وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً -صلاة الليل وسيلة الإعداد لتحمل المسؤوليات الكبيرة ونيل المقامات الرفيعة

| |عدد القراءات : 1209
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً) (الإسراء:79)

صلاة الليل وسيلة الإعداد لتحمل المسؤوليات الكبيرة ونيل المقامات الرفيعة[1]

(وَمِنَ اللَّيْلِ) يمكن أن تكون (من) بيانية باعتبار أن النهار من شأنه النشاط والحركة فلا يحتاج العمل فيه إلى بيان، اما الليل فهو للنوم والسكون فالعمل فيه يحتاج إلى توجيه، ويمكن أن تكون تبعيضية أي بعض الليل، والتبعيض يمكن أن يستفاد من الباء، وقد حدّدت آيات المزمِّل هذا البعض، قال تعالى (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (المزمِّل:2-4).

(فَتَهَجَّدْ) الهجود هو النوم ومعنى تهجّد أي قاوم النوم وتكلَّف اليقظة كالتمريض الذي يعني معالجة المرض.

(نَافِلَةً لَّكَ) تكليفاً زائداً خاصاً بك يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث ان قيام الليل واجب عليه خاصة (عَسَى) ترجّى وأمل بأن يبلغ به المقام المحمود مقام الرسالة العظمى والولاية الكبرى وإظهار دينه على الدين كله والشفاعة الواسعة المقبولة وتفضيله على الخلق أجمعين، ولا داعي للاقتصار على أحدها في تفسير المقام المحمود.

واستعمال صيغة الترجي وليس صيغة الجزم والقطع مع ان إرادة الله تعالى اذا تعلقت بأمر فإنما (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يس:82) لعل ذلك لإحداث المزيد من الرغبة والعزم، كالذي ورد في تفسير قوله تعالى (فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طه:44) لحث النبي موسى وأخيه هارون (عليهما السلام) على بذل الوسع في دعوة فرعون إلى الايمان والتوحيد، والله تعالى يعلم أن فرعون لا يتذكر ولا يخشى.

وقد بيّنت آيات سورة المزمِّل المتقدمة ان قيام الليل يهيئ لإداء الأدوار الكبيرة وتحمّل المسؤوليات العظيمة، وتتمتها (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) (المزمل:5-6) سنوحي اليك قولاً يحمل مسؤولية عظيمة وفيه معاني عميقة وثقيل في آثاره ونتائجه وثقيل في ما يسببه لمن يصدع به من مصاعب ومشاق (فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (الأعراف:2) فلكي تتحمل هذه الاثقال استعن بناشئة الليل أي العبادة التي تنشئها في الليل لأنها أصعب مراساً وأشد على النفس وأثبت لها  وأصدق في الأداء وادعى لحضور القلب لانقطاع الشواغل، في الرواية عن الامام الصادق (عليه السلام) (يعني بقوله: وَأَقْوَمُ قِيلاً: قيام الرجل عن فراشه يريد به الله عزوجل ولا يريد به غيره)[2] لذا فإنها تكون أحسن انتاجاً وتحقيقاً للغرض وهذه حقيقة ثابتة فان العظماء الذين بلغوا ما بلغوا من مقامات كانت علامتهم المميزة مواظبتهم على قيام الليل، فاذا كنتم من الساعين لنيل تلك المقامات ــ وحريٌّ بكل عاقل أن يكون كذلك ــ فأعدوا أنفسكم بهذه الرياضة المعنوية لتساعدكم على نيل الخصال الكريمة.

لذا تضمنت الوصايا التي قدمّها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يُعِّده لخلافته العظمى تركيزاً على صلاة الليل، عن الامام الصادق (عليه السلام) (كان في وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) أن قال: يا علي أوصيك في نفسك بخصال فاحفظها ثم قال: اللهم أعنه.... ــ إلى ان قال ــ وعليك بصلاة الليل، وعليك بصلاة الليل، وعليك بصلاة الليل)[3] .

ومن سننه (صلى الله عليه وآله) أنه كان يفرّق صلاة الليل على اجزائه ليكون في جميع وقته مستأنساً بلقاء ربه ففي التهذيب بسند صحيح عن معاوية بن وهب قال (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: وذكر صلاة النبي صلى الله عليه وآله قال: كان يؤتى بطهور فيخمر عند رأسه ويوضع سواكه تحت فراشه ثم ينام ما شاء الله، فإذا استيقظ جلس، ثم قلب بصره في السماء ثم تلا الآيات من آل عمران " إن في خلق السماوات والأرض "[4] الآيات، ثم يستن ويتطهر، ثم يقوم إلى المسجد فيركع أربع ركعات على قدر قراءة ركوعه وسجوده على قدر ركوعه، يركع حتى يقال: متى يرفع رأسه ويسجد حتى يقال: متى يرفع رأسه، ثم يعود إلى فراشه فينام ما شاء الله، ثم يستيقظ فيجلس فيتلو الآيات من آل عمران، ويقلب بصره في السماء ثم يستن ويتطهر ويقوم إلى المسجد ويصلي الأربع ركعات كما ركع قبل ذلك، ثم يعود إلى فراشه فينام ما شاء الله ثم يستيقظ ويجلس ويتلو الآيات من آل عمران ويقلب بصره في السماء، ثم يستن ويتطهر ويقوم إلى المسجد فيوتر ويصلي الركعتين، ثم يخرج إلى الصلاة)[5] ورواه الكليني في الكافي بسند صحيح عن الحلبي عن ابي عبدالله (عليه السلام) وفيه (ثم قال: لقد كان لكم في رسول الله (صلى الله عليه وآله) أسوة حسنة، قلت: متى كان يقوم؟ قال: بعد ثلث الليل)[6] وفيه قال: في حديث آخر: (بعد نصف الليل)[7].

وقد اختصر الحديث المروي عن الامام الحسن العسكري (عليه السلام) هذه الأهمية بقوله (الوصول إلى الله تعالى سفر لا يدرك الا بامتطاء الليل)[8] أي ان الاعمال الصالحة الموصلة إلى الله تعالى لابد ان تُتوِّج بصلاة الليل لتوصل إلى الهدف.

وهذا الحديث له دلالات عديدة منها أن الوصول إلى الله تعالى ممكن ولكنه يحتاج إلى حركة وسلوك وقطع مسافة بما يتطلب ذلك من جهد وجهاد، وأنّه يحتاج إلى مركب ليقطع به الطريق وهي صلاة الليل، وأن يترك كل شيء مما يتعلق به قلبه وراءه كالمسافر الذي يهجر وطنه وداره وأهله وولده وماله ومنصبه وجاهه وعلاقاته وسائر تعلقاته.

ويفيد الحديث أيضاً ان الصلوات المفروضة قد لا يكفي اتخاذها وسيلة لقطع هذا السفر ولابد من امتطاء صلاة الليل معها ليتحقق الوصول إلى الهدف بإذن الله تعالى وإن الصلاة بشكل عام هي أداة هذا العروج إلى الله تعالى ولعل هذه المعاني منشأ الكلمة المشهورة على ألسنة العلماء (الصلاة معراج المؤمن)[9] فهذه كلها معانٍ يمكن استفادتها بوضوح من الحديث الشريف.

ومن تشبيه صلاة الليل وعموم الطاعات بالسفر إلى الله تعالى نعرف انها تتعرض لنفس ما يتعرض له المسافر من مخاطر: كالتيه والمزالق والوحوش المفترسة وقطاع الطرق وفقدان الزاد، وهذه المخاطر بوجودها المناسب موجودة لمن يريد السفر إلى الله تبارك وتعالى، فقطاع الطرق هم المتلبسون بالدين الذين يضللون الناس بشبهاتهم، وفقدان الزاد بضياع العمر من دون تقديم عمل صالح (آه من قلة الزاد وطول الطريق وبعد السفر)[10] والوحوش المفترسة هم الذين يزينون الدنيا والشهوات ويوقعون الانسان في المعاصي ليطفئوا في قلبه نور الايمان، ويتحقق التيه بعدم أخذ العلم والمعروفة من أصله ومعدنه، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) (فان العامل بغير علم كالسائر على غير طريق، فلا يزيده بعده عن الطريق الا بعداً من حاجته)[11] .

هذا كله من ناحية الارتقاء في سلم الكمال، اما من ناحية الثواب فقد ورد في صلاة الليل فضل عظيم ففي الرواية عن الامام الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة:17) قال (عليه السلام) (ما من عمل حسن يعمله العبد وله ثواب في القرآن الا صلاة الليل، فان الله تعالى لم يبين ثوابها لعظيم خطرها عنده، فقال: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة:16-17) )[12].

وفي حديث قدسي (ان العبد ليقوم في الليل فيميل به النعاس يميناً وشمالاً وقد وقع ذقنه على صدره فيأمر الله تعالى أبواب السماء فتفتح ثم يقول للملائكة: انظروا إلى عبدي ما يصيبه في التقرب إليَّ بما لم افترض عليه راجياً مني لثلاث خصال: ذنباً أغفره له، أو توبة أجدّدها له، أو رزقاً أزيده فيه، اشهدوا ملائكتي أني قد جمعتهن له)[13].

وروى الامام الصادق (عليه السلام) قال (قال النبي (صلى الله عليه وآله) لجبرئيل (عليه السلام): عظني: فقال: يا محمد عش ما شئت فانك ميت، وأحبب ما شئت فانك مفارقه، واعمل ما شئت فانك ملاقيه، واعلم أن شرف المؤمن صلاته بالليل، وعزّه كفّه عن اعراض الناس)[14].

وتوجد روايات كثيرة في الآثار الدينية والدنيوية المباركة التي تترتب على أداء صلاة الليل بفضل الله تعالى وكرمه.

ولأن صلاة الليل بهذه المنزلة العظيمة فانها لا تنال الا بتوفيق خاص ويحرم منها من ليس أهلاً لها، في الرواية (جاء رجل إلى أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام): إني قد حرمت الصلاة بالليل فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) أنت رجل قيدّتك ذنوبك)[15]. وفي الحديث عن الامام الصادق (عليه السلام) (إني لأمقُتُ الرجل قد قرأ القرن ثم يستيقظ من الليل فلا يقوم، حتى اذا كان الصبح قام يبادر بالصلاة)[16].

هذا الحب لله تعالى وامتطاء الليل للوصول إليه سبحانه هو الذي أراده الامام الحسين (عليه السلام) حينما طلب من ابن اسعد تأجيل المعركة من عصر يوم التاسع إلى صبيحة يوم عاشوراء، فقد روي ان عمر بن سعد زحف بجيشه نحو معسكر الامام الحسين (عليه السلام) عصر يوم التاسع فأرسل أخاه العباس (عليه السلام) ليستعلم خبرهم فقصدهم في عشرين فارساً فيهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر فقال لهم العباس (عليه السلام) (ما بدا لكم، وما تريدون؟ قالوا: جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو ننازلكم! قال: فلا تعجلوا حتى ارجع إلى أبي عبدالله فاعرض عليهم ما ذكرتم) ثم أتى إلى الامام الحسين (عليه السلام) بما عرض عليه عمر بن سعد قال (ارجع اليهم: فان استطعت أن تؤخرهم إلى غدوة وتدفعهم عند العشية، لعلنا نصلي لربنا الليلة، وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أني قد كنت أحب الصلاة له وتلاوة كتابه، وكثرة الدعاء والاستغفار) فبات الحسين (عليه السلام) تلك الليلة راكعاً ساجداً باكياً مستغفراً متضرعاً، وبات أصحابه ولهم دوي كدويّ النحل)[17]. جزاهم الله تعالى عن الإسلام وأهله خير جزاء المحسنين.



[1] - كلمة القيت في مدرسة الابرار للعلوم الدينية في النجف الأشرف على طلبة المدرسة ومدرسة اعلام الهدية بحضور إدارة المدرستين يوم الثلاثاء 27 / جمادي الآخر/ 1440 الموافق 5/3/2019

[2] - وسائل الشيعة: 5/269 أبواب بقية الصلوات المندوبة، باب 39 ح 5

[3] - رواها في وسائل الشيعة عن المشايخ الثقات في اصولهم في عدة مواضع منها في كتاب الصلاة، أبواب بقية الصلوات المندوبة، باب 39 ح 1.

[4] - الآية 190 من السورة وما بعدها.

[5] - وسائل الشيعة: 3/195 ح 1، التهذيب: 2/334 ح 1377

[6] - وهذا مما يُستدل به على أن وقت صلاة الليل يبدأ قبل منتصف الليل بعد مضي ثلثه، ومما يدلّ على ذلك آيات سورة المزمَّل الماضية فان فيها (نصفه، أو زد عليه) والزيادة على النصف تعني القيام قبل منتصف الليل.

[7] - وسائل الشيعة: 3/196 ح 2، الكافي: 3/445 ح 13

[8] - بحار الأنوار: 78/379، مسند الامام العسكري:379، الأنوار البهية للمحدث القمي:161.

[9] - قال الشيخ محمد الريشهري في كتاب: الصلاة في الكتاب والسنة - الصفحة ١٥:  لا يخفى أن عبارةالصلاة معراج المؤمن " مع كثرة تداولها على الألسن بحيث صارت من أشهر الكلمات في وصف الصلاة، لم نجد لها مصدرا مسندا إلى النبي (صلى الله عليه وآله) أو الأئمة (عليهم السلام)، وهذا بعد أن استقصينا كلمات أصحاب الكتب في شتى العلوم ووجدناها في أكثر من ثلاثين موضعا من عباراتهم، علما أن كتب السنة كلها وكتب الشيعة جلها إلا ما دون في القرون الأخيرة - كروضة المتقين وبحار الأنوار للمجلسيين أعلى الله مقامهما والرواشح السماوية للمحقق الداماد قدس سره - خالية منها، فالظاهر أنها ليست برواية بل من عبارات علمائنا المتأخرين رضوان الله تعالى عليهم.

[10] - نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع) - ج ٤ - الصفحة ١٧

[11] - بحار الأنوار: 1/209 ح 11 عن نهج البلاغة.

[12] - بحار الأنوار: 87/140

[13] - وسائل الشيعة: 5/272

[14] - وسائل الشيعة: 5/269

[15] - وسائل الشيعة: 5/279

[16] - بحار الأنوار:83/127 ح 79

[17] - تاريخ الطبري: 5/416، الكامل في التاريخ: 2/558، البداية والنهاية: 8/176 الارشاد: 2/89، مناقب ابن شهراشوب: 4/98 مقتل الحسين (عليه السلام) للخوارزمي: 1/251 وغيرها.