خطاب المرحلة (317)... لا تكتمل السعادة بالعمل الصالح إلاّ بعناصِر ثلاثة

| |عدد القراءات : 1914
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

لا تكتمل السعادة بالعمل الصالح إلاّ بعناصِر ثلاثة([1]) 

           يقوم الإنسان بأعمال بدنية شاقة ويتعرض لصعوبات كثيرة ويتحمل أعباء مالية باهظة مما طلبه منه الله تبارك وتعالى ومع ذلك يشعر بالسعادة واللذة، خذ لذلك مثلاً حجاج بيت الله الحرام فإنهم يصرفون أموالاً طائلة ويفارقون الأهل والوطن ويتعرضون لمشاق السفر، ويؤدون أعمالاً شاقة ومع ذلك فإنهم يشعرون باللذة والارتياح وحينما يعودون تكون عيونهم شاخصة إلى بيت الله الحرام يفارقونه بحرقة سائلين الله تعالى العودة إليه.

          ولعل أوضح مثال نعيشه هو نهضة الأمة كلها في أيام الزيارة الأربعينية للإمام الحسين (ع)، فيقطع الكثيرون مسافات بمئات الكيلومترات مشياً على الأقدام في العراء تحت ظروف جوية قاسية بلا اصطحاب أي شيء مما يحتاجه من يقطع مثل هذه المسافات، وآخرون يجنّدون أنفسهم وأهليهم للخدمة ويبذلون ما عندهم من أموال ويواصلون الليل والنهار لتوفير الطعام والراحة والمعونة للزائرين، ومع ذلك يشعر الجميع بالسعادة والسرور، وإذا انقضت الزيارة يفارقون أيامها بألم وأمل لإدراكها في العام المقبل.

          وهكذا الأعمال الأخرى كصوم رمضان ودفع الحقوق الشرعية وغيرها.

          وهذه السعادة والارتياح والاطمئنان هو الأجر المعجل للعمل الصالح وما عند الله خير وأبقى، قال تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] (الرعد:28)، فإن السعادة الحقيقية إنما تتوفر بالارتباط بالله تبارك وتعالى لا في المتع المادية والتوسع في أمور الدنيا كما يتوهّم الغافلون فيبحثون عنها ولا يجدونها ويبقون يعيشون الحياة الضنكى.

          لكن الملاحظ أن هذه السعادة وهذه النتائج الطيبة للعمل الصالح تتفاوت في درجاتها عند الناس كما تتفاوت في استمرار تأثيرها، فقد تنتهي بمجرد انتهاء العمل، وقد تستمر فترة أطول وتزول، وقد تبقى ثابتة، والسر في ذلك هو أن السعادة لا تكتمل بالعمل الصالح وحده بل لابد من تحقق أمرين آخرين:

1- إحسان العمل بأن يأتي به بشروطه وحدوده التي أرادها الله تبارك وتعالى، ولا يخدع نفسه ويتوهم بأنه يقوم بعمل صالح وهو في الحقيقة من الخاسرين، كما لو قام به رياءً أو على غير وجهه الشرعي كالمرأة تذهب إلى الزيارة بدون إذن زوجها أو لا تراعي الحجاب العفيف، وكالشاب يخرج إلى الزيارة وعينه على أعراض الناس أو يكون عاقاً لوالديه، أو شخص يشارك في العمل السياسي والاجتماعي لتحصيل الجاه والسمعة والامتيازات الدنيوية وليس لتحقيق الأهداف الإلهية العليا، أو شخص يتصدّق ويمّن بصدقته ويؤذي الآخر، قال تعالى [لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى] (البقرة:264)، أو يذهب إلى الحج ويملأ وقته بالغيبة ولغو الحديث والجدال، والله تعالى يقول [فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ] (البقرة:197)، أو ينفق ماله في أعمال البر والإحسان وإقامة الشعائر وهو لم يخرج الحقوق الشرعية الواجبة.

          فهذه كلها تجعل العمل غير مثمر وغير منتج للسعادة ولا يؤدي إلى نيل رضا الله تبارك وتعالى بل هو فشل ذريع، كإبليس الذي عبد الله تعالى ستة آلاف سنة –كما في الروايات- وكان متميزاً بعبادته على الملائكة إلا أنه فشل في اختبار السجود لآدم لأنه أراد أن يطيع الله تعالى من حيث هو يريد لا من حيث ما يريده الله تبارك وتعالى فكتب عليه الطرد واللعن.

          وكأحبار اليهود الذين حملوا علماً جماً إلا إن الله تعالى وصفهم بأنهم كالحمار يحمل أسفاراً إلا أنه لا ينتفع بها لأنهم لم ينتفعوا بعلمهم ولم يستعملوه في الوصول إلى الحق والكمال، فالله تعالى مطلّع على حقائق الأعمال ودوافعها وتفاصيلها ولا يقبل ولا يعطي الأجر إلا لمن أخلص وأحسن عمله [ليَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] (الملك:2) كالذي يجري بيننا نحن البشر، فإن البضاعة إن لم تكن متقنة ومستوفية لكل الشروط والمواصفات فإنها تردّ على صاحبها ويتحمل الخسائر.

2- إدامة العمل بإدامة آثاره والتزاماته وما يقتضيه ذلك العمل من مسؤوليات أخلاقية وشرعية، مثلاً المؤمن المصلي عليه أن يديم أثرها بأن يجتنب الفحشاء والمنكر، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ] (العنكبوت:45).

والصائم يديم أثره بقوة الإرادة في اجتناب المعاصي وكل ما يبعده عن الله تبارك وتعالى وبمواساة الفقراء والمحرومين وتذكّر معاناتهم، وتذكر أحوال القيامة من جوع وعطش وغيرهما-.

والذي يعود من الحج يديم حالة الإخلاص لله تعالى والتجرد عما سواه، ومحورية التوحيد في حياته، ورجم شياطين الجن والإنس.

          والذي يعود من زيارة الإمام الحسين (ع) يديم حالة الإيثار والأخوة والمحبة والسعي الحثيث لإصلاح الأمة ورفض الظلم، والتضحية في سبيل الله تعالى بكل غالٍ ونفيس.

          بهذه العناصر الثلاثة تكتمل وتدوم سعادة الإنسان بأعماله الصالحة، وينال الجنة في الدنيا قبل الآخرة، وقد اختصرها الإمام الحسين (ع) في دعائه يوم عرفة بكلمة واحدة هي التقوى، قال (ع): اللهم أسعدني بتقواك ولا تشقني بمعصيتك) والتقوى لا تتحقق إلا إذا اجتمعت هذه العناصر.

ولكي نوفّق لهذا كله لابد أن نتفقه ونتعرف على معالم الدين وسيرة أهل البيت (ع) لأن العمل يسبقه العلم، فمن جهل شيئاً فإنه لا يفعله، وإذا فعله فإنه لا يحسنه، فاهتموا بطلب العلم ومعرفة ما يسعدكم وما يقرّبكم إلى ربكم إنه ولي التوفيق.



([1]) من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع موكب العسكريين (c) الذي وصل من البصرة مشياً على الأقدام يوم 16/صفر/1433 الموافق 10/1/2012 بعد أربعة عشر يوماً متوجهاً إلى زيارة الإمام الحسين (ع)، ومع جمع من طلبة جامعة ميسان يوم السبت 1/ج1/1433 الموافق 24/3/2012.