(قبس 82 ) لِيَبْلُوَكُمْ- سنة الابتلاء
بسم الله الرحمن الرحيم
(لِيَبْلُوَكُمْ)([1])
[الملك : 2]
سنة الابتلاء
سنة الابتلاء:
ما دام الإنسان في هذه الدنيا فهو في امتحان وابتلاء قال تعالى: [الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] فالابتلاء سنة ثابتة من السنن الإلهية، ولا يفهم منها معنى القهر وإظهار الغلبة والانتقام، فإن الله تعالى غني عن ذلك، وإنما أجرى هذه السنة لمصلحة العباد، واضرب لكم مثلاً من الحياة الأكاديمية فإن السنة الدراسية تشتمل على امتحانات متنوعة من أولها إلى آخرها، ومهما أشكل بعض التربويين وعلماء النفس على الامتحانات وتأثيرها على نفسية الطالب، وإنها ليست معبّراً حقيقياً عن مستويات الطلبة، إلا أن هذا الإجراء هو لمصلحة الطالب من أكثر من جهة:
1- إن الامتحان يميّز مستويات الطلبة ويبين استحقاق كل طالب ليكرّم الناجح ويُحفَّز الفاشل ويأخذ كل ذي حق حقه.
2- أنه يحفز الطلبة على القراءة والمراجعة، ولو خلت الدراسة من الامتحانات
فإن النادر من الطلبـة سيبـذل جهـداً لمراجعـة دروسـه واستيعابهـا حبـاً
للعلم لا أكثر.
وهذا الابتلاء الذي يجري على الإنسان في هذه الدنيا فإنه لمصلحته لكي يثاب المحسن على إحسانه ويعاقب المسيء على إساءته، وليلتزم الناس بالحقوق والواجبات، ولو شعر الناس بأنه لا ثواب ولا عقاب ينتظرهم لانتشر الظلم والعدوان والفساد، ولعمَّ اليأس الحياة.
الابتلاءات متفاوتة كالامتحانات الاكاديمية:
وكما أن الدروس تتفاوت في ثقل احتسابها لإخراج المعدل العام للدروس - وهذا يعرفه طلبة الجامعات- أو تفاوت الدرجات الموضوعة بإزاء الأسئلة في الامتحانات فسؤال عليه درجة كاملة، وآخر فرع بمثابة نصف سؤال وآخر أقل منه، فكذلك الابتلاءات التي يمر بها الإنسان متفاوتة الدرجات والتأثير في ميزان الأعمال، فقد ورد في الحديث عن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم): الصبر ثلاثة: صبر عند المصيبة، وصبر عند الطاعة، وصبر عن المعصية فمن صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء والأرض، ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش، ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجة ما بين درجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش)([2]). فهذه الأمور كلها تحتاج إلى الصبر لكن درجات الصبر متفاوتة فالصبر على الطاعة ـ كالقيام من النوم اللذيذ الدافئ في الشتاء لأداء صلاة الصبح، وكبذل المال وفراق الأحبة وتحمل أعباء السفر لأداء الحج ـ أعلى من الصبر على الحرام ـ كمن تعرض له امرأة متبرجة فيصرف نظره عنها أو الذي يعرض له مال مغري إلا أنه من طريق غير مشروع فلا يمدُّ يده إليه ـ وهذا أعلى من الصبر على النوائب كفقد عزيز.
وكما أن الامتحانات في الدراسة الأكاديمية على نوعين، فبعضها ثابتة معلومة مسبقاً ومحدّدة المواعيد كالامتحانات الفصلية والنهائية، وبعضها يفاجئ الأستاذ بها الطالب من دون إشعار مسبق كالامتحانات اليومية ليكشف عن الاستعداد المتواصل والتحضير اليومي، ولا يعذر الطالب فيه أن يقول: لا أعلم بموعده وأنني لو علمت لحضّرت له، لأن وظيفته التحضير باستمرار والاستعداد لمثل هذه الامتحانات فكذلك الامتحانات التي تمر بالإنسان في الحياة الدنيا ويراد منه تأديتها بنجاح على نوعين:
فبعضها ثابتة معلومة كالصلوات اليومية وصوم شهر رمضان والحج عند الاستطاعة وحرمة الخمر والزنا ووجوب بر الوالدين ونحوها.
وبعضها تعرض له وتتهيأ فرصتها أمامه امتحاناً له، قال تعالى [إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ] (القمر:27)، فإن أحسن استغلال الفرصة فقد أصاب الخير وأدركته الرحمة، وإلا فقد ضاعت عليه الفرصة وإضاعتها غصّة، كما لو قصده صاحب حاجة وهو يقدر على قضائها ولو بالتعاطف مع صاحب الحاجة والتفاعل مع قضيته، وكالشاب الذي يتعرض لغواية امرأة متبرجـة فيتركهـا
خوفاً من الله وحباً وطاعة لله تبارك وتعالى فهذه كلها امتحانات عارضة له.
وكما أن بعض الامتحانات في الدراسة الأكاديمية ذات أنماط معروفة متداولة كالامتحانات التحريرية والشفهية، وبعضها لا يشعر بها الطالب وإنما يحدّد معايير التقييم فيها المدرّس البصير كمشاركاته في المناقشات خلا ل الدرس ونوعية أسئلته وإشكالاته وهكذا، فإن من الامتحانات في هذه الدنيا ما تخفى على صاحبها، ولكنها لا تخفى على الله تبارك وتعالى (فإن الناقد بصير)، كما ورد في كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام)، وشبّهت بعض الأحاديث خفاء الشرك في النفس بأنه أخفى من دبيب النملة بين الصخور في الليلة الظلماء، ويوم تبدو السرائر وتنكشف الحقائق سيتفاجأ الإنسان مما يجده في كتابه الذي لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وهذه الامتحانات هي الأخطر لعدم الالتفات إليها إلا ممن بصّره الله تبارك وتعالى.
الفتنة والابتلاء في الأحاديث الشريفة:
وقد ورد ذكر الفتنة والابتلاء التي هي بمعنى الامتحان في آيات كريمة وروايات شريفة كثيرة كما ورد نفس لفظ الامتحان في كثير من الموارد، نذكر واحداً منها لإلفات النظر إلى أننا فعلاً في امتحان مستمر أولاً ومنوّع في أشكاله ثانياً، ومتفاوت في درجاته ثالثاً.
في الخصال بسنده عن جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال (امتحنوا شيعتنا عند ثلاث: عند مواقيت الصـلاة كيـف محافظتهـم عليهـا، وعنــد أسرارهـم كيـف حفظهـم لهـا عنـد عـدوّنا، وإلـــى أموالهــم كيــف مواساتهـــم لإخوانهــم
فيها)([3]).
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً :
وإزاء هذه الامتحانات فإن وظيفتكم هو إحسان العمل وإتقانه والإتيان به على وجهه، فإن الله تعالى لا ينظر إلى كثرة الأعمال بل إلى حسنها كما في الآية التي أوردنا في بداية الكلمة [لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] وليس أكثر ولا أي شيء آخر، وأمامكم الآن ـ وانتم على أبواب العطلة الصيفية فرص للعمل فاغتنموها، لأن الشباب منتظرون لعودتكم إليهم حتى تقيموا لهم الدورات الصيفية لتعلموهم فيها الفقه والقرآن والأخلاق والعقائد وسيرة أهل البيت (عليهم السلام) وهي تتزامن مع هذه الأشهر المباركة (رجب وشعبان ورمضان) مما يزيد الحافز إلى العمل ويوجب عظيم الأجر.
الدعوة لإعمار المساجد وإقامة الشعائر:
وعندكم الكثير من المساجد والحسينيات المعطلة فالفرصة متاحة لإعمارها بصلوات الجماعة والشعائر الدينية ومجالس الوعظ والإرشاد، وفي المجتمع انحرافا ت ومفاسد وتقصيرات يراد منكم أن تعالجوها وتصلحوا أحوال الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، وتوجد بينهم نزاعات ومشاكل تستطيعون التوسط لحلّها والإصلاح بين المتخاصمين، ومن الناس من هم أصحاب حوائج يطلبون مساعدتكم بما تقدرون عليه فهذه كلها امتحانات تمر بكم ليبلوكم الله تعالى كيف تتصرفوا إزاءها، وهكذا كل الشرائح في المجتمع لها امتحاناتها، فالشباب ممتحن بوالدين يراد منه البر بهما والإحسان إليهما بأقصى الدرجات، وممتحن بشهوات تعرض له والمطلوب منها اجتنابها، وهكذا.
فرصة لعمل الخير:
ونؤكد ما قلناه سابقاً من أن هذه الامتحانات ليست لقهر الإنسان وإثبات الغلبة عليه وإفشاله والانتقام منه، بل هي لإعطائه المزيد من الكرامات والألطاف الإلهية وإظهار جدارته واستحقاقه لها.
وقد عرضت عليكم فرصة ثمينة لعمل الخير مع بساطتها، وهي أن يقوم كل واحد بتعميم رسالة قصيرة على من يحتفظ بأرقام هواتفهم المحمولة ويوصيهم بتعميمها تتضمن الرسالة القصيرة تعليم مسألة شرعية أو موعظة أو إرشاد إلى عمل الخير كالتنبيه على زمن شريف قريب ـ كالأول من رجب، والنصف منه، والمبعث الشريف أو آخر أيام من رجب ـ والأعمال الواردة فيه ليستعد لها ولا تفوته بسبب الغفلة عنها، أو تتضمن الرسالة مسألة شرعية غير ملتفت إليها فيتورط فيها الناس ـ كحرمة الزواج بأخت وبنت من لاط به آخر على اللائط، أو حرمة الزواج بامرأة لم تطلق بشكلٍ صحيح ـ فإن الالتفات إلى مثل هذه المسائل لاحقاً يوقع الزوجين في الحرج وهكذا.
أو يبعث بموعظة قصيرة توقظه وتحيي قلبه من الأحاديث الشريفة المباركة المؤثرة في النفوس، كأن يبعث على الشباب المبتلين بالنظر إلى النساء الأجنبيات قوله (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس فمن تركها لله تعالى أبدله نوراً يجد حلاوته في قلبه) فلعل شاباً يتأمل بهذه الكلمات فيستحقر هذه النظرة ويتركها لاكتساب ذلك النور الإلهي.
والخلاصة أن الإنسان المؤمن الواعي الراغب بالكمال عليه أن يكون ملتفتاً دائماً إلى أن كل ما يجري له ويتعرض إليه هو امتحان له وعليه أن يحسن في اتخاذ التصرف المناسب بإزائه وان ينتهز فرص الخير بلطف الله تبارك وتعالى.
([1]) من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من طلبة جامعة الصدر الدينية في النجف الأشرف من المرحلتين الخامسة والسادسة، يوم 24 ج2 1431 المصادف 8/6/2010 بمناسبة الامتحانات النهائية وقرب العطلة الصيفية.
([2]) الوسائل: ج15 ص238.
([3]) البحار: ج71 ص391.