القرآن الكريم يوقظ الإنسان من غفلته
بسم الله الرحمن الرحيم
القرآن الكريم يوقظ الإنسان من غفلته ([1])
لا ينبغي لكم وأنتم مثقفون واعون وشباب رساليون أن تكتفوا من قراءة القرآن بتلاوة حروفه، بل لابد من التدبر في معانيه للوصول إلى حقائقه، وقد قدّمت في أحاديث سابقة أنماطاً للتدبر، ومنها ما أذكره اليوم وذلك بأن تلتفت بلطف الله تعالى إلى قضية معينة لها مساس بالواقع المعاش، ثم تجمِّع ما ورد فيها من آيات شريفة حتى تكتمل صورتها، وسيفتح الله عليك وستظهر أمامك حقائق عن تلك القضية، لم تكن ملتفتاً إليها عندما كنت تقرأ كل آية على حدة فتعرف كيفية تشخيصها، وأسباب حصولها، والأثار المترتبة عليها وهكذا.
وليس من الصعب تجميع الآيات المتعلقة بقضية معينة من خلال مراجعة معاجم وفهارس ألفاظ القرآن الكريم كفهرس الألفاظ الملحق بتفسير شير او تفسير المعين.
ثم تنتقل بنفس الطريقة إلى معاجم كلمات المعصومين ككتاب (غرر الحكم) و (ميزان الحكمة) لتأخذ منها ما يزيد الأمر وضوحاً.
وأشير اليوم إلى واحدة من هذه القضايا المهمة وهي غفلة الإنسان عن نفسه، فالإنسان في هذه الدنيا في غفلة (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا) وقد تحدثنا في خطاب سابق عن غفلة الإنسان عن قيادته الحقة وهو أمر متصور بسبب الجهل والتشويش والشبهات، ولكن أن يغفل الإنسان عن نفسه أعز الأنفس عليه وأثمن شيء عنده لأنه يستطيع أن يكتسب بها الجنان، فهذا أمر مستغرب.
ومن خلال الآيات الكريمة ستجد التباين الواسع بين البشر في التعاطي مع أنفسهم، فمن مستثمر لها كأفضل ما يكون يقول عنه الله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ) (البقرة/270) فتساعده نفسه على الطاعة والتثبيت على الاستقامة (يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ) (البقرة/265) فيخاطبهم الله تعالى (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر/27- 28- 29 -30).
إلى آخرين فشلوا في الاستفادة منها فكانوا كما وصفهم الله تعالى (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) (الأنعام/26) (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (النحل/118) (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم) (البقرة/9) (قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ) (الأعراف/53)، ويبيّن القرآن الكريم سبب انحدارهم إلى هذه النتيجة وذلك لانهم (نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (الحشر/19) (يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ) (البقرة/9)، (انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ) (الأنعام/24) فهذه أسباب خسران الإنسان نفسه من خلال مخادعة الإنسان نفسه ونسيان الله تبارك وتعالى والركون إلى الدنيا، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (إن الصفاة الزلال الذي لا تثبت عليه أقدام العلماء الطمع)([2]).
وتنتهي النتيجة إلى أعظم الخسارة وهي خسارة الإنسان نفسه، فيجعل ثمنها نار جهنم وكان يستطيع أن يجعلها سبباً لنيل جنات المقربين (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (الزمر/ 15) .
وإذا انتقلنا إلى أحاديث المعصومين (عليهم السلام) فسنجد مواعظ قيمة، فعن علي أمير المؤمنين (عليه السلام) (إنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها) وعنه (عليه السلام) (من باع نفسه بغير الجنة فقد عظمت عليه المحنة) وعنه (عليه السلام) (من باع نفسه بغير نعيم الجنة فقد ظلمها)([3]) وفي نهج البلاغة (عباد الله... الله الله في أعزّ الأنفس عليكم، وأحبّها إليكم، فإن الله قد أوضح لكم سبيل الحق، وأنار طرقه فشقوة لازمة، أو سعادة دائمة).([4])
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) (أما ترحم من نفسك، ما ترحم من غيرك، فلربما ترى الضاحي من حر الشمس فتظلله، أو ترى المبتلى بألم يمض جسده فتبكي رحمة له، فما صبرك على ذاتك، وجلدك على مصابك، وعزاك عن البكاء على نفسك، وهي أعز الأنفس عليك).([5])
وعن الصادق (عليه السلام): (كتب رجل إلى أبي ذر (رحمه الله): يا أبا ذر أطرفني بشيء من الحكمة، فكتب إليه أن العمل كثير، ولكن إن قدرت أن لا تسيء إلى من تحبّه فافعل.
قال: فقال الرجل: وهل رأيت أحداً يسيء إلى من يحبّه؟ فقال له: نعم، نفسك، أحب الأنفس إليك، فإذا أنت عصيت الله فقد أسأت إليها).([6])
وفي غرر الحكم عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (عجبتُ لمن ينشد ضالته، وقد أضلَّ نفسه فلا يطلبها).
ولرحمة الله تعالى الواسعة بعباده فإنه لم يكتفِ بالواعظ الخارجي وهم الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) وحملة علومهم، فجعل لهم واعظاً من داخل أنفسهم ينبِّههم إلى الخطأ وهو ما يعرف بـ(الضمير) يحذره من الخطأ قبل وقوعه، ويؤنبه بعد ارتكابه لردعه عن تكراره، بحيث انتشر مصطلح (وخز الضمير) أو (تأنيب الضمير) وهي عبارة عن حالة تألم ورفض داخل النفس تؤدي إلى كربة في القلب، تدعو صاحبها لمراجعة نفسه والعودة إلى رشده.
ولكن الإنسان لسوء اختياره يصمّ أذنه عن سماع الواعظ الخارجي ويكبت واعظه الداخلي، اما بمخادعة نفسه وقلب الحقائق ليوهم نفسه إنه ليس على خطأ، وربما يحاول الهروب من صراعه الداخلي من خلال احتساء الخمر وتناول المخدرات، أو بالتكثير من ارتكاب الأخطاء ليعتاد عليها ويميت ضميره.
كثير من الناس يتصور أنه يخدع الآخرين ولكنه في الحقيقة يخدع نفسه، مثلاً شابٌ ينشئ علاقة غير شريفة مع فتاة فيتبجح أمام زملائه بذلك وكأنّه حقق انتصاراً واستدرج هذه الفتاة، ولا يعلم انها هي التي استدرجته وخدعه الشيطان بها لأنها سلبت منه دينه وخسر نفسه.
يروى أن أحد الوعّاظ في بلد مقدس يقصده الزوار من دول العالم جمع التجار والكسبة في السوق وقال لهم إنني أحذركم من هؤلاء الزوار أن يخدعوكم، قالوا: كيف ذلك وهم غرباء لا يعلمون شيئاً ونحن نخدعهم ونبيع إليهم الأشياء بأضعاف سعرها، قال لهم: هذا ما عنيته بكلامي فلا يخدعونكم ويورطونكم في المعصية.
وأنتم –أيها الشباب- أكثر المراحل العمرية عرضة للانخداع والغفلة عن النفس، فقد ورد في الحديث الشريف (السكر في أربعة) أحدها سكر الشباب، فمرحلة الشباب سبب للغفلة والطيش والغرور.
إن الشباب والفراغ والجده مفسدة للمرء أي مفسدة
ولا نغفل تأثير الجو الاجتماعي العام الذي يساهم بشكل كبير في هذا التمويه والخداع وقلب الحقائق فيقول لك أنت شاب وعليك أن تتمتع وتلهو وتلعب، ليس هذا وقت الجدِّ والعمل، وإذا أراد الموظف أن يكون نزيهاً قيل له: حشر مع الناس عيد، وهل تستطيع بنزاهتك أن تقضي على الفساد، وهكذا حتى يموت الضمير ويخمد بريقه.
([1]) من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من طلبة كليتي الطب والقانون في جامعة البصرة، وطلبة جامعة الصدر الدينية في مدينة الصدر ببغداد ومعهد الإمام الصادق (عليه السلام) للعلوم الدينية في الناصرية يوم الخميس 13/ج1/1433 الموافق 5/4/2012.
([2]) ميزان الحكمة : 2/ 1740.
([3]) غرر الحكم
([4]) نهج البلاغة، خطبة 157.
([5]) نهج البلاغة: خطبة 233.
([6]) الكافي: 2/458.