درس حركي من كلمة امير المؤمنين (فزت ورب الكعبة) وصلح الامام الحسن (عليه السلام)

| |عدد القراءات : 13461
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

درس حركي من كلمة امير المؤمنين (فزت ورب الكعبة)

وصلح الامام الحسن (عليه السلام)

الحمد لله كما هو اهله وصلى الله علة نبيه وسيد رسله ابي القاسم محمد وعلى اله المعصومين

يوم العيد هو يوم قادة الاسلام العظام ، يزدادون فيه شرفا ومقاماً محموداً عند الله تعالى كما ورد في الادعية الشريفة ، ونقف اليوم عند موقفين لأعظم قائدين  في الاسلام بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهما امير المؤمنين والحسن المجتبى ( صلوات الله عليهما ) لنتأمل فيهما ونأخذ منهما درساً حركيا في بناء الامة الصالحة المطيعة لربها.

عندما وقع امير المؤمنين (عليه السلام) في محراب الشهادة في مسجد الكوفة مضمخا بدمه الشريف فقال (فزت ورب الكعبة )كان(عليه السلام) يريد انه فاز ببلوغه المقام المحمود الذي وعده الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) اوانه فاز بلقاء الله تعالى و رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله)  والزهراء (صلوات الله عليها)، وفاز لأنه نجح في الامتحان وأنهى كل حياته على الاستقامة التي أرادها الله تبارك وتعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وغيرها من المعاني .

 ولكننا ألان نريد أن نبين وجهاً آخر لهذه الكلمة الشريفة، نستفيد منه في العمل الحركي الإسلامي، ومن هذا الوجه ننطلق لفهم موقف الإمام الحسن (عليه السلام) مع معاوية مما سمي صلحاً أو هدنة أو غيرها.

وبيان هذا الوجه يحتاج الى مقدمة ملخصها : إننا نعتقد أن الإمام المعصوم (عليه السلام) أولى من الناس بأنفسهم وأموالهم ، وان ولاية أمر الأمة ثابتة له (عليه السلام) واقعاً سواء قام بالأمر أو قعد عنه لمانع ما، ولذا ورد في الحديث النبوي الشريف ( الحسن و الحسين إمامان قاما أو قعدا ) .

ولان ولاية أمر الأمة ممارسه عملية واسعة تدير شؤون الحياة بكل تفاصيلها فإنها تحتاج الى مؤازرة ونصرة، وقدرة لدى الانصار على تحمل المسؤوليات على مختلف مستوياتها كالعسكرية ، و السياسية ، والاقتصادية ، و الإدارية، و الفكرية، والإعلامية، و الاجتماعية ، وغيرها ، ومالم يجد الإمام العدد الكافي من القادرين على النهوض بمفاصل المشروع المخلصين له و المطيعين لأوامره ، فانه لا يتحرك بمشروعه في ولاية أمر الأمة وإدارة شؤونها مع انه حق حصري به ، خوفاً على الرسالة من الفشل و الضياع وتعريضها لضربةً قاضيةً من الأعداء .

لذا نعتقد إن عرض الأمة نصرتها الصادقة للمعصوم (عليه السلام) وقناعته بقدرتها على تحمل المسؤولية شرط ومقدمة لإعمال المعصوم هذا الحق وتنفيذه على الأرض، وقد و الشاهد على ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقم دولته المباركة ويمارس صلاحياته في سياسة أمر الأمة في مكة بل في المدينة المنورة بعد أن بايعه أهلها في العقبة الأولى و الثانية واشترط عليهم أن ينصروه ويحموه كما يحمون نسائهم وأموالهم .

ولما لم يجد امير المؤمنين (عليه السلام) عدداً كافياً من الأنصار بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اعتزل أمر الناس وتركهم لما أرادوا فانقلبوا على أعقابهم مع الاستمرار في وظائف الامامة الاخرى .

ولما وجد الأنصار بعد مقتل الثالث وانثال الناس عليه بالبيعة نهض بالأمر وولي أمر الأمة ، وقال (عليه السلام) في خطبته الشقشقية ( أما والذي فلق الحبّه وبرأ النسمة ، لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجة بوجود الناصر ، وما اخذ الله على العلماء ألاّ يقارّوا على كظّةِ ظالم ، ولا سَغَبِ مظلوم ، لألقيت حَبلها على غاربها ، ولسقيتُ آخرها بكأس أَوّلِها ، وألفيتم دنياكُم هذه ازهد عندي من عفطَة عنز (.

وقد ورد في عدة روايات ان الاصحاب كانوا يطلبون من الائمة (عليهم السلام) القيام بالأمر خصوصاً في فترة الامام الصادق (عليه السلام) ، وكان الامام (عليه السلام) يُرجع السبب الى قلة الانصار ، وهو لا يعني بالضرورة قلة عدد الاصحاب والمضحين ، وانما قد يكون لقلة الاصحاب القادرين على النهوض بمسؤولية بناء الدولة وتطبيق شريعة الله تعالى في كل مفاصل الحياة ، وولاية شؤن الامة ، ولذا لم يصح مقايسة الامر مع نهضة الامام الحسين (عليه السلام) لان النتائج المطلوبة من الحركتين مختلفة و البحث عميق .

وهذا الشرط كما هو ملاحظ في بداية النهوض بالأمر ، كذلك هو مطلوب لاستدامة التصدي ، فمتى ما شعرت القيادة الدينية إن الأمة قد تغيرت ، وانها لا تريد هذه القيادة وهذا النظام، ولم تعد مستعدة للدفاع عنهما ونصرتهما ، بسبب شقوتها وسوء اختيارها ولإنسياقها وراء الشهوات وتزيين الشيطان وتضليل الأعداء ، فان الإمام و القائد يعيد إليها أمرها وليتولاه من تشاء إن كانت لها أراده ، أو يتولاها من يقهر إرادتها ويتسلط عليها بالقوة .

هذا النكوص و الانقلاب على الأعقاب عاشته الأمة في النصف الثاني من خلافة امير المؤمنين (عليه السلام) بعد أن تثاقلت الى الأرض وأصغت الى المرجفين ، وبعد ان استشهد خيارها وصلحائها كعمار بن ياسر وذي الشهادتين وابن التيهان ومالك الاشتر ونظرائهم ، وخَفَتَ بريق الحماس و الوهج الذي استُقبِلت به حكومة امير المؤمنين (عليه السلام) ، وتقوضت أطراف دولته المباركة وانحسرت سلطته حتى حوصر في الكوفة وسط مجتمع متباين مشكك متردد متخاذل ، فمن خطبةً له (عليه السلام) لما تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد وقدم عليه عاملاه على اليمن ، فقال (عليه السلام) موبخاً أصحابه لتثاقلهم عن الجهاد ( ما هي الا الكوفة : اقبضها وابسطها ، وان لم تكوني إلا أنت تهًبُّ أعاصيرك فقبحكِ الله(  .

وكان هذا الخط التنازلي لطاعة الأمة وصلاحها مستمراً بالهبوط و الانحدار ، وانه سيصل في لحظة ما الى الانهيار قال (عليه السلام) في نفس الخطبة ( واني والله لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم ، وتفرقكم عن حقكم ، وبمعصيتكم إمامكم في الحق ، وطاعِتهم إمامهم في الباطل ، وبأدائهم الأمانة الى صاحبهم وخيانتكم ، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم)

ولو وصلوا الى تلك النقطة ، فلا يكون أمام امير المؤمنين (عليه السلام) إلا إرجاع أمرهم إليهم وفك الميثاق الغليظ بينه وبينهم بعد أن نكلوا بواجباتهم ، وهذا يعني تسلط معاوية على الأمة لأنه متربص بالأمر وأعدَّ له عُدتهَّ من الأموال و الجيوش و المعدات و الإعلام المضلِّل و الدعاوى المقدسة لنفسه – ككونه خال المؤمنين و المطالب بدم الخليفة المقتول عثمان- ، وهذا ما كان يخشاه امير المؤمنين (عليه السلام) على الأمة ، ويدعو الله تبارك وتعالى أن لا يريه هذا الموقف ففي نفس الخطبة قال (عليه السلام) ( اللهم إني قد مللتهم وملوني ، وسئمتهم وسئموني ، فأبدلني بهم خيراً منهم ، وأَبدلِهم بي شراً مني) .

 وهذا الدعاء منه (عليه السلام) ليس فراراً من تحمل أي ذلة ومهانة ظاهرية في سبيل الله تعالى لأنه (عليه السلام) كان مستعداً لتحمل أي شيء في طاعة الله تعالى كما صبر على عدوان القوم على بضعة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) فاطمة الزهراء (عليها السلام) بنصب عينيه وإنما لان قيامه (عليه السلام) هو شخصياً بهذا الموقف يعرض الاسلام و التشيع الى خطر جسيم، وقد حقق الله تعالى له (عليه السلام)  أمنيته واستجاب دعائه فرزقه الشهادة قبل أن يبتلى بهذا الموقف ، فقوله (عليه السلام) ( فزت ورب الكعبة) أي نجوت بفضل الله تبارك وتعالى من هذا البلاء العظيم ، ولم أبقى الى اليوم الذي أرى فيه معاوية يتحكم بأمور المسلمين ، وهو (عليه السلام) يرى الموت أهون عليه من رؤية فعل من أفعال معاوية فكيف يطيق تسلطه على رقاب المسلمين، فمن خطبة له (عليه السلام) لما أغارت خيل معاوية على الانبار وقتلوا وسلبوا وعادوا الى أهلهم سالمين قال (عليه السلام) ( فلو إن امرءأُ مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوماً ، بل كان به عندي جديرا )   .

لكن الله تبارك وتعالى ادّخر هذا البلاء العظيم للإمام الحسن السبط المجتبى (عليه السلام) ، إذ إن حال الأمة رجع الى التقاعس والخذلان وحب الدعة والسلامة والإخلاد الى الأرض ، ولم تنفع في إصلاحه الصدمة القوية باستشهاد امير المؤمنين (عليه السلام) ، ولا الجرعة القوية بتصدي الإمام الحسن (عليه السلام) سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيد شباب أهل الجنة الذي لم يستطع حتى معاوية وإعلامه المضلل من التشكيك في أهليته واستحقاقه .

ولم تمض الا عدة أشهر حتى وصل الحال بالإمام الحسن (عليه السلام) الى ما سأل أبوه (عليه السلام) من الله تعالى أن يعفيه منه ، حيث استسلم اقرب الناس إليه وقائد جيوشه الى إغراءات معاوية ، وكتب بعض قادة جيشه الى معاوية ( أن إذا شئت تسليم الحسن سلمّناه إليك ) ودبَّ اليأس و الشك و التردد في قواعده الشعبية ، وكان تكليفه (عليه السلام) أن يعيد أمر الأمة إليها ويلقي حبلها على غاريها كما عبَّر امير المؤمنين (عليه السلام) ليقودها من يقودها الى الضلال .

وكان معاوية المتربص بالأمر قد قويت شوكته وازداد نفوذه وكثرت أنصاره وأمواله لذا كان من الواضح إن الأمر سيؤول إليه بحسب المعطيات الموجودة على ارض الواقع ، وهنا تصرف الإمام الحسن (عليه السلام) بحكمة وشجاعة ورحمة للبقية الباقية من شيعة أبيه (عليه السلام) وأنصاره ،فحول هزيمة الامة هذه الى نصر وتحقيق مكاسب ، ولم يترك الامر مجاناً ومن دون مقابل يحفظ كيان الاسلام ويحمي ابنائه البررة فعقد اتفاقاً مع  معاوية وأملى عليه شروطه التي تقتضي تسليم الأمر بعده الى الامام الحسن (عليه السلام) ، وان لا يتعرض لشيعة أبيه بالسوء، وان لا يمنع عنهم أرزاقهم وان يخصّص مبالغ لعوائل الشهداء مع أبيه (عليه السلام)، وان يحكم على طبق كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبذلك فقد صنع الإمام الحسن (عليه السلام) من تقاعس الأمة وخيانتها وتخاذلها نصراً حققه (عليه السلام) له ولشيعته.

 واقل ما يتحقق من هذا النصر إذا لم يفِ معاوية بالشروط – والإمام يعلم انه لا يفي  بشيء منها – هو فضح معاوية وكشف زيف دعواه ورفع الغشاوة عن أبصار المضلَلينَ به الى قيام يوم الدين ، واحسَّ معاوية في الأيام الأولى بالفضيحة التي أوقعه فيها الإمام الحسن (عليه السلام) لذا كشف عن حقيقته بمجرد دخوله الكوفة بعد توقيعه على شروط الإمام الحسن (عليه السلام) وقال لهم ((إني ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا واني اعلم إنكم تفعلون ذلك ، وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم ((

فموقف الإمام الحسن (عليه السلام) لم يكن صلحاً مع معاوية ولا هدنة ولا أي شيء آخر مما يرتبط بمعادلة الصراع معه ، وإنما هو مرتبط بطاعة الأمة و التفافهم حول قيادتهم وبمقومات قيامه بولاية أمر الأمة ، واذا ورد لفظ الصلح في الوثيقة فليس هو معنى الصلح بالمصطلح العسكري و السياسي ، بل بالمعنى المعروف فقهياً الذي هو الاتفاق بين طرفين على أمر ما.

وهذا المعنى لا يفهمه إلا من مارس القيادة وفهم بمقدار استحقاقه سيرة الأئمة المعصومون (عليهم السلام)، وتعرض لمستوى من المستويات لما تعرضوا له.

ومن نتائج هذا الدرس :

1-          تصحيح فهم موقف الامام الحسن (عليه السلام) ودفع ما قيل من الشبهات .

2-     بيان وحدة الهدف و المسؤولية التي تحملها الائمة المعصومين (عليه السلام) ، وان كانت مواقفهم مختلفة ظاهراً بحسب اختلاف ظروفهم ولو كان ايُّ منهم مكان الاخر لاتخذ نفس الموقف .

3-     ايضاح هذا الشرط لإعمال ولاية المعصوم (عليه السلام) ومن بعده نائبه الفقيه الجامع للشرائط وبذلك نجيب عن جملة من الاشكالات كتعدد الولي الفقيه او وجوب طاعته اذا اعلن عن نفسه كولي لأمر المسلمين ونحوها .

4-      اعطاء درس للامة لكي تلتفت الى إن تخاذلها وتقاعسها واستسلامها للشكوك و الظنون يجعل امير المؤمنين يتمنى الموت ويرى ضرب رأسه بالسيف فوزاً ، ويدفع تخاذل الأمة الإمام الحسن (عليه السلام) الى اتخاذ ذلك الموقف الذي لم يستطع تحمله الكثير من أصحابه المقربين ، والله ولي التوفيق .

 

اللهم انا نتوب اليك في يوم فطرنا الذي جعلته للمؤمنين عيداً وسرورا ولأهل ملّتك مجمعاً ومحتشدُ من كل ذنب أذنبناه او سوء اسلفناه او خاطِر شرًّ اضمرناه ، توبة من لا ينطوي على الرجوع الى ذنب ولا يعود بعدها في خطيئة توبة نصوحاً خلصت من الشك و الارتياب فتقبلها مّنا وارضَ بها عنّا وثبتنّا عليها 

 

 

بسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرحيم


)قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ) (الإخلاص1-2-3-4(