خطاب المرحلة (284)...بين إرهاصات النبوة والظهور المبارك

| |عدد القراءات : 21365
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

بين إرهاصات النبوة والظهور المبارك ([1])

          كانت الأمم تعيش إرهاصات ولادة نبي آخر الزمان وترى تحقق علامات إطلالته على الدنيا الواحدة بعد الأخرى بحسب ما بشرّهم بها أنبياؤهم (صلوات الله عليهم أجمعين) كما ورد في قوله تعالى [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ] (الأعراف:157) وقال تعالى [وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] (الصف:6).

          وكان بعض العرب يمنّي نفسه أن يكون هو النبي الموعود كابي عامر الفاسق من الأوس والد حنظلة الشهيد في معركة احد الملقب بغسيل الملائكة، وكانت اليهود تتطاول على العرب بأن النبي الموعود منها متذرعين بما عندهم من علم الكتاب مع جهل وأمية العرب. قال تعالى [وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ] (البقرة:89) أي كانوا يطلبون الفتح على الكفار والمشركين بأن يكون النبي الموعود منهم فتظهر دولتهم على جميع الناس.

          وهذا أحد الأسباب التي تفسّر العداوة الشديدة التي أظهرها اليهود لرسول الله (صلى الله عليه وآله)  ومواصلة مؤامراتهم على قتله واستئصاله أو إغوائه واستدراجه من حين مولده الشريف بعد أن تأكدوا من وجود العلامات في هذا المولود المبارك الذي سطع نوره من مكة المكرمة وأيقنوا بانتهاء ملكهم وسلطتهم.

          وفي الوقت الذي كان أولئك المدعّون يتكلّون على الأماني الفارغة والادعاءات الكاذبة والإشاعات دون استحقاق، كان النبي الموعود يتعرض لنفحات ربّه ويعد نفسه ليكون مؤهلاً للاختيار لهذا الموقع العظيم والاصطفاء من الله تبارك وتعالى لأداء الرسالة الخاتمة، فاجتنب ما كان عليه قومه من منكرات وضلالات وتسامى عن انحرافات الجاهلية وأباطيلها، وكان يطيل الاعتكاف في غار حراء ليتفرغ لعبادة ربّه محيياً الحنيفية التي جاء بها جّده إبراهيم الخليل (ع)، وكان الله تعالى مؤدبه ومربيه كما عبّر (صلى الله عليه وآله)  (أدّبني ربي فأحسن تأديبي) إذ لم يكن أحد عنده أفضل مما عند هذا الوليد المبارك حتى يؤدبه ويسير به في طريق الكمال فكان الله تعالى هو المؤدّب الحاني الشفيق الذي يرعى عبده ويداريه ويحرسه بعينه التي لا تنام ولا يكله إلى غيره طرفة عين، وحتى حينما كانت الأقدار تسوقه (صلى الله عليه وآله)  إلى ما لا يليق بالدور العظيم الذي ينتظره (كما في الرواية التي تتحدث عن عرس لعبد الله بن جدعان) كان الله تعالى يذوده عن تلك الموارد ويعصمه ويرسل إليه ملكاً يصرفه عن ذلك الأمر.

          وهكذا إذا علم الله من العبد صدقه وإخلاصه في السير إليه أحاطه بلطفه الخاص وعصمه من الزلل، إذ أن العبد مهما كانت همّته وقوة إرادته فانه لا يصل إلى العصمة الكاملة إلا بمزيد عناية من الله تبارك وتعالى.

          حتى حين أزف الموعد المبارك الذي عمّ نواله البشرية جميعاً إلى قيام يوم الدين وبعث الله تعالى الروح الأمين إليه في غار حراء ليبلّغه بأنه هو النبي الموعود في آخر الزمان، وكانت المفاجأة المذهلة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يكون هو المصطفى المختار لحمل هذه الرسالة الإلهية ويكون محط  نظر ربّه العظيم الكريم فصعق لهيبة الموقف وعاد إلى منزله يرتجف وطلب من زوجته الكريمة أم المؤمنين خديجة أن تدثره وتزمّله وباركت له هذا الاصطفاء وآزرته بأنه اختيار للكفؤ المؤهل واثنت على صفاته الكريمة.

          من هذا العرض المختصر لإرهاصات ولادة النبي (صلى الله عليه وآله)  وبعثته الشريفة في وسط تلك الجاهلية المدلّهمة انتقل إلى جاهلية اليوم التي عمّتها المفاسد والمظالم والمنكرات ونترقب ظهور المصلح العظيم ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.

          وها هي إرهاصات ظهوره المبارك تتوالى فصوت أهل البيت (ع) طرق سمع كل بقاع الأرض، والإقبال على مذهبهم الشريف في تزايد سريع، وهاهي الشعوب تتحرر وتُسقِط الطواغيت بسرعة عجيبة لم يكن يتوقعها أحد بعد أن جثموا على صدور شعوبّهم وكبلوهم بالحديد والنار على مدى ثلاثة عقود وأربعة، وهذه الحرية النسبية للشعوب ستتيح الفرصة لأتباع أهل البيت (ع) أن يتحركوا ويتمكنوا بمقدار ما يسمح لهم بإيصال صوت الحق الذي هو كافٍ بذاته لإقناع الناس كما قال الإمام (ع) (فان الناس لو سمعوا محاسن كلامنا لاتبعونا).

          لقد كان الكثير يستغرب مما في الدعاء الشريف (اللهم كن لوليك الحجة ابن الحسن صلواتك عليه وعلى أبائه) بقوله (وتسكنه أرضك طوعاً) إذ كيف يمكن أن يبسط الإمام دولته الكريمة على الأرض طوعاً وسلماً وكيف سيتركه هؤلاء الطواغيت المفسدون يتحرك بحرية، لكن أحداث الأيام الحالية جاءتنا بالجواب فهذه الفضائيات التي أوصلت صوت أهل البيت (ع) إلى العالم، وهذه المعرفة التي حصلت لجميع البشر بسمو تعاليم أهل البيت (ع) وطهارتهم، وهذه الحركات التحررية([2]) التي مرّغت أنوف المستكبرين بالوحل جعلت هذه الفقرة ممكنة التحقق والقبول بإذن الله تعالى.

          ونحن ندعو على الدوام أن نكون من أنصاره وأعوانه والقادة في دولته الكريمة، فلا ينبغي أن تكون هذه الأدعية مجرد لقلقة لسان ودعاوى بلا حقائق من العمل الدؤوب للتأهل لنيل هذه المقامات الرفيعة. كما أن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)  المقربين لم ينالوا تلك المراتب إلا بإعدادهم أنفسهم حتى قبل الإسلام.

فجعفر بن أبي طالب شهيد مؤتة الذي له جناحان يطير بهما في الجنة والذي كانت  له حظوة خاصة عند رسول الله (صلى الله عليه وآله)  كان طاهراً عفيفاً حتى في الجاهلية فلم يقرب الخمر ولا الزنا وعلّل ذلك بأنني لا اشرب ما يفسد عقلي وان من طرق باب الناس طرق الناس بابه.

وسلمان الفارسي كان رافضاً من أول عمره عبادة قومه لغير الله تبارك فهجر وطنه الأصلي فارس وتوجّه إلى الشام ثم جزيرة العرب بحثاً عن دين التوحيد حتى حظّي بقرب رسول الله (صلى الله عليه وآله).

مثل هذا الإعداد لأنفسنا والسير الطويل نحو الكمال هو ما يؤهلنا لان نكون من أنصار الإمام (ع) والقادة في مشروعه العظيم، وليس الأمر صعباً على من شمله الله تعالى بلطفه وكانت له إرادة قوية وحب لله تبارك وتعالى ولأوليائه العظام (صلوات الله عليهم أجمعين) وتسامى عمّا عليه مجتمعه من جاهلية وغفلة ومظالم ومنكرات ومفاسد، ولا تحتاج الموبقات والكبائر إلى مؤونة كبيرة لاجتنابها لأنها بطبعها مقززة ومنفرة للطباع السليمة والفطرة النقية.

          وأخص بالذكر أنتم معاشر الشباب الواعين الأنقياء الموالين لأهل بيت النبوة (ع) خصوصاً إذا جالستم العلماء والفضلاء والصالحين وحُسن أولئك فانظروا لأنفسكم [وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ] (الحشر:18) والله ولي التوفيق.



(1) من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع وفد أساتذة وطلبة إعدادية الشوملي في محافظة بابل يوم الخميس 13/ربيع الأول/1432 الموافق 17/2/2011 ومع أعضاء الهيئة التدريسية في قضاء الرفاعي في محافظة ذي قار 18/ربيع الأول/1432

([2]) المراد بها ثورات التغيير العربي التي أطاحت بعدد من الأنظمة الطاغوتية المتفرعنة في تونس ومصر وليبيا واليمن، ولا زالت تغلي على غيرها.