تفسير امير المؤمنين (عليه السلام ) لثورات الشعوب ... ثورة الشعب المصري انموذجا

| |عدد القراءات : 13192
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير أمير المؤمنين (عليه السلام ) لثورات الشعوب ... ثورة الشعب المصري نموذجا (1) 

من كلام لأمير المؤمنين (عليه السلام) في تفسير الأحداث التي أدّت إلى مقتل الخليفة عثمان، قال (عليه السلام): (وأنا جامع لكم أمره: استأثر فأساء الأثرة، وجزعتم فأسأتم الجزع، ولله حكم واقع في المستأثر والجازع)([2])

وقال (عليه السلام) في خطبته الشقشقيّة (إلى أن قام ثالث القوم نافجا حِضنيه - وهي تصوير للمتكبر- بين نثيله - وهو الروث - ومعتلفه- وهو موضع العلف أي أن همَّه هذان – وقام معه بنو أبيه يخضمون – وهو أشدّ من القضم الذي هو بطرف الأسنان – مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث فتلهُ، وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنته – أي بطره أو بطانته وهو حاشيته-)([3])

يعطي الإمام (عليه السلام) باختصار قانونا وقاعدة تفسّر سقوط الحكام وثورات الشعوب عليهم، وهو الاستئثار والتفرد والاستبداد بالأمور وتقريب خواصّه من الأقرباء والمتملّقين والمنتمين لحزبه أو عشيرته ويغدق عليهم ويطلق أيديهم في المال العام ومؤسسات الدولة ، وهؤلاء ظلمة لا إنصاف لهم ولا رحمة فتحرم الغالبية العظمى من الشعب من حقوقها، فيصبرون ويتململون ويشكون حتى إذا فقدوا القدرة على الصبر والتصبّر ثاروا و انتفضوا وسحقوا الحكام وأزالوهم.

هذه المعادلة التي حكمت دوما العلاقة بين الشعوب والحكومات المستبدّة، لكن سكر الملك ولذة السلطة والنفوذ والنفس الفرعونية التي يتخذها صاحبها إلها (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) (الجاثية/23) تأبى الإذعان لهذه الحقيقة ولا تتعظ بالتجارب السابقة والأمثلة الكثيرة حتى تكبو وتسقط ويقضي عليها ما جنته.

لذلك كان أمير المؤمنين (عليه السلام) ينبّه ولاته وعماله إلى هذه الحقيقة ويحذّرهم من هذا السقوط فمن عهده (عليه السلام) لمالك الأشتر لماّ ولاّه مصر (فاملك هواكَ، وشُحَّ بنفسك عما لا يحلُّ لك، فان الشُحَّ بالنفس الإنصاف منها في ما أحبَّت أو كرِهَت واشعِر قلبكَ الرحمة للرعية، والمحبّةَ لهم واللطف بهم، ولا تكوننَّ عليهم سبُعاً ضارياً تغتنم أكلهم) وقال (عليه السلام) : (أنصِفِ اللهَ، وأنصفِ الناسَ من نفسِك، ومن خاصةِ اهلِك، ومن لك فيه هوىً من رعيّتِك، فإنك ألاّ تفعل تظلِم، ومن ظلم عِباد الله كان اللهُ خصمَهُ دونَ عبادهِ، ومن خاصمه الله أدحضَ حجّته، وكان لله حرباً حتّى ينزع أو يتوب) وقال (عليه السلام) (وليكن أحبّ الأمور إليكَ أوسطَها في الحقّ وأعمّها في العدل واجمعها لرضى الرعيّة فإنّ سُخط العامة يُجحِفُ برضا الخاص، وإنّ سُخطَ الخاصة يُغتفر مع رضى العامة) (وإنّما عماد الدين وجماع المسلمين، والعدة للأعداء، العامةُ من الأمة، فليكُن صغوكَ لهم وميلك معهم).([4])

هذا هو دور الشعب وهكذا يؤسس أمير المؤمنين (عليه السلام) لما اتفقت عليه الدول المتحضرة اليوم من سيادة الشعب وكونه مصدر السلطات ومانح الشرعية والرجوع إليه في شؤونه حيث وصفه (عليه السلام) بأنه عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء.

استحضرت كل هذه المعاني ووجدتها صادقة –وكيف لا تكون كذلك وقائلها أمير المؤمنين (عليه السلام)- ومطابقة للواقع وأنا أتابع غضبة شعب مصر وثورته وهو ينـزل بالملايين إلى شوارع القاهرة وسائر المدن المصرية في مشهد قد لا نجد نظيراً له ليستعيد مصر ويحرّرها من خاطفيها الذين تلفّعوا باسم الإسلام ليحققوا مآربهم في الوصول إلى السلطة، وليرفع غطاء الشرعية عن من منحه إياها قبل عام[5] بسبب عدم البصيرة والاستعجال في الأمور.

لقد تنكّر الرئيس المعزول لشعبه وشركائه ونكث عهوده ولم يبذل الجهد الكافي لإصلاح أحوال الشعب وحلّ مشاكله بل زادها تأزّماً لعدم أهليته ولأنّه وحزبه انشغل بالاستبداد والاستئثار بالأمور وقادوا عملية واسعة للسيطرة على مفاصل الدولة كلّها من أعلى المناصب إلى ما هو دونها لينشئوا ديمقراطية مزيّفة تعيدهم إلى السلطة باستمرار في كل انتخابات لأن أدوات الوصول إليها من المال والإعلام والمناصب والوظائف ستكون كلّها بأيديهم، وبحسب تصريح أحدهم فقد قرّروا عدم إعطاء السلطة لغيرهم قبل مرور ثمانين عاماً أي بعمر تأسيس حزبهم، وكأنّهم يعترفون بذلك أنّ غرضهم من معارضة الحكومات السابقة هو نيل الدنيا وليس الآخرة كما هو المفروض في أدبياتهم ويريدون أن يأخذوا جزاء كلّ سنة من عمر معارضتهم سنة في لذّة السلطة الزائلة.

وكما قيل أنّهم فشلوا في كلّ شيء ولم ينجحوا إلاّ في جمع الشعب بكل فئاته على رفضهم والمطالبة برحيلهم، وبالغوا في النكاية بالشعب حين صمّوا آذانهم عن سماع صوته والنـزول إلى رغبته ولو بإجراء استفتاء شعبي على بقائهم في السلطة وهو خيار دستوري، وذهب الحزب أبعد من ذلك حينما استخفّ بمعارضيه وقدرتهم على حشد الرأي العام وهدّد بالعنف وسفك الدماء.

لقد شخّص الشعب المصري بوعيه وحرارة ثورته في وقت مبكّر وقبل مرور عام على تولي الحزب المعزول أنّ بلدهم في خطر وتأريخهم في خطر ووحدتهم في خطر وكلّ مصالحهم الحيوية والإستراتيجية من الأمن والاقتصاد والثقافة والتنوّع الاجتماعي في خطر، حتّى عقيدة الشعب المصري المبنيّة على التسامح والأخوة والنقاء بدؤوا بمسخها وتشويهها وقسّموا الشعب المصري إلى طوائف وأعراق ودرجات، والإسلاميين إلى درجات واعتبروا حزبهم هو الجنس الأرقى وينظرون إلى الآخرين باستعلاء وازدراء، وغذّوا العنف والكراهية وأسّسوا أو اجتذبوا عدة خطوط من جماعات العنف وتصفية الخصوم، وما الحادث الوحشي المريع الذي أدّى إلى استشهاد المرحوم الشيخ حسن شحاتة ورفاقه[6] عنّا ببعيد، بعد تحريض شديد ضد الشيعة، وأُريدَ لمثل هذا الحادث أن يكون نذر شؤم لحرب طائفية طاحنة لم يعرفها الشعب المصري من قبل، من دون أن يكلّف النظام نفسه بالتحقيق في القضية ومعاقبة الفاعلين وهم معروفون مشخّصون بالصوت والصورة فجنوا على أنفسهم وقُتلوا بسيف البغي والظلم الذي سلّوه لتصفية خصومهم، وفي الحديث (لو بغى جبل على جبل لتدكدك).

وكانت القوات المسلّحة واعية أيضاً للتحريف الخطير في عقيدتها التي لا تزال تُدرّس إلى اليوم في أكاديمياتها على أن العدو الأوّل هو الكيان الصهيوني، وإذا بالنظام يتحوّل إلى خادم للمصالح الأمريكية والصهيونية بشكل وصف بأنه أكثر من الرؤساء السابقين المتهمين بالانبطاح والاستسلام للكيان الغاصب، ويجعل العدو الأول المعارضين له في الرأي والمخالفين له في العقيدة من أبناء وطنه، وإثارة الفتن والقلاقل في الدول الأخرى حين دعوا إلى التخلص من الشيعة والجهاد في سوريا، فلا نستغرب من الضغوط الأمريكية على الجيش والشعب ليتراجع عن رفضه للنظام، وتكرار النظام وأنصاره لكلمة الشرعية في خطاباتهم بشكل ممل[7] ليوحي للعالم أنّ الشرعية والديمقراطية مهدّدة في مصر استجلاباً لعطفه، ولكن ذلك كلّه لم ينفعهم.

إن الخسارة الكبرى التي يتحمّل وزرها هذا الحزب الذي اتّخذ من الإسلام شعاراً له ليس في فقد منصب الرئيس وقيادة البلاد ولا في محاكمة رموز الحزب ومثولهم أمام القضاء في تهم عديدة، وإنّما في خيانتهم للمشروع الإسلامي وفشلهم في تقديم الإسلام على أنّه الحلّ الوحيد لإنقاذ الناس من المشاكل والعقد وإدارة شؤون الحياة وإقامة دولة العدالة وحقوق الإنسان، ممّا يُعرِّض جهود وتضحيات العلماء والمفكّرين والشهداء إلى الضياع وبذلك فقد أحبطوا كلّ أملٍ في إقناع الشعوب بقيادة الإسلام للحياة في كلّ شؤونها، فهل تستحق شهوة السلطة والحكم والاستحواذ على المال العام على مدى سنة واحدة هذه الخسارة الإستراتيجية التي يصعب النهوض منها؟.

وهذه الانتكاسة المريرة المؤلمة سبّبها لنا غيره أيضاً من الأحزاب الإسلامية التي تمكّنت من السلطة بشكلٍِ أو بآخر في دول المنطقة ومنها العراق، فإن أعظم قلقنا من انتكاس المشروع الإسلامي بسبب حماقات وأنانية ولؤم من يرفع شعاراته مكراً للوصل إلى السلطة.

إنّنا ننصح أحبتنا وأشقاءنا في مصر أن لا يتعجلوا الأمور لكيلا يقعوا في نفس الخطأ قبل عام فيأتي من يختطف منهم نصرهم وثورتهم ويركب الموجة مستغلا عدم وضوح الرؤية وعدم وجود خارطة طريق تفصيلية فيركب الموجة ويصادر جهد الجماهير وتضحياتهم كما اختطف الحزب المعزول انتصار 11/شباط/2011.

ونحذّرهم من أن تدعوهم قدرتهم وسيطرتهم إلى ظلم أحد أو تصفية أحد لكونه معارضاً بالرأي ومخالفاً في العقيدة والتوجه السياسي

فليستفيدوا من أهل الخبرة من الوطنيين المخلصين في كل المجالات ليضعوا لهم برنامج يؤسس لدولة متحضرة تُحترم فيها إرادة الإنسان وكرامته وتوفّر له أسباب الحياة السعيدة التي يستحقها شعب مصر العريق الطيب المنجب.

(إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد/7) (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت/69).

 

 

 



[1] كلمة كتبها سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) فجر يوم الخميس 24 شعبان 1434 الموافق 4/7/2013 وألقاها من خلال قناة النعيم غداة إعلان القوات المسلحة عن عزل الرئيس المصري محمد مرسي ووضع خارطة طريق لمرحلة انتقالية استجابة لملايين المتظاهرين الذين تجمعوا منذ يوم 30/6 حتى مساء 3/7.

[2]  - نهج البلاغة: خطبة (30)

[3] - نهج البلاغة: خطبة (3)

[4] - نهج البلاغة ج3 (خطبة 291)

[5] وصل مرسي مرشح الإخوان المسلمين إلى كرسي الرئاسة بعد جولتين من الانتخابات وأعلنت النتائج الثانية يوم 3/شعبان/1433 الموافق 24/6/2012 وفاز على منافسه بنسبة 51,73%.

[6] بينما كان يشارك المرحوم الشيخ شحاتة في احتفال أقيم في زاوية أبي مسلم بمناسبة ذكرى ميلاد الإمام المهدي (عج) ليلة الاثنين 14 شعبان 1434 المصادف 24/6/2013 هجم المئات من المتعطشين للقتل المشحونين بفتاوى التكفير والمزوّدين بأدوات جارحة وعصي على المنزل ودمّروه ثم انهالوا على المجتمعين طعناً وضرباً فقتلوا الشيخ شحاتة وأربعة آخرين وجرحوا (35) ومزّقوا أجسادهم وسحلوهم بعد الموت.

والشيخ شحاتة من كبار الدعاة إلى ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) في مصر وغيرها منذ اعتناقه لهذا المذهب قبل أكثر من عقدين.

[7] قال أحد المراقبين أن كلمة الشرعية تكررت (58) مرة خلال عشر دقائق من خطاب الرئيس مرسي الأخير عشية عزله.