تأصيلات في الفقه الاجتماعي

| |عدد القراءات : 2822
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسمه تعالى 

تأصيلات في الفقه الاجتماعي

          أثار سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) خلال لقاءاته مع بعض العلماء الاعلام في الجمهورية الإسلامية في إيران مؤخراً قضية الفقه الاجتماعي وضرورة الاهتمام به، مما دعا مجلة الفقه والمجتمع وموقع الاجتهاد الالكتروني إلى اجراء الحوار[1] التالي مع سماحته:

          1- ما معنى الرؤية الاجتماعية في الفقه؟

يمكن أن يراد بالرؤية الاجتماعية في الفقه أكثر من معنى:

          أ / ان يكون المخاطب بالحكم الشرعي والمكلّف به المجتمع وليس الفرد يعني ان الفقيه ينظر إلى الأمة ويجعلها نصب عينيه عند استنباط الحكم الشرعي وليس الفرد، فأننا نعتقد ان للأمة كياناً ووجوداً يولد وينمو ويموت ولها أحوال متباينة من الصلاح والفساد والانحطاط والازدهار، وتصلح أن تتعلق بها الاحكام الشرعية المناسبة لها.

          والمتتبع للآيات الكريمة والاحاديث الشريفة يجد مثل هذه الخطابات، كقوله تعالى (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) (آل عمران:110) وقوله تعالى (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) (آل عمران:104) وقوله تعالى (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة:122).

          اما الروايات الشريفة فهي كثيرة ومن القرائن على كون التكليف (اجتماعياً) إِناطته بلفظ (الامام) وهو يعني ولي الامر والفقيه المتصدي لولاية الأمور العامة للأمة. 

          وقد لا يكون المخاطب بالتكاليف كل الأمة بل شريحة معينة منها كفقه الأطباء أو المعلّمين أو النساء أو الرياضة أو العمال أو القضاة وغير ذلك وقد اصدرنا كتباً كثيرة حتى في (تجارة المواد المستعملة) التي راجت في العراق في تسعينات القرن الماضي بسبب الحصار.

          ب / أن تصاغ الرؤية الإسلامية على نحو نظريات وأنظمة وقوانين وليس على أساس مسائل شرعية مفكَّكة، على النحو المعروف في الرسائل العملية للفقهاء وحينئذٍ سنتعرف على النظام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والأخلاقي والقانوني والجنائي والدولي وغير ذلك للإسلام ويطلق البعض على هذا التوجه عنوان (فقه النظرية).

          2- كيف تعرّفون الفقه الاجتماعي؟ وهل هو ناسخ للفقه الفردي المتعارف؟

في ضوء ما قلنا آنفاً فان الفقه الاجتماعي ليس بديلاً عن الفقه الفردي وإنما يكون مكملاً له ويغطي مساحة أخرى لا يتناولها بناءً على المعنى الأول أو أنه يؤسس عليه ويعيد ترتيبه بناءً على المعنى الثاني، يعني ان الفقيه يستنبط أولاً المسائل على النهج المتعارف في الفقه الفردي ثم يجمع شتاتها ويعيد ترتيبها ليدِّون الفقه الاجتماعي فيضمّ كتاب النكاح والطلاق والوصايا والحجر وأمثالها ليؤلف النظام الاجتماعي ويجمع كتب الخمس والزكاة والوقف ونحو ذلك ليؤلف النظام المالي.

 

 

          3- كيف يتصف الفقه أو الفقيه بوصف (الاجتماعي)؟

لا يكون الفقيه (اجتماعياً) الا بعد أن يكون (فردياً) أي بعد أن ينال درجة الاجتهاد وفق الآليات المتعارفة في الحوزات العلمية، لأن الاستنباط في الفقه الاجتماعي نوع من التخصص في إعمال ملكة الاجتهاد فهو فقيه متخصًّص والمعروف أن التخصص في أي مجال علمي كالطب مثلاً يأتي بعد نيل أصل الملكة والقدرة على ممارسة المهنة.

          وهذا التخصِّص يحتاج إلى أدوات إضافية كالخبرة بالواقع المعاش والمعرفة بالعلوم المرتبطة بهذا التخصّص ويكون مصداقاً للحديث الشريف عن الامام الصادق (عليه السلام) (العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس[2]) ولكي يبدع في عمله فأنه يحتاج إلى مستشارين ومراكز بحثية ترفده بالبيانات التي تنقح الموضوعات التي يريد النظر فيها.

          4- اساساً هل كان في الفقه رؤية اجتماعية منذ التكوّن ونشوئه حتى الآن؟

لم تغفل النصوص عن الأمة ــ كأمة ــ في خطابها ولم ينفّك الفقه الفردي الموجود عن جانبه الاجتماعي وكل ما نحتاجه إعادة قراءة النصوص الشرعية والفقهية برؤية جديدة ومن زاوية اخرى وتقديمها بصياغة جديدة.

          وفي هذا الاطار فقد دعوت في بعض ابحاثي[3] إلى إعادة تسمية الواجبات (الكفائية) بالواجبات (الاجتماعية) بعد أن كتبت بحثاً مفصّلاً في حقيقة الوجوب الكفائي المعروف لدى الأصوليين والفقهاء وانتهيت إلى ان التقسيم إلى عيني وكفائي هو من خصائص الواجب وليس الوجوب الذي حقيقته واحدة فيهما معاً، وميزة الواجب الكفائي عن العيني انه موجّه إلى الأمة كأمة وليس كأفراد فالأولى تسميته بالواجب الاجتماعي، مضافاً إلى ما سبَّبه مصطلح الكفائي من تقاعس واتكالية ولا مبالاة.

          واعترضت مراراً على كلمتهم المشهورة (لا مشاحة في الاصطلاح) لأن الاصطلاح ومفهوم الشيء والفكرة هو الأساس الذي يبنى عليه العمل وينطلق منه، وهذا مثال عليه، ومن تطبيقاته ما حصل لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من اتّكالية أدّت إلى ضياع الفريضة أو شللها بسبب شروط الوجوب التي ذكرها الفقهاء انطلاقاً من النظرة الفردية ولو نظر إلى الفريضة من زاوية اجتماعية لما بقي وجه لتلك الاشتراطات.

          فإذن الفقه الاجتماعي ــ على المعنى الأول ــ موجود في اذهان الفقهاء وفي ما سطّروه من كتبهم تحت عنوان الواجبات الكفائية كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصلاة الجمعة والدعوة إلى الله تعالى والتبليغ والإصلاح الاجتماعي والتصدي للعمل السياسي وإقامة احكام الله تعالى في الأرض وقد رتّبت عليه وجوب المشاركة في الانتخابات لتمكين القيادة الصالحة ونحو ذلك.

          أما المعنى الثاني للفقه الاجتماعي فإنه يشيَّد على أساس الفقه الفردي وقد بُذلت خلال العقود الثلاثة الأخيرة محاولات جادة في تقديم نظريات الإسلام على هذا الأساس ورأينا نتاجاً مثمراً ومثيراً للفخر والاعتزاز في شتى المجالات الاقتصادية والسياسية والقانونية والاجتماعية.

          ولعل السرّ في تأخر علماء الامامية في ولوج هذا المجال هو اقصاؤهم عن الحكم وإدارة الدولة والمجتمع وتعرضهم للبطش والاضطهاد من الحكومات المتعاقبة مما ولّد لديهم شعوراً بأن من العبث الخوض في مثل هذه المجالات واقتصروا على بيان تكاليف الأفراد.

          5- يعتقد البعض بأنه لا معنى لتحميل الفقه أعباء المسؤولية الاجتماعية، ويقتصر دوره على بيان الاحكام الفردية.

اعتقد ان الفقه الاجتماعي ضرورة حضارية لأننا نفاخر الأيديولوجيات والنظم الأخرى بأن الإسلام هو الأصلح لقيادة البشرية وانه النظام الأكمل والمستوعب لكل حاجات الناس في كل الأزمنة وله القدرة على مواكبة التغيرات، وهذا كله يتطلب تقديم الإسلام كنظام يدير شؤون الحياة في جوانبها المتعددة، وهذا لا يكفي فيه النمط المتعارف في الرسائل العملية، بل علينا أن نقدّمه كأنظمة ونظريات وقوانين تقنع الآخرين بما عندنا ولا تتركنا عاجزين عن مجاراة الأمم في إدارة شؤونها.

          ومن يستقرئ النصوص الشريفة يجد فيها اهتماماً بالغاً بالواجبات الاجتماعية قياساً بالفردية كقول الامام علي (عليه السلام) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول (إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام)[4] والآية الكريمة (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (المائدة:67) حيث جعلت نصب القيادة الحقّة ــ وهي من الواجبات الاجتماعية ــ في كفّة واحكام الرسالة كلها في الكفّة الأخرى.

          وقد كتبتُ عدة رسائل لبيان هذه الحاجة الملّحة وبعثتها إلى السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس) في عام 1985 م وحثثته على ولوج هذا المجال ووضعت هيكلية مفصّلة لترتيب الرسائل العملية للفقهاء وفق هذه الرؤية وأجاب برسائل مفصّلة نشرت كلها في كتاب (الشهيد الصدر الثاني كما أعرفه).

          6- ما هي آليات الاستنباط في الفقه الاجتماعي؟ وهل تكفينا الآليات الرائجة؟

بنظرة أولية اجمالية نقول: تشترك آليات الاستنباط الفقه الاجتماعي مع الفردي في الأصول العامة للفقه لكن قد يختفي فيه بعضها كالاحتياط اذ لا معنى لمخاطبة الأمة بالاحتياط وقد تبرز بعض المباني بقوة كدليل حفظ النظام الذي يستند إليه الفقهاء كثيراً لكنه لم يحظ بالتقنين المناسب له، وقاعدة نفي العسر والمشقة وتقديم الأهم على المهم من الملاكات وسيشيَّد عندنا فقه المصالح والمفاسد.

         وسنجد ــ عند البحث عن مباني الفقه الاجتماعي ــ دليلاً على العمل بمسلك سد الذرائع في حدوده المرسومة شرعاً.

         وستعاد قراءة النصوص وفق تغيرات الزمان والمكان وسيظهر بقوة دور الاحكام الولائية أي الصادرة بمقتضى ولاية الفقيه ضمن حدود الصلاحيات[5] الممنوحة له.

          واذكر لك كمثال الاطروحة التي قدمتها في بحث مفصل عن مسألة حرمان الزوجة من العقار المشهورة لدى الامامية وقلت فيها انه حكم ولائي صدر من الامام (عليه السلام) بصفته ولي الأمر لمصالح سياسية واجتماعية ذكرتها هناك فيكون استمراره منوطاً بامضاء ولي الأمر الفعلي وله نسخه.

          أو فتوى منع زيادة نسبة الفائدة عند بيع الدولار بالدينار إلى أجل معين عن 3% التي اعتمدتها وفاقاً لأستاذنا الشهيد السيد الصدر الثاني (قدس) بينما لم يحدد الفقهاء الآخرون نسبة معينة لأنها (تجارة عن تراضٍ) بينما انطلقنا نحن من ملاكات اقتصادية يعرف أهل السوق آثارها التدميرية لو لم نحدد النسبة.

          وحينئذٍ سنحتاج أيضاً إلى وضع قواعد حل التعارض بين التكليف الفردي والاجتماعي والعلاقة بينهما وهل هي على نحو التزاحم فيقتضي تقديم الأهم ــ وهو الاجتماعي ــ على المهم؟ أم انه على نحو الحكومة فيكون التكليف الاجتماعي حاكماً على الفردي لأنه من العناوين الثانوية الحاكمة على الأولية.

          مثلاً لو اضطررنا لفتح طريق أو توسيع الحرم المقدس لحصول ضرر ومشقة على الناس ورفض بعض الناس بيع املاكهم الشخصية الواقعة عليه فيصدر الفقيه (الاجتماعي) حكماً بالبيع وتسليم الثمن إلى المالكين رغم امتناع المالك، اما الفقيه (الفردي) فيحرّم التصرف بهذه الأملاك دون رضا المالك لأنها مغصوبة.

          أو مصادرة بعض الحريات الشخصية لحفظ الأمن العام ومنع وقوع الفتنة والفساد ونحو ذلك.

          وفي ضوء هذا الفقه سنقيّد إطلاق قوله (عليه السلام) (من احيا ارضاً من المؤمنين فهي له) [6] بما لا يضرّ بمصالح البلاد ويمنع من ظاهرة  الاقطاع التي استعبدت الفلاحين وصادرت حقوقهم، فلا يكفي الاحياء للتملك الا بإذن الفقيه الجامع للشرائط وما دام الاحياء والحيازة من دون إذن ولي الأمر فله انتزاع الأرض من محييها ، ولذا أطلقها أمير المؤمنين (عليه السلام) صريحة مدوّية من أول أيام بيعته بالخلافة (الا إن كل قطيعة أقطعها عثمان وكل ما أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال فان الحق القديم لا يبطله شيء ولو وجدته قد تزوِّج بها النساء وملك به الاماء لرددته) [7].

          7- ما هي وجهة نظركم في مستقبل علاقات الفقه والمجتمع؟

اعتقد ان الفقه الاجتماعي فرض نفسه على أروقة الحوزات العلمية وقد استجابت حوزات الجمهورية الإسلامية في ايران أكثر من النجف الأشرف لأسباب عديدة لسنا بصدد بيانها، مع ان النجف الأشرف كانت سبّاقة لمواكبة التحديات ولنا شواهد على ذلك بتأليف الميرزا النائيني لكتاب (تنبيه الأمة وتنزيه الملة) تضمن تأصيلاً وابداعاً في الفقه السياسي وكان ذلك قبل أكثر من مئة عام ومعالجة الشيخ حسين الحلي للمسائل الاقتصادية المستحدثة كأعمال البنوك والتأمين على الحياة والعملات الورقية مطلع الستينيات من القرن الماضي وطبعت تقريراته في كتاب (بحوث فقهية) للشهيد السيد عز الدين بحر العلوم.

          ولا ننسى الأثر العظيم الذي تركه كتابا (اقتصادنا) و (البنك اللاربوي) للشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس).

          فالمأمول من العلماء الاعلام والفضلاء الكرام والمؤسسات والمراكز العلمية والبحثية ان تولي هذه القضية اهتماماً كبيراً.

           وقد اوعزت لبعض المراكز العلمية في النجف الأشرف بإعداد المقدمات لإصدار مجلة في الفقه الاجتماعي لتكون نافذة لإبراز الآثار المتنوعة للعلماء والفضلاء وتحفيزهم على البحث في هذا المجال الحيوي والله ولي التوفيق.

 



[1] - حرر الحوار يوم الجمعة 3 شعبان 1439 الموافق 20 / 4 / 2018 ببركة الميلاد الميمون للإمام الحسين (عليه السلام) محيي اعظم الواجبات الاجتماعية: الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن حسن الاتفاق ان محاضرة القاها سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) بعنوان الأسس العامة للفقه الاجتماعي كانت بنفس الذكرى عام 1422 / 2001 وهي منشورة في موسوعة (خطاب المرحلة:1/315).

[2] - تحف العقول: 259

[3] - راجع كتاب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) من موسوعة فقه الخلاف وكتاب (حقيقة الوجوب الكفائي)

[4] - أمالي الطوسي المجلس 18:522 ح1154 البحار 76:43

[5] - راجع كتابنا (فقه المشاركة في السلطة) وكتاب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)

[6] - وسائل الشيعة: 9 / 549 ، ح 13

[7] - نهج البلاغة: 1 / 46