خطبتا صلاة عيد الفطر المبارك 1435
بسم الله الرحمن الرحيم
الثلاثاء 1-شوال-1435هـ
الموافق 29-7-2014م
خطبتا صلاة عيد الفطر المبارك 1435
اقام سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) صلاة عيد الفطر المبارك بمكتبه في النجف الاشرف.
و القى سماحته (دام ظله) خطبتي صلاة العيد في جموع المؤمنين المصلين .
وبين سماحته في الخطبة الاولى المسؤوليات المتعددة-الاسرية والاجتماعية -التي تقع على عاتق أرباب الأٌسر والاباء وكل من يلي مسؤولية في ضوء الآية الشريفة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)وانطلاقا من الدروس المستوحاة من الحديث الشريف (ألا كُلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على أهل بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).
و في معرض تبيانه لأهمية هذه المسؤوليات قال سماحته: (وتبرز اهمية هذه المسؤولية لامتلاك الفساد والضلال والانحراف وسائل وتقنيات وأدوات متطورة وفاعلة ومثيرة وجاذبة مما يوجب أكثر من ذي قبل الاهتمام بهذا الأمر الإلهي العظيم ووضع الآليات المناسبة للالتزام به).
كما اوضح سماحته في عدة نقاط ملاكات ومناسئ هذه المسؤوليات المؤكدة، (منها) مسألة قرن الاهل بالنفس في الخير والشر أمر فطري ونزعة طبيعية لدى الانسان و(منها) ان للشخص سلطنة وقيمومة و ولاية شرعية واجتماعية وعرفية خاصة على اهله وذويه مما تعطيه قوة في التأثير و(منها) ايضاً ان صلاح المجتمع انما يأتي من صلاح الاسرة لكونها اللبنة الاساسية للمجتمع و(منها) وجود مسؤولية اجتماعية على الفرد تجاه اسرته ضمن اطار معادلة طردية .
كما ذكر سماحته عدة نقاط اخرى في هذا المجال .
اما في الخطبة الثانية : فقد تضمنت شرحاً للوجوه التي يمكن ان تفهم من خلالها قضية مهمة ومحورية في حياة الامة، جيلاً بعد جيل، وهي قضية غيبة الامام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) ووجه الانتفاع بها، والتي وردت في عدة روايات منها ما ورد في الأمالي عن الامام الصادق (عليه السلام) قال : لم تخلو الأرض منذ خلق الله تعالى آدم من حجة لله فيها ظاهرٌ مشهور أو غائب مستور ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجة لله فيها ولولاهُ لم يُعبد الله، فقلتُ للصادق (عليه السلام): فكيف ينتفع الناس بالحجة الغائب المستور؟ قال: كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب.
واوضح سماحته في عدة نقاط وجوهاً لتشبيه الامام (عليه السلام) بالشمس .. كما اوضح وجوها اخرى لتشبيه غيبة الامام (عليه السلام)بالشمس اذا جللها السحاب .
وفيما يلي النص الكامل للخطبتين :
الخطبة الاولى :
بسمه تعالى
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً)(1)
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُم وَيَفعَلُونَ مَا يُؤمَرُونَ] (التحريم:6).
الآية الشريفة تتضمن درساً في المسؤولية الأسرية والاجتماعية انطلاقاً من الحديث الشريف (ألا كُلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على أهل بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)([2]).
وتبرز أهمية هذه المسؤولية اليوم بشكل واضح لامتلاك الفساد والضلال والانحراف وسائل وتقنيات وأدوات متطورة وفاعلة ومثيرة وجاذبة مما يوجب أكثر من ذي قبل الاهتمام بهذا الأمر الإلهي العظيم ووضع الآليات المناسبة للالتزام به.
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] خطاب عام موجّه لجميع المؤمنين والمؤمنات .
[قُوا] فعل أمر من الوقاية، و((الوقاية حفظ الشيء عما يؤذيه ويضرّه، قال تعالى: [فَوَقَاهُم اللهُ] (الإنسان:11) وقال تعالى: [وَوَقَاهُم عَذَابَ الجَحِيمِ] (الدخان:56)، والتقوى جعل النفس في وقاية مما يُخاف، وصار التقوى في تعارف الشرع حفظ النفس عما يؤثم، وذلك بترك المحظور، ويتم ذلك بترك بعض المباحات لما روي (الحلال بيِّن والحرام بيِّن ومن رتع حول الحمى فحقيق أن يقع فيه) ))([3]).
[أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ] وجوب وقاية النفس وحفظها من النار ثابت وواضح، والجديد في الآية أنها تقرن الأهل بالنفس في حفظهم من ارتكاب ما يوجب النار التي وصفتها الآية الشريفة بأوصاف مرعبة.
وقد نبه القرآن الكريم إلى هذه العناية الخاصة بالأهل في آيات كثيرة، كقوله تعالى مخاطباً نبيه الكريم (صلى الله عليه وآله): [وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا] (طه:132) وكان من أوائل ما نزل عليه (صلى الله عليه وآله) في بداية الدعوة الإسلامية: [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] (الشعراء:214) وحكى عن إسماعيل صادق الوعد بقوله تعالى: [وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ] (مريم:55). فهناك إذن مسؤولية خاصة عن الأهل جمعها قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ] (التحريم:6).
ويشهد لهذا الوجوب المؤكد نصوص شريفة أخرى، كقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدّبوهم)([4]) كما يشهد له ورود تطبيقات لهذه المسؤولية الخاصة كتأديب الصبيان على الصلاة من عمر ست أو سبع سنين([5])، أو ما ورد في أعمال ليلة القدر أن السيدة الزهراء (عليها السلام) كانت لا تدع أهلها ينامون في تلك الليلة وتعالجهم بقلة الطعام وتتأهب لها من النهار أي كانت تأمرهم بالنوم نهاراً لئلا يغلب عليهم النعاس ليلاً، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوقظ أهله في تلك الليلة ويرشّ وجوه النيام بالماء([6]).
ولا تعني هذه الدعوة التي أطلقتها الآية لوقاية الأهل من النار إكراههم على شيء، فقد شرحت حدود هذه المسؤولية روايات عديدة رواها الشيخ الكليني في الكافي([7]):
(منها) عن أبي بصير عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قول الله عز وجل: [قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً]، قلتُ: كيف أقيهم؟ قال: تأمرهم بما أمر الله، وتنهاهم عما نهى الله، فإن أطاعوك كنت قد وقيتهم، وإن عصوك كنت قد قضيت ما عليك).
(ومنها) عن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لما نزلت هذه الآية: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً] جلس رجلٌ من المسلمين يبكي، وقال: أنا عجزت عن نفسي وكُلّفت أهلي! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): حسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك، وتنهاهم عما تنهى عنه نفسك).
فالمطلوب بمقتضى هذه الآية أن يحفظ الإنسان أهله من الوقوع في المعاصي وما يسخط الله تعالى بأن يرشدهم إلى الطاعة ويقرّبهم منها ويزيّنها لهم ويقنعهم بها ويكافئهم على فعلها، وبنفس الوقت يحذّرهم من المعصية ويردعهم عنها ويحميهم من الوقوع فيها.
وقد ذكر العلماء (قدس الله أرواحهم) في رسائلهم العملية أمثلة لهذه المسؤولية فقالوا: ((يجب عليه إذا رأى من أهله التهاون في الواجبات، كالصلاة وأجزائها وشرائطها بأن لا يأتون بها على وجهها لعدم صحة القراءة والأذكار الواجبة منهم، أو أنهم لا يتوضأون وضوءاً صحيحاً، أو لا يطهرون أبدانهم ولباسهم من النجاسة على الوجه الصحيح، فيجب عليه تعليمهم وأمرهم ونهيهم على الترتيب المتقدم حتى يأتوا بها على وجهها الصحيح. وكذا الحال في بقية الواجبات، وكذلك في المعاملات وسائر الأحكام. وكذا إذا رأى منهم التهاون في المحرمات كالغيبة والنميمة والعدوان بين بعضهم على بعض أو على غيرهم أو الزنا أو شرب الخمر أو السرقة، فإنه يجب عليه أن ينهاهم عن المنكر، حتى يرتدعوا عن المعصية))([8]).
ويمكن أن نفهم لهذه المسؤولية المؤكدة عدة ملاكات ومناشئ:-
1- إن هذا التأكيد وقرن الأهل بالنفس في الخير والشر يلاحظ أمراً فطرياً ونزعة لدى الإنسان فإنه يعتبر أهله كنفسه يصيبه ما يصيبهم، من وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لولده الحسن (عليه السلام) قال: (ووجدتك بعضي، بل وجدتك كلي، حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني، وكأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي)([9]). وقد حكى القرآن الكريم عن جملة من الأنبياء (عليهم السلام) هذه الغريزة الإنسانية، قال تعالى عن إبراهيم (عليه السلام): [قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي] (البقرة:124) وقال عن النبي نوح (عليه السلام): [وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ] (هود:45) وقال تعالى عن النبي لوط (عليه السلام): [رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ] (الشعراء:169). ومن الأدعية التي وردت في القرآن الكريم [رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي] (الأحقاف:15) والخلاصة أن الأمر بوقاية الأهل ينبّه الإنسان على أنك إن أردت الخير لأهلك وأن يلتحقوا بك في الجنة فعلّمهم ما يتقون.
2- إن للشخص سلطنة وقيمومة وولاية عرفية واجتماعية وشرعية خاصة على أهله وذويه مما تعطيه قوة في التأثير ومن غير المتوقع وجود موانع من ممارسة الفريضة كالتي يمكن أن تحصل مع الغير مثل حصول الضرر أو اختلال النظام ونحو ذلك، فتكون مسؤوليته أكبر لأن وجود المقتضي أقوى والمانع يكاد يكون مفقوداً.
3- إن الأسرة هي الوحدة الأساسية للمجتمع فإذا صلحت هذه الأسرة وتلك وتلك صلح المجتمع، فصلاح المجتمع –الذي هو الهدف- يتحقق بقيام كل فرد بإصلاح أسرته، فكأن الشارع المقدس بتأكيده على إصلاح الأسرة يضع لنا المنهج والطريق لإصلاح المجتمع.
4- إن الفرد مسؤول اجتماعياً عن أسرته فإذا صدر منهم ما يزين كان له، وإذا صدر منهم ما يشين كان عليه؛ لذلك ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) مخاطباً شيعته: (كونوا زيناً لنا ولا تكونوا علينا شيناً)([10]) لأنهم محسوبون على الإمام (عليه السلام) يتسمون باسمه، فإصلاح الفرد لأسرته إنما هو عمل يقدّمه لنفسه لأن الثناء يعود إليه فيما لو صلحوا وأحسنوا، كما أن الولد المنحرف يعيَّر به ويعتذر عن إساءته.
وقد ورد مثل هذا الوجه في تعليل اشتراط إذن ولي الأمر في الدخول بالباكر (في زواج المتعة) لأن عارها يرجع على أهلها قال (عليه السلام): (يكره للعيب على أهلها) وقال (عليه السلام): (كراهية العيب على أهلها)([11]).
5- إن عدم صلاح الأهل يضعف موقف الفرد عند قيامه بواجبه في ممارسة الأمر والنهي في المجتمع؛ لأنهم سيردّون عليه بأنه ليبدأ أولاً بإصلاح أهله، مما يجعله في حرج من ممارسة هذه الفريضة العظيمة.
6- إن الأسرة وحدة مصغرة من المجتمع وفيها تنوع نفسي وفكري وثقافي فتصلح أن تكون معسكراً تدريبياً –كما يقال- لأداء الوظيفة في المجتمع فيستفيد العامل من كيفية التعاطي مع الأهل مع تنوعهم في التعاطي مع المجتمع وهو أحد وجوه فهم الحديث النبوي الشريف (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهله) وكذلك حديث (من عرف نفسه فقد عرف ربّه).
وما أكثر مصاديق هذا الوجوب المؤكد اليوم كتوفير البيئة الصالحة لهم في البيت بدءاً من اختيار الزوجة المؤمنة العفيفة المتفقهة، وأن يكون لهم أسوة حسنة لأن رب الأسرة يكون المثل الأعلى لهم، وأن يجنبهم أصدقاء السوء، وأن يعلمهم ويرشدهم إلى كل ما فيه صلاح الدنيا والآخرة، وأن لا يهمل أمر متابعتهم وتفقد شؤونهم بعذر الانشغال بالكسب أو أي أمر آخر، وأن ينبههم إلى أوقات الصلاة برفع الأذان في البيت –وقد ورد فيه عن الإمام الرضا (عليه السلام): أنه مما يوجب كثرة الولد والشفاء من الأمراض([12])- ويصلي بهم جماعة إن استطاع، وأن يختار لهم أحمد السبل وأرشدها في دراستهم وكسبهم وأوضاعهم الاجتماعية ونحو ذلك.
وهذه المسؤولية ممتدة طول الزمان لأن الإنسان لا يخلو من المسؤولية عن الاهل فهو إما أن يكون ابناً أو أباً أو زوجاً أو أخاً، وكذلك بالنسبة للمرأة، أما مسؤوليته عن أسرته الخاصة فلا بد من الالتفات إليها ورعايتها من قبل الزواج باختيار المرأة الصالحة المؤهلة لحفظ بيته وماله وتربية أولاده.
الخطبة الثانية:
بسم الله الرحمن الرحيم
وجه الانتفاع بالإمام في غيبته([13])
كان السؤال عن وجه الانتفاع بالإمام المهدي (عليه السلام) في غيبته حاضراً في ذهن الأجيال كلها من حين الاخبار عن غيبة الإمام الثاني عشر على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) ومنشأ التساؤل وجود تصور ذهني بأن الآثار والبركات المرجوّة من الامام والقائد مرتبطة بظهوره للناس كسؤاله عن الأحكام الشرعية أو حلّه للمشكلات العلمية والاجتماعية وتزوّد الناس من محضره الشريف ولا يكادون يفهمون وجهاً للانتفاع به إذا غاب.
والمفروض بالمؤمن التسليم لأمر الله تعالى وعدم النقاش فيه، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غِيبات من تقدمه من حجج الله تعالى ذكره. إن وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلاّ بعد ظهوره، كما لم ينكشف وجه الحكمة لمّا أتاه الخضر (عليه السلام) من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار لموسى (عليه السلام) إلى وقت افتراقهما، يابن الفضل: إنّ هذا الأمر أمرٌ من أمر الله تعالى وسرٌّ من سرّ الله وغيب من غيب الله، ومتى علمنا أنّه (عز وجل) حكيم صدقنا بأن أفعاله كلّها حكمة، وإن كان وجهها غير منكشف لنا)[14]
أقول: لكن الأسئلة تكررت على النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) فأجابوا بما يناسب الذهنيّة العامة، ففي اكمال الدين للصدوق بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنّه ذكر الإمام القائم في حديث وقال (ذاك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلاّ من امتحن الله قلبه بالإيمان، قال جابر: فقلتُ له: يا رسول الله فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته؟ فقال (صلى الله عليه وآله): أي والذي بعثني بالنبوة إنّهم يستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن تجلّلها سحاب).[15]
وفي الأمالي للصدوق بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (لم تخلو الأرض منذ خلق الله تعالى آدم من حجة لله فيها ظاهرٌ مشهور أو غائب مستور ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجة لله فيها ولولاهُ لم يُعبد الله، فقلتُ للصادق (عليه السلام): فكيف ينتفع الناس بالحجة الغائب المستور؟ قال: كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب).[16]
وفي الاحتجاج ورد توقيع من الناحية المقدسة على يد السفير محمد بن عثمان وفيه (وأما الانتفاع بي في غيبتي فكالإنتفاع بالشمس إذا غيّبها عن الأبصار السحاب وإني لأمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء فاغلقوا أبواب السؤال عمّا لا يعنيكم).[17]
أقول: في هذه الروايات تشبيهان، أحدهما تشبيهُ الإمام بالشمس، والآخر تشبيه غيبته (عليه السلام) بالشمس إذا غطّاها السحاب، ونريد الآن أن نبيّن وجوهاً لفهم هذين التشبيهين مما يوفّق الله تعالى له.
(الأول) تشبيه الامام بالشمس وله عدة وجوه:
1- إنّ الشمس أصل الحياة وبدونها تنعدم الموجودات وهي الواسطة لإفاضة الحياة على الموجودات، وهكذا الإمام علة الوجود وواسطة الفيض الإلهي على جميع الموجودات وهم علة الوجود ولأجلهم خلق، ولولاه ساخت الأرض بأهلها كما في الحديث الشريف وفي دعاء العديلة (ببقائه بقيت الدنيا وبيمينه رُزق الورى، وبوجوده ثبتت الارض والسماء).
2- ولأن الشمس أصل الحياة فقد وُجدت قبل أي شيء آخر، وكذلك نور محمد وآل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين) وجدوا قبل الخلق، روى الشيخ الصدوق عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله (الحجّة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق).[18]
3- إن الشمس مصدر النور وهي التي تنير الأشياء وتجعلها منظورة بالعين ويمكن التعرّف عليها ولولا هذا النور لما أمكن التعرّف على الشيء، وكذلك الإمام هو مصدر المعارف الإلهية والعلوم ولولا تأصيلات الأئمة الأطهار (عليهم السلام) لما امكن الاهتداء إلى شيء منها، وما يؤخذ عن غيرهم فهو زخرف من القول .
4- ان نفع الشمس عام لا تمنعه عن شيء من الموجودات، وهم (صلوات الله عليهم اجمعين) كالشمس في عموم نفعهم {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }الأنبياء107 وإنما لا ينتفع بهم من أراد لنفسه أن يكون أعمى لا يستفيد من نور الشمس، في الخصال من حديث الأربعمائة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (أشدّ العمى من عمي عن فضلنا وناصبنا العداوة بلا ذنب سبق إليه منا إلاّ أنّا دعونا إلى الحق ودعاهُ من سوانا إلى الفتنة والدنيا فأتاهما ونصب البراءة منّا والعداوة لنا)[19].
وروى الشيخ الصدوق في كتاب التوحيد بسند صحيح عن الإمام الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى {وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً }الإسراء72، قال (عليه السلام): (من لم يدلّه خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار ودوران الفلك والشمس والقمر، والآيات العجيبات على أنّ وراء ذلك أمر أعظم منه فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلاً).[20]
5- إن الشمس من المطهرات –كما هو الصحيح- فهي تطهّر من النجاسة المادية ، فكذلك ولاية الإمام المعصوم وحبّه واتباعه من المطهّرات المعنوية فبها تقبل الأعمال وتكفّر الذنوب وفي ذلك أحاديث كثيرة، لأنها من أعظم الحسنات والقربات إلى الله تعالى، والآية الشريفة تقول (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ) (هود/114).
6- ان أي شيء يقترب من الشمس يصلى بحرارتها ويحترق تدريجيا حتى يفنى في نورها، وكذلك من يتقرب من اهل البيت (عليهم السلام) بطاعتهم وحبّهم والسير على هديهم يفنى فيهم وتذوب انانيته ونفسه الامارة بالسوء(فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) إبراهيم:36 وفي الحديث النبوي الشريف (سلمان مّنا اهل البيت) [21]
7- كما أنّ الناس متفاوتون في الاستفادة من نور الشمس فبعضهم يمنعها من الدخول إلى داره فيغلق الأستار والنوافذ ولا يستفيد من ضوء الشمس، وبعضهم يفتح منافذ بسيطة للإنارة والآخر يملأ داره بالفتحات والآخر يستفيد منها في الزراعة وآخر لتوليد الطاقة الشمسية، فكذلك نور الهداية المتصلة بالمعصومين (عليهم السلام) التي تركوها لنا من خلال أحاديثهم الشريفة، تتفاوت الناس في الاستفادة منها والعمل بها، فربّما أغلق البعض نوافذ قلبه وعقله لمنع نور الهداية من دخولهما، بينما فتح آخر كلّ حواسه ومنافذه الظاهرية والباطنية لتلقي هذه العلوم والمعارف والكمالات اللاّمحدودة بإذن الله تعالى.
(الثاني) التشبيه لغيبة الإمام بالشمس إذا جلّلها السحاب ويمكن أن نفهم له عدة وجوه:
1- كما ان احتجاب الشمس بالسحاب لا يؤثر على حقيقة وجودها ولا يصح لعاقل أن يستدل على عدم وجودها لعدم ظهورها للعين بسبب تغطية السحاب لها، فكذلك لا يمكن إنكار وجود الإمام (عليه السلام) لمجرّد عدم ظهوره للناس فهو (عليه السلام) موجود وتوجد معه آثاره المباركة وألطافه الكريمة ورعايته الحانية.
2- إنّ جملة من منافع الشمس لا تتوقف على ظهورها المباشر وبتعبير آخر أن فائدة الشمس لا تقتصر على التعرض لأشعتها المباشرة حتى يُقال بعدم الانتفاع منها إذا حجب السحاب أشعتها، فاحتجابها بالسحاب لا يمنع من الانتفاع بها وتبقى تؤدي دورها في حفظ نظام الحياة واستقرار المجموعة الشمسية وحركة الافلاك، وكذلك الانتفاع بوجود الإمام وفيوضاته المباركة لا تتوقف على ظهوره المباشر وإن حرم الناس من بعض تلك الانتفاعات بسبب غيبته، ومنها ما تقدم في الرواية الشريفة من كونه اماناً لأهل الارض ورد في رسالته الشريفة (إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولوا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء).[22]
3- إن احتجاب الشمس بالغيوم إنما هو لمن كان على الأرض فلو خرج من جو الأرض كالذي يحصل لركاب الطائرة عندما ترتفع فوق الغيوم فإنهم سيرون السماء صافية والشمس ظاهرة، فكذلك الإمام فإنه غير مشخّص لذوي الدرجات الاعتيادية والمتدنّية، أما الأنقياء المخلصون ومن حلّقوا في سماء الكمالات المعنوية فإنّ الإمام (عليه السلام) يظهر لهم ويرونه ويعرفونه ويتعاملون معه، وما على المؤمن إلاّ أن يسمو ويرتقي ويخرج من الحجب الأرضية لتكتحل عينه بالنظر إلى الإمام (عليه السلام).
4- إن تغطية السحاب للشمس فيه رحمة بالناس وفيها مصلحة لهم أما من جهة نفس الغيوم لكونها تحمل أمطاراً تحيي الأرض الميتة، أو لعجز الناس عن تحمّل الأشعة المباشرة للشمس فتضر أبصارهم وتصيب رؤوسهم بضربة الشمس وربما اضطروا إلى السكون في منازلهم والقعود عن أعمالهم حذراً من أشعة الشمس، وكذلك غيبة الإمام (عليه السلام) فيها مصلحة للناس، من عدة جهات كالتفاتهم إلى ذنوبهم التي أوجبت حرمانهم من الاتصال المباشر بالإمام أو لأنّ إيمانهم ليس قوياً يحتمل القيادة المباشرة والنظر المباشر للإمام، كالذين لم يتحملوا قيادة أمير المؤمنين (عليه السلام) ففشلوا وخسروا الدنيا والآخرة، فعدم الابتلاء بالقيادة المباشرة رحمة بالناس لئلاّ تزيغ بصائرهم كتضرّر بصر من ينظر إلى الشمس مباشرة ويفشلوا في الامتحان نظير نصيحة الإمام الحسين (عليه السلام) لبعض من تخاذلوا عن نصرته بأن يبتعدوا لئلاّ يسمعوا صرخة الإمام (عليه السلام) فتصيبهم الكارثة، فمثل هؤلاء يكون من الرحمة بهم تربيتهم بعيداً عن القيادة المباشرة للمعصوم (عليه السلام) وقبولهم على ما هم عليه.
5- إن احتجاب الشمس بالسحاب أمر نسبي أي لبعض الناس إذ يمكن أن تكون الشمس في نفس الوقت ظاهرة لبعض في بلد آخر لا يحجبهم السحاب، كما يقال في النشرة الجوية غائم جزئي فكذلك غيبة الإمام (عليه السلام) نسبية لبعض الخلق دون بعض فهو ظاهر لبعض الخلق (وما في ثلاثين من وحشة ) .
6- إن احتجاب نور الشمس لا لسبب منها أي لا لقصور في المقتضي- كما يقال- وانما لوجود المانع وهو السحاب فمتى ما زال السحاب اشرقت الشمس على الموجودات، وكذلك الامام (عليه السلام) لم يحتجب لسبب منه فان اهل البيت (عليهم السلام) ابواب رحمة الله وكرمه وفضله، وهو تبارك وتعالى لا بخل في ساحته (بابك مفتوح للراغبين وخيرك مبذول للطالبين وفضلك مباح للسائلين ونيلك متاح للآملين ورزقك مبسوط لمن عصاك وحلمك معترض لمن ناواك)[23]
وسبب احتجابه (عليه السلام) يعود الى الخلق انفسهم ( الا ان تحجبهم الذنوب دونك)
7- ((كما أن الشمس المحجوبة بالسحاب مع انتفاع الناس بها ينتظرون في كل آن انكشاف السحاب عنها وظهورها ليكون انتفاعهم بها أكثر فكذلك في أيام غيبته ينتظر المخلصون من شيعته خروجه وظهوره في كل وقت وزمان ولا ييأسون منه)).[24]
([1] ) الخطبة الاولى لصلاة عيد الفطر السعيد يوم الثلاثاء 29-7-2014
([2]) الأمثل في تفسير القرآن: 14/29 عن مجموعة ورام: 1/6.
([3]) المفردات للراغب: 881، مادة (وقى).
([4]) كنز العمال:2/539، ح 4676.
([5]) وسائل الشيعة: 4/18، أبواب أعداد الفرائض، باب 3.
([6]) مفاتيح الجنان عن دعائم الإسلام.
([7]) الكافي:5/62، ح1، 2.
([8]) منهج الصالحين: 2/240، المسألة (888)، منهاج الصالحين للسيد الحكيم (قدس سره): 1/490، مسألة (8)، وللسيد الخوئي (قدس سره): 1/353، مسألة (1274).
([9]) نهج البلاغة: 616، قسم الرسائل والكتب، العدد 31.
([10]) من لا يحضره الفقيه: 1/383، ح 1128وفيه: (يا زيد خالفوا الناس بأخلاقهم، صلّوا في مساجدهم، وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، وإن استطعتم أن تكونوا الأئمّة والمؤذنين فافعلوا فإنّكم إذا فعلتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية ما كان أحسن ما يؤدّب أصحابه، وإذا تركتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية فعل بجعفر ما كان أسوأ ما يؤدّب أصحابه).
([11]) وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب 11.
([12]) وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب أحكام الأولاد، باب 11، ح10.
[13] ) الخطبة الثانية لصلاة عيد الفطر السعيد يوم الثلاثاء 29-7-2014
[14] )بحار الأنوار: 52/91 الباب 20 عن اكمال الدين: 2/158 باب علة الغيبة.
[15]) كمال الدين: 1/241 باب: نص الله تعالى على القائم، ح3.
([16]) (17) نقلتهما بواسطة بحار الأنوار: 52/92 - 93
[18] ) كمال الدين: 1/16.
[19] )الخصال: 474.
[20] )التوحيد: 455 باب 67 النهي عن الجدال والمراء في الله عز وجل، ح6.
[21] ) رواه الحاكم في المستدرك (3/598) ، والطبراني (6/261)
[22] ) الاحتجاج: رسالة الناحية المقدسة إلى الشيخ المفيد (قدس سره).
[23] ) مفاتيح الجنان : 168 من ادعية شهر رجب
[24] ) بحار الأنوار: 52/ 93.