خطاب المرحلة (283)...المبادئ الحسينية وثورات الشعوب

| |عدد القراءات : 7595
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن  الرحيم
المبادئ الحسينية وثورات الشعوب([1])

          لقد أراد الأئمة المعصومون (سلام الله عليهم) لشهري محرم وصفر أن يكونا موسم عزةٍ وكرامةٍ وتحررٍ وانتزاع للحقوق الإنسانية، ومثار شجاعة وثورة على الظالمين وانعتاق من أسر الشهوات والمطامع الدنيوية والإخلاد إلى الأرض، وميداناً للإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وساحة للأخوة والتآلف والوحدة، وانطلاقة للحياة الحرة الكريمة، وزيادة في وعي الأمة وتثبيتاً لقلوبها، وفرصة لإظهار المودة لأهل بيت النبوة ومواساتهم أداءً لأجر الرسالة كما ورد في القرآن الكريم، فعلينا أن نقف في نهاية هذا الموسم من كل عام لنجري مراجعة ونتحقق من مقدار مطابقة أعمالنا وشعائرنا التي قمنا بها لتلك المبادئ المباركة، والآن وقت إجراء هذه المراجعة بعد أن تصرَّم هذا الموسم المعطاء.

          وإذا أردنا أن نقيّم موسم هذا العام فإن المراقب سيجد تقدماً واضحاً وتزايداً من ناحية الكم والعدد الغفير الذين شاركوا في إحياء الشعائر الحسينية في مدنهم أو في كربلاء المقدسة، وأوضح شاهد على ذلك الموكب المليوني الهادر يوم عاشوراء المعروف بركضة طويريج، والمسيرة المليونية الراجلة إلى كربلاء، بحيث نستطيع أن نقول أنه ما من موالٍ لأهل البيت (ع) إلا وقد كانت له مشاركة بنحو من الأنحاء وبما يناسبه.

          وسيجد المراقب تقدماً أيضاً من ناحية الكيف أي النوع إذ تم تصحيح جملة من السلوكيات التي استهجنت من البعض في الأعوام الماضية  كعدم التزام بعض الأخوات بالحجاب الكامل غفلة أو جهلاً، وكبعض التصرفات الصبيانية من بعض الشباب،ويلاحظ أيضا اختفاء أو انحسار بعض الطقوس المتخلفة التي نسبت بدعة إلى الشعائر الحسينية، كما بدأت ظاهرة الالتزام بالصلاة في أوقاتها بالانتشار ومرافقة طلبة الحوزة العلمية للمواكب لإرشاد الناس وتوجيههم ووعظهم وتعليمهم أحكام الشريعة، وانتشار بعض هؤلاء الطلبة على مواكب الخدمة في الطريق لإقامة صلاة الجمعة والوعظ والإرشاد.

          وهذا التقدم لم يحصل جزافاً بل جاء نتيجة لجهود مباركة قام بها العلماء والمبلغون والخطباء وأئمة الجمعة والجماعة وغيرهم من العاملين المخلصين الذين يواصلون عملهم الدؤوب في توعية الأمة وإرشادها، وتوجيه المسارات بالاتجاه الصحيح، ولكن علينا عدم الاكتفاء بما حصل فأمامنا طريق طويل، فما نراه من الشعور بالنشوة والزهو لمشاركة الملايين في الشعائر الحسينية سابق لأوانه لأن الأهداف لم تكتمل بعد.

          وإنما يتملكنا هذا الشعور حينما نرى الناس تجسّد الإسلام في سلوكها وأخلاقها وتجعل حكمه الفيصل في قضاياها، فهل المسيرة كلها تتوقف إذا دخل وقت الصلاة و ينادي المؤذن (حي على الصلاة) ليؤدي الصلاة في وقتها كلٌ في موقعه والأفضل أن تكون جماعة، لأن الأذان دعوة من الله تبارك وتعالى لعباده للقائه ومناجاته والوقوف بين يديه فكيف ينشغل العبد عن تلبيتها؟.

          وحينما نرى فضلاء وطلبة الحوزة العلمية ينتشرون في كل المسافات ليقدموا الزاد المعنوي للزوار وقد رأينا إقبالاً من الناس على من يرشدهم ويوجههم وتأثرهم به.

          وحينما تقدر هذه الملايين بوعيها وشجاعتها على تغيير واقعها المزري الذي يفتقد إلى أبسط مقوّمات الحياة الإنسانية الكريمة بينما تهدر ثرواته الطائلة في أعمال عبثية وتضيع في جيوب الفاسدين وهو يكتفي بأن يبكي ويولول ويلطم وينادي بالويل والثبور، وهو يمتلك كل عناصر القوّة والأهلية للإصلاح والتغيير وعلى رأسها هذا الإمام العظيم سيد الشهداء وسبط رسول الله (ص).

          هل سألنا أنفسنا لماذا يعجز أكثر من عشرة ملايين ساروا مشياً إلى كربلاء من مسافات تصل إلى مئات الكيلومترات وحشد كبير ممن وفروا لهم المأوى والطعام والخدمة والتنظيم، لماذا يعجزون عن تحسين أوضاعهم القاسية ويستمر حفنة من الفاسدين المزوّرين الفاشلين في التحكم بمصيرهم ومقدراتهم، بينما يستطيع عشرات الآلاف –قبل أن يصيروا مئات الآلاف- من المحتجين المتظاهرين الذين اعتصموا في ميدان التحرير في القاهرة أن يغيروا السلطة الجاثمة على صدورهم منذ ثلاثين عاماً؟.

          أستطيع القول: لو كان الإمام الحسين (ع) موجوداً بشخصه بيننا لقاد هذه المسيرة المليونية إلى حيث يقبع الظالمون المستبدون ليجتث جذور الفساد والظلم والاستبداد والاستئثار ويحاسب المفسدين ويعاقبهم ويقيم المبادئ التي تحرك من أجل تحقيقها ولوّجه هذه الملايين لتصوّت في صناديق الاقتراع للكفوئين النزيهين المخلصين المتفانين في عملهم. ولا يكتفي باللطم والمناداة بالويل والثبور.

          انظروا إلى هذه الشعوب التي حولنا والتي لا تملك مثل الإمام الحسين (ع) لكنها تأثرت به ولو من بعيد ومن دون أن تشعر بسريان الروح الحسينية الرافضة للظلم والمنكر والبغي والاستبداد والاستئثار، فلم يكن مصادفة انطلاق ثورة شباب مصر([2]) يوم 25 يناير (كانون الثاني) الذي كان يوم الزيارة الأربعينية حيث تابع كثير منهم ما يُنقل عن الشعائر الحسينية ومعانيها عبر الفضائيات خلال الأيام التي سبقتها، فتأثر بحركة سيد الشهداء وأباة الضيم ورافضي الظلم والمنكر والبغي.

          أيها الأحبّة: أنتم شريحتان مهمتان في المجتمع وعليكم المعوَّل في إحداث التغيير والإصلاح: الشباب الذي هم قلب الأمة النابض الذي يتدفق بالحياة في جسدها، والحوزة العلمية التي هي عقل الأمة المفكر والمخطط والقائد لها خصوصاً الحوزة النجفية التي تتسع مسؤولياتها لتشمل العالم كله.

          ويزيد من مسؤوليتكم عنوان المدرسة التي تنتمون إليها، فإن للعنوان استحقاقاً مضاعفاً، فقد كان السيد الخميني (v) أكثر من فقيه محقق كما لمسنا ذلك في كتبه المطبوعة التي نناقشها في البحث الخارج ككتابي الطهارة والبيع، وبتعبير سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (v) عنه أنه كان فكوراً في درسه.

          فقد كان عاملاً بعلمه آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر خرج ليصلح حال أمته على خطى جدّه سيد الشهداء الإمام الحسين (ع)، وكان أيضاً مربياً أخلاقياً بسيرته و سيمائه قبل كلامه، ولطالما حثّ الحوزة العلمية على الاهتمام بتهذيب النفس وسلوك طريق الكمال إلى جنب تحصيلهم العلمي، وكرّاسه المطبوع (الجهاد الأكبر) -الذي هو مجموع محاضرات أخلاقية ألقاها على طلبته في نهاية سنة دراسية- أحد الشواهد على ذلك حيث قال في افتتاحه: إن أحدكم يستطيع أن يعرف كم حصل عليه من العلوم خلال هذه السنة، لكن هل التفت إلى مقدار ما حاز من الكمال والرقي في تهذيب نفسه واكتساب الفضائل والملكات المحمودة؟.

          ونظراً لأهمية هذه التوجيهات فقد خصصت درساً أسبوعيا لطلاب جامعة الصدر الدينية أعقب استشهاد السيد الصدر الثاني (v) اشرح لهم فيه هذا الكتاب، ولم أكن استعمل النسخة المطبوعة لأن عيون جلاوزة الأمن تلاحقنا بل أقرأ في دفتر نُقل فيه نص الكتاب، فاقرأوا سيرة هذا الرجل الفذّ وتعلموا منه وسيروا على نهجه الشريف الذي عمّت بركاته دولة إيران وغيرها.

          وها هي الشعوب تحرر نفسها من ظلم الطواغيت الذين يتهاوون كعلب كارتونية تدوسها الأرجل مستلهمة حركاتها من سيد الشهداء (ع) وإن لم تلتفت إلى ذلك، ونحن أولى بالحسين (ع) من كل الشعوب وأجدر بالإصلاح لأننا شيعته ومحبّوه وخدمته ونتنفس عطر تربته الزاكية.



(1) من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من أساتذة وطلبة مدرسة الإمام الخميني للعلوم الدينية في النجف الأشرف ومن شباب حي الفضيلية في بغداد يوم الثلاثاء 11/ربيع الأول/1432 الموافق 15/2/2011.

([2]) كانت مصر الدولة العربية الثانية التي امتدت إليها ثورات التغيير التي عُرفت بالربيع العربي بعد تونس، وقد انطلقت التظاهرات والاحتجاجات في القاهرة والإسكندرية وغيرهما من المدن المصرية يوم 25/1/2011 الذي وافق يوم زيارة الأربعين، وبعد أكثر من أسبوعين من المصادمات والمواجهات والوعود التي أطلقها رئيس النظام حسني مبارك والتغييرات العديدة التي أجراها، وفي ليلة الجمعة 7/ ربيع الأول المصادف 11/2 زحف المئات من الآلاف إلى ميدان التحرير مبكرين لإحياء جمعة مليونية واجتمع المجلس الأعلى لقيادة القوات المسلحة بدون حضور مبارك الذي خرج بخطاب وعود أغضب الجماهير فزحفت الملايين يوم الجمعة وأقاموا صلوات جمعة ضخمة طالب أئمتها بتنحي مبارك، وبعد حبس الأنفاس غادر مبارك وعائلته القاهرة عصراً إلى شرم الشيخ وأعلن ناثبه عمر سليمان في بيان من سطرين تنحي مبارك عن السلطة وتولّي المجلس الأعلى لقيادة القوات المسلحة برئاسة وزير الدفاع تسيير الأمور في البلاد.