شهيداً مرة أخرى لما رأى من الكرامة التي تمنح للشهيد[3] .

وهكذا كان أصحاب الامام الحسين (عليه السلام) يقفون بين يديه ويسلّمون عليه ويتمنى أحدهم أن يقتل ثم يحيى ثم يقتل سبعين مرة دفاعاً عن الامام الحسين (عليه السلام) ولا يرى في ذلك مغرماً وتلفاً بل مغنماً وربحاً كقول زهير بن القين (( والله لوددتُ لو أني قُتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى اقتل كذا الف قتلة، وان الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك[4])) ومثله قال سعيد بن عبدالله الحنفي.

ومثله ما ورد في خطاب العقيلة زينب (عليه السلام) للطاغية ابن زياد لما قال لها متشفياً (كَيْفَ رَأَيْتِ صُنْعَ اللَّهِ بِأَخِيكِ وَ أَهْلِ بَيْتِكِ ؟
فَقَالَتْ : مَا رَأَيْتُ إِلَّا جَمِيلًا ، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ فَبَرَزُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ، وَ سَيَجْمَعُ اللَّهُ بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُمْ فَتُحَاجُّ وَ تُخَاصَمُ ، فَانْظُرْ لِمَنِ الْفَلْجُ يَوْمَئِذٍ )[5] .

وهذه الحقيقة القرآنية ثابتة بالاتجاه الآخر إذ قد يعدُّ أهل الدنيا والمغترّون بها والغافلون عن الآخرة أن بعض ما يعتبرونه مغنماً هو مغرم ووبال عليهم لأنهم لم يتورعوا في تحصيله ولا وضعوه في موضعه ولا أدوا فيه حقوق الله تعالى.

وعبّرت العقيلة زينب (عليها السلام) بوضوح عن هذه الحقيقة في خطابها الذي هزّ عرش يزيد الطاغية بقولها ( ولئن اتّخَذْتَنا مَغْنَماً، لَتجِدَنّا وشيكاً مَغْرماً، حين لا تجدُ إلاّ ما قدَّمْتَ وما ربُّكَ بظَلاّمٍ للعبيد)[6] .

   



[1] - من حديث سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) مع مسؤولي مواكب الناصرية يوم 15/ذوالحجة/1440 الموافق 17/8/2019 ، ومع تجمع مرشدي الحجاج من كربلاء يوم 29/ ذوالحجة/1440

[2] - وسائل الشيعة: 20 / 14 أبواب مقدمات النكاح ، باب 1 ح 2

[3] روى طَلْحَة بن خِرَاش الأَنصاري قال: سمعت جابر بن عبد اللّه قال: نظر إِلي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فقال: "ما لي أَراك منكسرًا مُهْتَمًّا"؟ قلت: يا رسول الله، قتل أَبي وترك دينًا وعيالًا. فقال: "أَلا أَخبرك؟ ما كلم الله أَحدًا قَطّ إِلا من وراءِ حجاب، وإِنه كلم أَباك كِفَاحًا، فقال: يا عبدي، سلني أُعطك. قال: أَسأَلك أَن تردني إِلى الدنيا فأُقتل فيك ثانية! قال: إِنه قد سبق مني أَنهم لا يردون إِليها ولا يرجعون. قال: يا رب، أَبلغ مَنْ ورائي"، فأَنزل الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ}... [آل عمران/ 169]

أخرجه الترمذي في التفسير تفسير سورة آل عمران: ٨ / ٣٦٠ - ٣٦١ وصححه الحاكم في المستدرك: ٣ / ٢٠٣ وزاد السيوطي نسبته للطبراني وابن خزيمة وابن مردويه والبيهقي في الدلائل " الدر المنثور: ٢ / ٣٧١" وأخرجه الواحدي بسنده في أسباب النزول ص (١٦٢). وقال الألباني في تخريج السنة: إسناده حسن رجاله صدوقون على ضعف في موسى بن إبراهيم بن كثير.

[3] - تاريخ الطبري: 5/418 ، الكامل في التاريخ 2/559 ، الارشاد: 2/91  وغيرها من المصادر التي ذكرها ريشهري في كتاب الصحيح من مقتل سيد الشهداء: 628

[4] - تاريخ الطبري: 5/418 ، الكامل في التاريخ 2/559 ، الارشاد: 2/91  وغيرها من المصادر التي ذكرها ريشهري في كتاب الصحيح من مقتل سيد الشهداء: 628

[5] - راجع المصادر في الصحيح من مقتل سيد الشهداء: 1052 ح1523

[6] - الاحتجاج: 2/123 ، بحار الأنوار: 45 / 2157 ح 5