وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ
بسمه تعالى
(وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) ([1])
(سورة محمد/38)
تبيّن الآية سنة إلهية وقانوناً ثابتاً وفي نفس الوقت توجّه تحذيراً لكل الناس، مفاده أن المشروع الإلهي الذي حملته رسالة الاسلام العظيمة ماضٍ وسائر في طريق تحقيق الأهداف المرسومة له، وإنَّ تقاعسَ واعراض البعض –مهما كثر عددهم- لا يعرقل هذه المسيرة الإلهية وإنما تُعرض الرسالة عليهم وتطلب النصرة منهم لطفاً بهم من الله تعالى وامتناناً عليهم ليحصلوا على شرف المشاركة وثواب العاملين في الدنيا والآخرة، فإذا أعرضوا عن هذا التكليف ولم يتحملوه فإنهم هم الخاسرون وسيوفق الله تعالى أقواماً غيرهم لينهضوا بهذه المسؤولية ويحصلوا على نتائجها المباركة.
والخطابات القرآنية عامة شاملة لكل الأجيال ولكل الأزمان فلا يتصور أحد أن هذه الآية خاصة بالقوم الذين كانوا حول النبي (ص) وإنه تهديد لهم فقط، وإنما هي سنة إلهية عامة ثابتة (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) (فاطر/43) وقد أشارت عدة آيات قرآنية إلى هذه السنة الإلهية ،قال تعالى (إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التوبة/39) ،(وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ) (الواقعة/60- 61) ،(إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) (المعارج/41).
وقد تركت الآية كلمة (تتولوا) بلا ذكر لمتعلقها، وإن التولي يكون عن ماذا؟ لتكون مطلقة وتكون السُنة جارية في كل تولي واعراض سواء تعلق بأصول الدين أو فروعه أي مطلق طاعة الله تعالى.
إذ من الناس من يعرض ويتولى عن أصل الإيمان والدين ويتجرد منه ويتحول إلى لا ديني ويتبنى أفكاراً وأيديولوجيات مناهضة للدين ومشككة فيه بأي عنوان كان كالملحد أو الكافر ونحو ذلك، وهذا المورد من التولي والاعراض ذكرته آية أخرى قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ) (المائدة/54).
ومنهم من يؤمن نظرياً بالإسلام لكنه لا يقوم بالتزاماته وقد ذكرت الآيات المتقدمة على الآية محل البحث من سورة الحديد صوراً من الخذلان الذي يصيب الانسان كعدم الانفاق في سبيل الله تعالى وكالقعود عن الجهاد في آية سورة التوبة المتقدمة، أو أي فرصة من فرص الطاعة التي يهيئها الله تعالى للإنسان كمساعدة محتاج أو قضاء حاجة مؤمن فإنه إن فوّتها ولم يستثمرها فإن الله تعالى سيقيِّض من يقوم بها وهو شاكر لله تعالى على توفيقه.
ولا شك أنّ من أكثر الموارد التي تظهر فيها هذه السنة الإلهية هي طاعة من أمر الله تعالى بطاعته وهو النبي (ص) ومن بعده الأئمة المعصومون (عليهم السلام) ثم العلماء العاملون المخلصون النوّاب عن الإمام(عليه السلام) في غيبته ، فإنّ من يتقاعس عن طاعتهم والالتزام بتوجيهاتهم فضلاً عمّن يشكّك فيهم ويفتري عليهم ويسقّطهم فإن التوفيق يُسلبُ منه ويُمنَح إلى آخرين مطيعين مخلصين (ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد/38) بل يكونون ثابتي الإيمان ذوي همم عالية وإصرار على العمل.
وهذا الابتلاء مرّت به الامم ففشل اكثرهم وتولّوا واعرضوا فاصيبوا بأسوء النتائج، ماذا كان دعاء أمير المؤمنين (عليه السلام) حينما خذله أصحابه وتقاعسوا وتفرقوا، (قال (عليه السلام) في سحرة اليوم الذي ضُرب فيه: ملكتني عيني وأنا جالس، فسنح لي رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقلت: يا رسول الله، ماذا لقيتُ من امتك من الأَوَد –أي الاعوجاج- واللَدد- أي الخصام-؟ فقال: ادع عليهم، فقلتُ: أبدلني الله بهم خيراً منهم وأبدلهم بي شراً لهم مني).[2]
خذ مثلاً السيد الشهيد الصدر الثاني (قده) فإن كثيراً من العناوين الكبيرة وغيرهم داخل الحوزة وخارجها خذلوه وعارضوه وشككوا فيه وفي حركته فحرموا من هذا اللطف الإلهي، وهيّأ الله تعالى للسيد الشهيد شباباً مليئين بالإيمان والحيوية والتفاني أخذوا المواقع المخصّصة لأولئك الذين حرموا أنفسهم من هذا الفضل العظيم، واستمرت هذه الحركة المباركة حتى بعد استشهاده ومرور (16) سنة على رحيله، لكن صدى حركته اليوم وآثارها المباركة أوسع مما كانت في حياته الشريفة.
وإذا أردنا أن نعرّج على كربلاء ونأخذ الشواهد منها، فهناك شخصان نقرّب جريان سنة الاستبدال عليهما بحسب الظاهر.
أحدهما: عبيد الله بن الحر الجعفي أحد الفرسان المعروفين بالفتك وهو معدود من شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) وله نسخة يرويها عنه (عليه السلام) – بحسب رجال النجاشي-، التقاه الحسين (عليه السلام) في طريقه إلى كربلاء ودعاه إلى نصرته فامتنع عبيد الله عن الإجابة وقدّم للحسين فرسه المسماة بالمحلّقة وقال ((هذه فرسي المحلّقة فاركبها فوالله ما طلبت عليها شيئاً إلاّ أدركته ولا طلبني أحد إلا فتّته حتى تلتحق بمأمنك وأنا ضمين بعيالاتك أؤديهم إليك))، فقال الحسين (عليه السلام) (لا حاجة لنا فيك ولا في فرسك، وما كنت متخذ المضلّين عضداً)([3]) فنصحه الحسين (عليه السلام) بأن يغيّب وجهه ولا يشهد واعيته وقال (عليه السلام) (فوالله لا يسمع اليوم واعيتنا أحد ثم لا يعيننا إلاّ كبّه الله على منخريه في النار).
ثانيهما: الحر الرياحي الذي كان قائداً كبيراً في جيش الأمويين وهو الذي قاد الكتيبة التي اعترضت الإمام الحسين (عليه السلام) في طريقه ومنعته من العودة إلى أهله ودياره ورافقته حتى نزل كربلاء لكنه في لحظة من لحظات التوفيق والألطاف الإلهية وقف وتأمل في مصيره وعاقبته وخيّر نفسه بين الدنيا المزخرفة التي كان يتمتع بها في ركاب بني أمية لكن عاقبتها النار، وبين القتال والشهادة بين يدي أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) وختامها مسك والفوز والجنة ورضوان الله فقال كلمته التي نقلت عبر الأثير إلى كل الأجيال (لا أختار على الجنة شيئاً أبداً).
محل الشاهد ان هذا المقعد في قافلة شهداء الخلود لما تولى عنه عبيد الله وأعرض عنه ملأه غيره وهو الحر الرياحي وفاز به ومضت القافلة في طريقها، وبقي عبيد الله نادماً متحسراً على تفويت هذه الفرصة فالتحق بالمختار لأخذ الثأر ثم اختلف معه والتحق بمصعب ثم اختلف معه وقاتله.
ومن شعره المعبّر عن عظيم حسرته:
فيا لَكِ حسرةً ما دمتُ حياً |
|
تَردُّد بين حلقي والتراقي |
حسين حين يطلبْ بذل نصري |
|
على أهل الضلالة والنفاق |
غداة يقول لي بالقصر قولاً |
|
أتتركنا وتزمع بالفراق |
ولو أني أواسيه بنفسي |
|
لنلت كرامة يوم التلاق |
مع ابن المصطفى نفسي فداه |
|
تولى ثم ودّع بانطلاق |
فلو فلق التلهف قلبَ حي |
|
لهمَّ اليوم قلبي بانفلاق |
فقد فاز الاولى نصروا حسيناً |
|
وخاب الآخرون إلى النفاق([4]) |
ولابد أن نلتفت إلى أن هذا الاستبدال من الله تعالى ما كان ليحصل في الخارج إن لم يسبقه استبدال في داخل النفس من قبل الشخص نفسه فاستحق ذلك التبديل (أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ) (التوبة/38) (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) (البقرة/61) .
وهذا كله تطبيق لسنة الله تعالى (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/11) سواء بإتجاه الخير أو الشر، ولذا كان من الادعية الواردة عن اهل البيت (عليهم السلام) (وتجعلني ممن تنتصر به لدينك ولا تستبدل بي غيري)([5]).
فعلينا أن نكون حذرين يقظين ونبادر إلى أي فرصة للطاعة ولا نفوّتها أو نؤخرها أو نعتقد أنه لا أحد يستطيع أن يأخذها منّا ويملأ مكاننا فيها، فإن الله تعالى غني عن خلقه ويستبدل بالمقصرين والعاصين من يحبّهم الله تعالى ويحبونه ثم لا يكونوا أمثالكم.
[1]) من كلمة سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من طلبة جامعة ميسان وطلبة بعض المدارس القرآنية وعدد من القيادات الميدانية لمتطوعي لواء الشباب الرسالي وبعض المنظمات الانسانية يوم السبت 17/ذ ق/1435 المصادف 13/9/2014.
([2]) نهج البلاغة: 135، الخطبة 70.
([3]) راجع تفصيل ترجمته ومصادرها في أدب الطف للمرحوم الخطيب السيد جواد شبر: 1/94-100.
([4]) أدب الطف أو شعراء الحسين (عليه السلام) للمرحوم السيد جواد شبر: 1/96.
([5]) مفاتيح الجنان :327 ادعية ليالي شهر رمضان.