خطاب المرحلة: (405) السيدة الزهراء (ع) وإقامة حكم الله تعالـى

| |عدد القراءات : 6610
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

السيدة الزهراء (ع) وإقامة حكم الله تعالـى(1)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيد خلقه أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

ورد في أحاديث شريفة عديدة عن النبي (صلى الله عليه واله) قوله: (إن لكل شيء حقيقة)([2]) وهذه الحقيقة تمثل روح ذلك الشيء ومضمونه الفعلي ومحتواه الذي يتقوّم به، ولا تتحقق للشيء مصداقية إلا به، ولا يكون الشيء بدون هذه الحقيقة إلا عبارة عن شكل وظاهر بلا محتوى.

فالصلاة لها حقيقة وهي المناجاة مع الله تبارك وتعالى والارتقاء إليه والانتهاء عن الفحشاء والمنكر، وتنقص قيمة الصلاة وحقيقتها بمقدار خلوّها من هذه الحقيقة، عن رسول الله (صلى الله عليه واله) قال: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بُعداً)([3]).

وقولنا في سورة الفاتحة [إِيَّاكَ نَعبُدُ] له حقيقة هي الطاعة التامة لله تعالى والتسليم والانقياد المطلق له تبارك وتعالى في سائر أمورنا وحركاتنا وسكناتنا.

وكل حقيقة تحتاج إلى دليل يبرزها ويؤكدها ويثبت وجودها، ومن دونه تكون الأشياء مجرد دعاوى، ويؤكد هذا الأمر الإمامُ الكاظم (عليه السلام) في وصيته لهشام بن الحكم، قال (سلام الله عليه): (يا هشام لكل شيء دليل ودليل العاقل التفكر ودليل التفكر الصمت)([4]) فلا بد أن لا نسلّم بالأمور والدعاوى حتى نتحقق من الدليل، ولا نسترخي للأوصاف التي ندّعيها لأنفسنا ونثبتها في هويتنا كالإسلام والتشيع وولاية أهل البيت (عليهم السلام) من دون أن نراقب أنفسنا ونتفقدها باستمرار ونمتحنها لنتلمس الدليل على صدق هذه الدعاوى.

هذه المقدمة تلقي الضوء على واقع مؤسف نعيشه نحن المسلمين وهو أننا ندعي عناوين كثيرة من دون تقديم الدليل على وجود حقائقها بل قد نقوم بالعكس من ذلك، فتخالف أقوالنا أفعالنا، لذا يعلمنا الإمام الحسين (عليه السلام) في الدعاء المروي عنه في يوم عرفه الاعتراف بهذا التقصير أمام الله تبارك وتعالى: (ومن كانت حقائقه دعاوى فكيف لا تكون دعاواه دعاوى)([5]) ويعلمنا الائمة (عليهم السلام) ان نسال الله تعالى ( استحقاق حقائق الايمان) ([6]).

وأهم تلك العناوين التي يجب أن نتأكد من وجود حقيقتها هو الإيمان بالله تبارك وتعالى لأنه أصل الدين وأساس الفوز والسعادة في الدنيا والآخرة، وتأكيداً لهذه الأهمية فقد كان النبي (صلى الله عليه واله) والأئمة المعصومون (عليهم السلام) يلفتون نظر الناس إلى تفقد هذه الحقيقة فيسألون من يقولون: (نحن مؤمنون) ويقولون لهم: (فما حقيقة إيمانكم) أو يبدؤونهم بالبيان كقول الإمام الباقر (عليه السلام): (لا يبلغ أحدكم حقيقة الإيمان حتى يكون فيه ثلاث خصال.. إلى آخر الحديث)([7]).

وقد بينت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة ما تكتمل به حقيقة الإيمان، قال تعالى: [فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً] (النساء : 65).

فيقسم الله تبارك وتعالى على هذه الحقيقة [فَلا وَرَبِّكَ] ويحصر الإيمان بها [لا يُؤمِنُونَ حَتى يُحَكّمُوكَ] ويعطينا قاعدة مهمة من قواعد العقيدة في الإسلام، وهي أن أهم مظهر للتوحيد والإيمان بالله هو إقامة حكم الله تبارك وتعالى في الأرض، وتطبيق شريعته في شؤون الحياة والرجوع إليه في الحكم والالتزام بمنهجه في الحياة، وإن هاتين القضيتين متلازمتان، وإن جوهر الصراع بين الإيمان وخصومه هو في من له حق الحاكمية والتشريع ورسم المنهج الذي تسير عليه البشرية، هل هو الله تعالى خالق الكون والانسان والعالم بما يصلحه ويسعده، أم الإنسان بقصوره وفقره وعجزه ومصالحة المتصارعة وأهوائه المتقلبة [وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ] (المؤمنون:71)؟.

لذا فإن الآية الكريمة تؤكد على أن الإيمان الحقيقي يكتمل بثلاثة عناصر:-

1-   الرجوع إلى شريعة الله تعالى التي بلّغها رسول الله (صلى الله عليه واله) والأئمة المعصومون (عليهم السلام) ومن بعدهم العلماء العاملون المخلصون [حَتَّى يُحَكِّمُوكَ] أي يرجعون إليك في كل أمورهم ويأخذون الحكم منك ولا يحكمون غيرك وغير من نصبتهم من الحجج، وإن كل قانون يضعه البشر لم يؤخذ من الشريعة فإنه باطل وينافي أصل الإيمان بالله تعالى ولا يجوز لأحد أن يشرّع ويقنن خارج النصوص الشرعية.

2-   أن يسلّموا بتلك الأحكام ويذعنوا إليها ويؤمنوا بها سواء أدركوا المصلحة فيها وعرفوا أسرار تشريعها أو لم يدركوا ذاك، وأن لا يشعروا بالحرج والضيق إذا عاب أحد عليهم هذه الأحكام أو انتقصها أو زعم أنها تخالف حقوق الإنسان وتنافي الحرية والعدالة والمساواة، أو أنها رجعية وتخلف ولا تواكب الزمان الحاضر، ونحو ذلك من التهم والاستفزازات.

3-   أن يلتزموا بتلك الأحكام ويطبقوها في حياتهم من دون تبعيض وانتقائية للأحكام التي توافق رغباتهم وأهوائهم ومصالحهم، ويعرضون عنها إذا كانت لا تحقق مصالحهم الضيقة وتصطدم مع أهوائهم وشهواتهم، وإنَّ صدق الإيمان يظهر عندما يكون الحكم على خلاف الهوى والمصلحة ومع ذلك يسلِّم له ويطبقه ولا يجد في نفسه حرجاً منه.

روى الشيخ الكليني في الكافي بسند صحيح عن عبد الله بن يحيى الكاهلي قال: قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): (لو أن قوماً عبدوا الله وحده لا شريك له، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجوا، وصاموا شهر رمضان، ثم قالوا لشيء صنعه الله أو صنعه رسول الله (صلى الله عليه واله): ألا صنع خلاف الذي صنع؟ أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين، ثم تلا هذه الآية: [فلا وربك لا يؤمنون..] ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): عليكم بالتسليم)([8]).

ولقد أكد القرآن الكريم هذه الحقيقة في آيات كثيرة، قال تعالى: [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ] (الأحزاب : 36) وقال تعالى: [وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ] (الأنعام: 153)، وقال تعالى: [إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ](آل عمران:19)، وقال تعالى: [وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ] (آل عمران:85) وغيرها.

والروايات الشريفة حافلة أيضاً بهذه المعاني، وقد حظيت أحكام ما يعرف اليوم بالأحوال الشخصية باهتمام كبير من الأئمة (عليهم السلام) ولم يعذروا من يطبق القوانين الوضعية ولا يرجع إلى الأحكام الشرعية لأنها تنظم أموراً أساسية في حياة الأفراد كالزواج والطلاق والمواريث وأي خلل فيها يعني وقوع الناس في المحرمات في ذرياتهم وأموالهم، ولا مجال فيها للاعتذار بالتقية ونحوها لأنها قضايا شخصية لا تتعارض مع السلطات، وتحركوا بالوسائل المتاحة لهم (عليهم السلام) ليقنعوا الأمة بها([9]).

أيها الأحبة المجتمعون لنصرة الصديقة الطاهرة (ع):

إن السيدة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) حينما قامت بأمر الله تعالى في وجه الانحراف والظلم وطالبت بحقها في فدك وحاججتهم بآيات المواريث إنما أرادت أن تنطلق من هذا الحكم المتعلق بالأحوال الشخصية إلى مطلب أوسع وأعظم وهو إقامة شريعة الله تعالى في الأرض وعلى رأسها اتباع الإمام الحق والقيادة الصالحة المصلحة المتعيّنة بأمير المؤمنين (عليه السلام)، والقوم قد فهموها هكذا؛ لذا أرادوا قطع الطريق من أوله على مشروع السيدة الزهراء ((يقول ابن أبي الحديد المعتزلي في أمر فدك: وسألت علي بن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد –وهو من علماء العامة- فقلت له: أكانت فاطمة ع صادقة؟ قال نعم. قلت: فلِمَ لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة؟ فتبسّم ثم قال: لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها لجاءت إليه غداً وادعت لزوجها الخلافة، وزحزحته عن مقامه، ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشيء؛ لأنه يكون قد أسجل على نفسه أنها صادقة في ما تدعي كائناً ما كان من غير حاجة إلى بينة ولا شهود. قال ابن أبي الحديد: وهذا كلام صحيح ))([10]).

وهذا ما يقوم به الأعداء على طول التأريخ منذ أن صدع النبي (صلى الله عليه واله) بالدعوة الإسلامية المباركة فيعملون على إجهاض كل حركة لإيقاظ الناس وتفعيل دور الدين في حياة الأمة ويسعون لإبقاء الأغلال التي تكبّل الأمة ويحيطون الحركة بالتشويه والتسقيط والشبهات كما حصل اليوم في مواجهة القانون الجعفري لتبقى الغشاوة على عيون الناس وإلحاق الهزيمة بالإسلام، وهذا يفسّر اجتماع كل القوى في الداخل والخارج على معارضة القانون وهو ما يزال مسودّة لم يعرض للنقاش أصلاً؛ لأنهم يخشون من آثاره المباركة اللاحقة على الأمة.

لقد كانت الصديقة الطاهرة (ع) حازمة وصريحة في وعظهم وتحذيرهم بأنهم يعودون إلى جاهليتهم الأولى إذا خالفوا حكم الله تعالى، قالت (ع) في خطبتها: (وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا، أفحكم الجاهلية تبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون؟ أفلا تعلمون؟ بلى قد تجلى لكم كالشمس الضاحية أني ابنته)([11]).

فتذكرهم (ع) بقوله تعالى: [أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ] (المائدة:50) ويفسّرها الإمام الباقر (عليه السلام) بقوله: (الحكم حكمان حكم الله وحكم الجاهلية وقد قال الله عز وجل: [وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ] واشهدوا على زيد بن ثابت لقد حكم في الفرائض –أي المواريث- بحكم الجاهلية)([12])، والكلام شامل لغير زيد ممن خالفوا حكم الله تعالى.

أيها الأحبة:

إن تطبيق الأحكام الشرعية وتنظيم شؤون الحياة على أساسها قضية حدية فاصلة لا تقبل المساومة والمداهنة والتبعيض أو التأجيل بحجة أن الوقت غير مناسب أو أي عذر آخر، فلا تسويف لأمر الله تعالى فإما أن يُطبَّق حكم الله تعالى وإما أن يكون الحكم حكم أهل الجاهلية، روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: (الحكم حكمان: حكم الله وحكم الجاهلية فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهلية)([13]).

إن فهم هذا الصراع والنهوض بمسؤولية الدفاع عن الإسلام وإقناع البشرية به وبقدرته على قيادة الحياة –كما عبّر السيد الشهيد الصدر الأول (ق) حينما عنون أحد كتبه بذلك- هو سر انقسام المرجعية الدينية والحوزة العلمية إلى خطين وقيادتين متباينتين في المنهج والسلوك، أولهما عالم فاعل عامل لا يكتفي بتنميق الكلمات على الأوراق فقط بل يتحرك ويواصل الليل بالنهار ليعيد للإسلام هيبته وعزته وللمسلمين كرامتهم وحريتهم وثقتهم بأنفسهم ويدلّهم على معالم هويتهم المسلوبة من خلال ما يقدّم من نظريات وتشريعات ومنظومات فكرية ومعرفية تثبت أن دين الإسلام هو أصلح نظام للبشرية اليوم وغداً كما كان بالأمس، فألّف الشهيد الصدر الأول (ق) اقتصادنا وفلسفتنا ومجتمعنا والأسس المنطقية للاستقراء والبنك اللاربوي وغيرها، مما أبهر عقول خصومه وأصدقائه على حد سواء؛ لذا لا نستغرب قيام الحكومة الروسية رمز النظام السياسي والاقتصادي الذي استهدفه في كتبه بنصب تمثال([14]) للسيد الشهيد الصدر الأول العالم العربي المسلم الوحيد الذي يكرَّم بهذا الشكل في قلب عاصمة الاتحاد السوفيتي سابقاً وفي أهم صروحها العلمية في موسكو باعتباره صاحب إنجازات إنسانية عظيمة، بينما تُعرض الحوزة النجفية عنه وعن آثاره والاحتفال به –ونحن نعيش ذكرى استشهاده الرابعة والثلاثين- وكأنه ليس مفخرتها وجوهرتها ووجهها الناصع ([15]).

إن من أهم أشكال النصرة للسيدة الزهراء (ع) وللمعصومين جميعاً لنكون صادقين في قولنا لهم عند زيارتهم (عليهم السلام): (ونصرتي لكم معدة) هو السعي الدؤوب لهداية الناس وإرشادهم، والضغط المستمر لإقرار القوانين التي تنظم حياتهم وفق الشريعة الإلهية خصوصاً في الأحوال الشخصية كالزواج والطلاق والميراث والوصية والوقف لأنها لا تتنافى مع حق أحد ولا تسلب حرية أحد ولا تكره أحداً على خلاف ما يعتقد.

إن الله تبارك وتعالى حذّرنا بشدة من العمل بالقوانين الوضعية التي تتنافى وأحكام الدين، قال تعالى: [وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ] [وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] [وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ] (المائدة:44، 45، 47).

ويؤكد الله تعالى على نبيه أن لا يتأثر بالمغريات والتهديدات والتسقيط الإعلامي ونحو ذلك من الضغوط لترك العمل بالقوانين الإلهية، قال تعالى: [وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ] (المائدة:49) ثم يبين الله تعالى أن أحسن الأحكام وأصلحها للبشر وأكثرها ملاءمة لطبيعة تكوينه الفردي والاجتماعي هي أحكام الله، قال تعالى: [أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ] (المائدة:50).

فلنراجع واقعنا ولننظر هل مناهج التعليم المتبعة موافقة للشريعة؟ وهل العلاقات الاجتماعية القائمة بيننا منضبطة بتعاليم الإسلام؟ وهل السنائن العشائرية التي يحكمون بها مأخوذة من الشريعة؟ وهل وهل .. مما يطول ذِكره.

لقد سجّلت المؤمنات الرساليات من حرائر العراق المتأسّيات بالسيدة الزهراء (ع) والعقيلة زينب (ع) موقفاً مشهوداً في نصرة دين الله تعالى حين عقدن تجمعات حاشدة بالآلاف في مختلف المدن العراقية للمطالبة بتصحيح مواد قانون الأحوال الشخصية وفق الأحكام الشرعية، ووجّهن صفعة شديدة لمن يريد إبقاء المجتمع العراقي المسلم المؤمن يعمل على وفق قوانين الجاهلية.

وأعادت هؤلاء النسوة للمرأة عموماً الثقة بنفسها وبقدرتها على إحداث التغيير والإصلاح وانتزاع الحقوق، تلك القدرة التي سُلبت منها عبر الأجيال نتيجة لعوامل عديدة، وساعدت نفس المرأة على استلابها باستكانتها واستسلامها وخضوعها للأعراف والتقاليد والثقافات التي لا تمت إلى الإسلام بصلة، وتناست المرأة أن من أهم ثمرات ونتائج القيام الفاطمي والزينبي هو إعادة الثقة للمرأة بنفسها وأنها قادرة على انتزاع الحقوق وإيقاظ الأمة وإعادة الأمور إلى نصابها، فقامت هذه النسوة بتذكير الأمة بهذه الثمرة المباركة للقيام الفاطمي الزينبي العظيم.

وها هي الانتخابات البرلمانية مقبلة بإذن الله تعالى، وتشكل النساء نصف عدد الناخبين تقريباً فهن إذن الرقم الصعب القادر على قلب الطاولة على رؤوس كل دهاقنة السياسة وتجار الحروب وأصحاب الأجندات الظالمة الفاسدة من الداخل والخارج.

لقد كان من بركات هذه اليقظة وهذا الحراك الفكري والاجتماعي وإثارة مكامن القوة الإنسانية في الشريعة الإسلامية التفات المسلمين إلى المطالبة بحقهم في تشريع القوانين الخاصة بهم وجاءت ثمرتها في بريطانيا قبل أيام حيث اعتمدت لأول مرة في محاكمها الشريعة الإسلامية في الإرث والوصية لتنظيم شؤون المسلمين فيها؛ وقد وجدت الحكومة البريطانية([16]) في إعطاء هذا الحق للمسلمين خطوة تساعد على شعور المسلمين بالمواطنة وعدم الإقصاء والتهميش، فأتاح الله تبارك وتعالى هذا القرار في عنفوان الجدل حول القانون الجعفري ليكون حجة دامغة على المهزومين والمنبهرين بالغرب وسائر المعترضين على إقرار القانون الجعفري.

أليس من الغريب أن يكون الإسلام بهذه الدرجة من التأثير في بلاد غير المسلمين بينما يستضعفه أبناؤه في بلادهم ويشعرون بالهزيمة الداخلية ويخجلون من إعلان هويتهم والتحرك بمشروعهم!.

فأحيوا أيها الأحبة خصوصاً الشباب والمثقفين وطلبة الجامعات- في نفوسكم الشعور بالفخر والاعتزاز ورفعة الرأس وأنتم تنتمون إلى هذا الدين العظيم، وأحسِّوا بقيمة كلمة أمير المؤمنين (عليه السلام): (إلهي كفى بي عزّاً أن أكون لك عبداً، وكفي بي فخراً أن تكون لي ربّاً، إلهي أنت كما أحب فاجعلني كما تحب) في حين يتخذ غيرهم ارباباً من اهوائهم وشهواتهم وفراعنتهم او موروثاتهم فيطيعونها من دون الله .

أيها الإخوة والأخوات المجتمعون على ولاية أهل البيت (عليهم السلام):

اعلموا أنكم بنصرتكم للسيدة الزهراء (ع) والقانون الجعفري ساهمتم في رفع جزء من البلاء والتيه الذي كان ستقع فيه الأمة لو أجمعت على خذلان دين الله تعالى ولم يجد الدين انصار مثلكم، قال الله عز وجل: [وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ] (هود:117) وقال تعالى: [وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ] (البقرة:251) وقال تعالى: [فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ] (يونس:98).

نسأل الله تعالى أن يمدّ المؤمنين والمؤمنات بنصره ويزيد في توفيقهم ويكلل جهودهم بالنجاح ببركة إحيائكم لهذه الشعيرة المقدسة والله ولي التوفيق



([1]) الخطاب الفاطمي السنوي لسماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) في الآلاف من الجموع التي جاءت لزيارة أمير المؤمنين (ع) في ذكرى استشهاد الصديقة الزهراء (ع) يوم الثالث من جمادى الآخرة، عام 1435 الموافق 3/نيسان/2014 قبل انطلاقهم في التشييع الرمزي .

([2]) راجعها في ميزان الحكمة: 1/285.

([3]) ميزان الحكمة: 5/109.

([4]) تحف العقول: 246.

([5]) مفاتيح الجنان، 315.

([6]) في الدعاء الذي اوله (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ إِخْبَاتَ الْمُخْبِتِينَ)

([7]) ميزان الحكمة: 1/286.

([8]) الكافي: 1/321، ح2.

([9]) ويصل الاهتمام إلى درجة أن الإمام يسعى لإقامتها ولو بالقوة، في رواية صحيحة في الكافي عن الإمام الصادق (ع): (لا يستقيم الناس على الفرائض –أي المواريث- والطلاق إلا بالسيف) ومثلها عن الإمام الباقر (ع).

وفي رواية أخرى عن أحدهم قال: (سألت أبا عبد الله الصادق (ع) عن النساء هل يرثن من الرباع –أي الأراضي-؟ فقال: لا، ولكن يرثن قيمة البناء، قال: قلت: فإن الناس لا يرضون بذا؟ فقال: إذا وُلِّينا فلم يرضَ الناس بذلك ضربناهم بالسوط فإن لم يستقيموا ضربناهم بالسيف)(الروايات في الكافي: ج7، كتاب المواريث، باب 44).

([10]) شرح نهج البلاغة: 16/284.

([11]) الاحتجاج: 1/131.

([12])  الكافي: 7/407.

([13]) التهذيب: 6/218، ح5، باب من إليه الحكم وأقسام القضاة والمفتين.

([14]) وُضع التمثال النصفي في جامعة موسكو الحكومية للعلاقات الدولية التابعة لوزارة الخارجية الروسية ورفع الستار عنه يوم الجمعة 28/2/2014 في احتفال حضره مثقفون وأكاديميون وسياسيون روس، ورؤساء عدد من البعثات الدبلوماسية.

([15]) بعد ايام من هذا النقد اللاذع اقام السيد جعفر نجل السيد الشهيد محمد باقر الصدر (ق) مجلسا تأبينيا حوزويا وليس سياسيا كما اعتاد عليه السياسيون في السنوات السابقة، واُقيم المجلس في جامع الطوسي في النجف الاشرف يوم الاربعاء 9-4-2014 وحضره سماحة المرجع اليعقوبي ومراجع الدين وممثلوهم وعلماء وفضلاء الحوزة واعداد غفيرة من المؤمنين .

([16]) اعلنت وزارة الخارجية البريطانية ذلك على موقعها باللغة العربية يوم 22-3-2014 ووصف بعض ذوي الشأن القرار بأنه (مدهش) ويساعد على دمج المسلمين في المجتمع البريطاني