إدامة الحالة المعنوية لشهر رمضان
بسمه تعالى
إدامة الحالة المعنوية لشهر رمضان[1]
ينتاب المؤمن في نهاية شهر رمضان شعور بالأسى والحزن لفراق هذا الشهر الكريم والفيوضات الإلهية التي تقترن به وقد عبرّت عن هذا الحزن أدعية وداع شهر رمضان، وهذا الشعور له ما يبرّره، لأن شهر رمضان من أعظم محطات التزوّد بالتقوى والطاقة المعنوية حيث يحسُّ المؤمنون بسموٍّ وارتقاءٍ في حالتهم المعنوية وإقبالاً على الطاعات في شهر رمضان المبارك، وهذه واحدة من بركات موائد هذا الشهر في ضيافة الله تبارك وتعالى، ولا شك أن المؤمنين يتفاوتون في هذا التحصيل تبعاً لتفاوت درجاتهم وسعة آنيتهم التي يغترفون بها من عطاء الله تبارك وتعالى (فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) (الرعد17)، فبعضهم قد تنتهي عنده هذه الحالة بمجرد إنتهاء الشهر فيعود في العيد الى ما كان عليه حتى المعاصي والعياذ بالله، وبعض آخر تستمر حالته أكثر من ذلك ولكنّها تنتهي مالم يزوّدها بوقود جديد، وبعضٌ تدوم عنده وتثبت معه الى شهر رمضان المقبل كالاجسام التي تلامس النار، فبعضها يفقد الحرارة بمجرد ابعاده عنها، واخرى تحتفظ بها مدة ثم تفقدها، واخرى -كالفحم- تتحول الى جمرة متّقدة تهب النور والدفء الى الاخرين والسؤال كيف نستطيع إدامة هذه الحالة أكبر قدر ممكن؟ وما الذي يجدّد فينا الامل والرغبة لاستمرار الرخم الايماني الذي استفدناه من هذه المحطة الشريفة.
ويمكن طرح السؤال بصياغة اخرى وهو أنه ورد في الحديث الشريف ((من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخرُ يوميه شرَّهما فهو ملعون، ومن لم يعرف الزيادة في نفسه كان إلى النقصان أقرب، ومن كان إلى النقصان أقرب فالموت خيرٌ له من الحياة)[2] ونحن نرى أن أيامنا في شهر رمضان خير من أيامنا في غيره حيث سنُحرم من موائد شهر رمضان ومن ضيافة الرحمن (أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة ودعائكم فيه مستجاب.....الخ)[3] وتلاوة آية فيه تعدل تلاوة القرآن كله في غيره ونحو ذلك فهل سيكون يومنا في شهر رمضان خيراً من غدنا في ما بعد شهر رمضان، وويكون امرنا الى النقصان ونصبح من اهل هذه الحالة المذمومة في الحديث الشريف فالأمر موجب للقلق وإيجاد الحل له.
ولرفع الشعور بالاسى والحزن لفراق شهر رمضان، ولتجديد الامل والرغبة بدوام بركاته ونفحاته، ولدفع القلق الناشئ من احتمال هبوط المعنويات نذكر عدة وجوه:
1- إن شهر رمضان إذا انقضى ورُفِعَتْ موائده وبركاته فإن رب شهر رمضان باقٍ وهو الذي منَّ على عباده بتلك العطايا والمنن، قال تعالى (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ) (البقرة166) فليكن تعلقنا بالخالق لا بالمخلوق وبمسبب الأسباب لا بالأسباب نفسها، وهو قادر بكرمه على أن يجعل من الكرامة في غير شهر رمضان لعمل أكثر مما يعطي في شهر رمضان المبارك فان الله تعالى اخفى رضاه في اي طاعة من طاعاته ولا يعلمها العبد، فلعلك ترحم انسانا ضعيفاً او تزوج شاباً عفيفاً لا يجد مؤونة الزواج فيمون ذلك من المنزلة اكثر مما نلته من شهر رمضان، فلا يشغلنا الأسف على فوات شهر رمضان عن الأمل بكرم ربِّ شهر رمضان.
2- إن الله تعالى الذي أوجب علينا الصوم في شهر رمضان هو الذي رفع هذا الوجوب في غيره، علينا ان نعبد الله تعالى من حيث هو يريد لا من حيث نحن نريد فكما نطيعه في وجوب الصوم نطيعه تعالى في عدم الوجوب، والحديث يقول (إنَّ اللهَ يُحِبُّ أن تُؤتى رُخَصُهُ –أي عدم إلزاماته- كَما يُحِبُّ أن تُؤتى عَزائِمُهُ -أي إلزاماته في الوجوب والحرمة-)[4]، فهذه الإنتقالة بمشيئة الله تعالى وطاعة له، لذا فهي ليست مشمولة للحديث الشريف (ومن كان آخرُ يوميه........)[5]
3- إن هذا التقلب في الحالات فيه أكثر من ثمرة مباركة فهو من جهة رحمة ورأفة من الله تعالى بالإنسان لأنه يعجز عن الاستمرار على الحالة العالية والدوام عليها حتى قيل (دوام الحال من المحال)[6]، فهذه الإنتقالة الى الحالة الأدنى فيها تخفيف عنه وإشفاق به، في الحديث الشريف (إن للقلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أقبلت فتنفلوا وإذا أدبرت فعليكم بالفريضة)[7] وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (إِنَّ هذِهِ الْقُلُوبَ تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ الأَبْدَانُ فَابْتَغُوا لَهَا طَرَائِفَ الْحِكْمَةِ)[8].
والثمرة الاخرى في هذا التقلّب: هو ترسيخ عقيدة التوحيد والإيمان بأن الله تعالى هو المتصرّف بعباده والمدبّر لشؤونهم وهم لا يملكون لأنفسهم شيئاً، هذ المعنى الذي عبّر عنه الإمام الحسين (عليه السلام) في دعائه يوم عرفة بقوله (إلهي إنَّ اختلافَ تدبيِركَ وسرعةَ طواءِ مقاديرِكَ منعا عبادَكَ العارفينَ بك عَنِ السُّكونِ إلى عطاءٍ واليأسِ منكَ في بلاءٍ)[9] وقوله (عليه السلام) وورد في نفس الدعاء (الهي علمت باختلاف الآثار وتنقلات الأطوار أن مرادك مني أن تتعرّف اليّ في كل شيء حتى لا أجهلك في شيء)[10].
4- إن ثواب العمل يمكن تحصيله وإدامته بالنية، فمادام الإنسان راغبا في عمل ويحب القيام به اذا تحق موضوعه –كشهر رمضان- وسنحت فرصته فانه يُعطى اجر ذلك العمل وان لم يقم به وان مناحب عمل قوم أُشرك معهم محباً لعمله فإنه يُشْرَك في أجره كما في الرواية بعد معركة الجمل لما تمنى شخص أن يكون أخوه شاهداً المعركة ليشاركهم الأجر ويفرح بانتصار امير المؤمنين (عليه السلام) فقال (عليه السلام): (أهوى أخيك معنا؟ فقال نعم، قال: فقد شَهَدَنا. ولقد شَهَدَنا في عسكرنا هذا أقوامٌ في أصلاب الرجال وأرحام النساء، سيرعف[11] بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان)[12] وهذا باب واسع من كرم ربِّ العالمين لزيادة رصيد العبد من الطاعات والقربات، ويعبّر الإمام الحسين (عليه السلام) في دعائه يوم عرفة عن هذه الحالة (إلهي إنك تعلم أني وإن لم تدم الطاعة مني فعلاً جزماً فقد دامت محبة وعزماً)[13] وهذا الدوام في النية هو ايضاً من لطف الله تبارك وتعالى فكأننا نقدّمه عذراً بين يدي الله تعالى على تقصيرنا في العمل.
5- إن الله تعالى جعل بكرمه أسباباً اخرى تؤدي هذا الغرض –أي إدامة العمل- فبخصوص الصوم ورد أنه (من صام ثلاثة أيام من كل شهر، كان كمن صام الدهر، لأن الله عز وجل يقول "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها")[14] وهي أول خميس وآخر خميس والأربعاء في الوسط، فإذا واظب عليها المؤمن كان في حالة صوم دائم ولم يفقد شيئا وهو من الأعمال التي أكّد عليها النبي (صلى الله عليه وآله) في وصيته لأمير المؤمنين والتي جاء فيها (يَا عَلِيُّ أُوصِيكَ فِي نَفْسِكَ بِخِصَالٍ فَاحْفَظْهَا عَنِّي ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ أَعِنْهُ) الى ان قال (صلى الله عليه واله وسلم) (وَ أَمَّا الصِّيَامُ فَثَلاثَةُ أَيَّامٍ فِي الشَّهْرِ الْخَمِيسُ فِي أَوَّلِهِ وَ الأرْبِعَاءُ فِي وَسَطِهِ وَ الْخَمِيسُ فِي آخِرِهِ)[15].
6- إن للتشريعات الالهية أسراراً وعللاً وأن أوامر الله تعالى ونواهيه لم ترد عبثاً وإنما المصالح ترجع الى العباد (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سبحانك) (آل عمران 191) (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً) (المؤمنون115) فالمطلوب من هذه الأعمال ليس حركاتها الخارجية وشكلياتها فقط وإنما حقائقها، وما هذه الأفعال الخارجية الا وسيلة لتحصيل تلك الحقائق قال تعال (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ) (الحج37) فأثر الصلاة النهي عن الفحشاء والمنكر (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) (العنكبوت45) فالغرض من تشريع الصوم هو تحصيل التقوى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة183) وإنما تكتسب هذه الأعمال قيمتها بمقدار تحقق الغرض منها كما في الرواية أن (مَن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلاّ بُعداً)[16] ولما كان المراد من الأعمال هذه الحقائق الواقعية لها فإدامتها يكون بإدامة آثارها، أعني التقوى من الصوم فكلما كان محافظاً على الصوم كان محافظا على التقوى والاحسان في العمل فهو في ضيافة الله تعالى وينهل من موائده المباركة وإن لم يكن في شهر رمضان، قال تعالى (إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) (النحل128).
[1] الكلمة التي تحدث بها سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع مصلي ديوان الزهراء (عليها السلام) في حي الجامعة في النجف الاشرف ومع حشد من الطلبة والشباب الذين يقضون العشرة الاخيرة من شهر رمضان في النجف يوم السبت 24 رمضان 1436 الموفق 11/7/2015
[2] أمالي الصدوق: 766
[3] أمالي الصدوق : ص ۹3
[4] بحار الأنوار : 93 / 29
[5] امالي الصدوق: 776
[6] مثل عربي.
[7] الكافي: ج3/454
[8] نهج البلاغة: باب الحكم: الحكمة 194
[9] مفاتيح الجنان: دعاء الامام الحسين (عليه السلام) في يوم عرفة
[10] نفس المصدر
[11] يرعف : يجود
[12] نهج البلاغة: الخطبة 12
[13] مفاتيح الجنان: دعاء الامام الحسين (عليه السلام) في يوم عرفة
[14] ميزان الحكمة/ ص 474 الحديث رقم 10668
[15] الكافى-ج8 ص79
[16] مجمع البيان: 8/285