خطاب المرحلة (204)... الخطبة الأولى المعنى الإيجابي لانتظار الإمام (عليه السلام)

| |عدد القراءات : 3954
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

الخطبة الأولى

المعنى الإيجابي لانتظار الإمام (عليه السلام)([1])

 

  الحمد لله وحده، والحمد حقه كما يستحقه حمداً كثيراً، وأعوذ به من شر نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربي.

  والصلاة والسلام على أشرف خلق الله تبارك وتعالى وأحبِّهم إليه وأكرمهم عليه أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين.

قال الله تبارك وتعالى: [وَتَزَوَّدُوا فإن خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ] (البقرة:197) وقد كان شهر رمضان محطة مباركة للتزود بخير الزاد ليوم المعاد وهي التقوى، بل أن تحصيل التقوى هي الحكمة من تشريع الصوم؛ قال تبارك وتعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (البقرة:183) نسأل الله تبارك وتعالى أن يكون ما أمدّنا به من الزاد كافياً لاستقامتنا على الحق في مستقبل أيامنا.

  وردت أحاديث كثيرة([2]) في فضل انتظار الفرج منها ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج) وروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): (أفضل العبادة انتظار الفرج) وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (انتظروا الفرج ولا تيأسوا من روح الله فإن أحب الأعمال إلى الله عز وجل انتظار الفرج ما دام عليه العبد المؤمن، والمنتظر لأمرنا كالمتشحّط بدمه في سبيل الله).

  وقد فهم الكثيرون من هذه الأحاديث معنىً سلبياً هو الانكماش والعزلة وعدم التحرك لإزالة الظلم والانحراف وتذرّعوا لذلك بفهم غير ناضج لبعض المفاهيم كالتقية ولبعض الأحاديث الشريفة كروايات (كل راية قبل ظهور القائم فهي راية ضلالة)، فعطّلوا فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مما أوجب اتهام الشيعة بالخنوع والاستسلام والركون للظلم والذل، مع أن واقع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) على عكس ذلك تماماً فهي التي تتصف بالحركية والنطق بالحق والتفاعل مع قضايا الأمة ابتداءً من زمن المعصومين (عليهم السلام) حتى عصرنا الحاضر ولم تتخلف عن ذلك إلا فترات بسيطة لسبب أو لآخر. بينما كان الآخرون منساقين وراء رغبات الحكّام سائرين في ركابهم حتى بدأ عندهم الوعي الإسلامي منذ أقل من قرنين من الزمان وسمّوه بالصحوة الإسلامية، ولا يخلو التعبير بالصحوة من إشارة إلى حالة سابقة من الخمول والركود.

  إن الانتظار حالة إيجابية وهو يستبطن عملياً معنى الاستعداد ولو لم يكن كذلك لما حظي بالمنزلة الرفيعة في الأحاديث المتقدمة. ولنأخذ أمثلة من حياتنا على هذا المعنى.

  فحينما نقول أننا ننتظر الامتحانات العامة فإن هذا يعني أن يكون الطلبة في ذروة الاستعداد لها فيجدّون ويجتهدون ويوفّر لهم ذووهم كل الظروف التي تساعدهم على تحقيق أفضل النتائج، وتنهمك إدارات المدارس في إعداد القاعات والأسئلة والمشرفين وغيرها، وهكذا تجد كل من له علاقة بالموضوع منهمكاً في أداء عمله وما تقتضيه وظيفته.

  وحينما تنتظر دولة إقامة فعالية ضخمة كدورة الألعاب الأولمبية التي أقيمت قبل أسابيع في الصين فتجد الدولة كلها مستنفرة في الاستعداد لإقامتها بأحسن حال وتنفق الحكومة المليارات في بناء الملاعب والفنادق وتهيئة المدن وغيرها، وهذا كله مع أن كثيراً من هذه الألعاب عبارة عن سراب يحسبه الظمآن ماءً أو أوهام صنعها الإنسان ليخدع بها نفسه وتتضمن كثيراً من المعاصي زيّنها لهم الشيطان: [وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ..] (الأنفال:48) [وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] (إبراهيم:22).

أقول: إذا كانت الأوهام الباطلة تستحق كل هذا الاستعداد وتحشيد الطاقات وإنفاق الأموال الطائلة، فماذا يعني انتظار اليوم الموعود وأمل الإنسانية الذي لا يعني فقط انتظار إمام عظيم هو بقية الله في أرضه وحجته على عباده – وهذا بحد ذاته يتطلب استعدادات ضخمة-، بل يعني إضافة إلى ذلك انتظار مشروع عظيم مبارك يتوّج جهود الأنبياء والرسل والأئمة والصالحين ويحقق الوعد الإلهي بإقامة دولة الحق والعدل ومحق الفساد والانحراف والظلم.

لا شك أن استقبال قائد عظيم كالإمام (أرواحنا له الفداء) ومشروع خالد كدولته المباركة يستحق منا شيعته التوّاقين لرؤية طلعته المباركة ونصرته والكون في طليعة جنده أن نستعد بحسب ما تقتضيه وظيفتنا وموقعنا.

فالحوزة العلمية والفضلاء والمبلغون ينتشرون في كل ناحية لنشر تعاليم الدين والأخلاق الفاضلة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يساعدهم في ذلك الشباب الواعي الرسالي مستفيدين من وسائل الاتصال المتقدمة وشبكات الإنترنت لإيصال صوت أهل البيت (عليهم السلام) إلى كل مكان في العالم.

والمتصدّون للحكم يبذلون قصارى جهودهم في بناء دولة المؤسسات المزدهرة المتحضرة التي تسودها العدالة والإنصاف والرحمة وبذل الوسع في خدمة الناس وإسعادهم.

والطلبة يجدّون ويجتهدون لبناء مجتمع يمتلك الطاقات المبدعة القادرة على الإعمار والبناء في كل نواحي الحياة ويُغَطّون مختلف الاحتياجات.

والأغنياء والمتمولون ورجال الأعمال يكثّفون جهودهم في الاستثمار لإعمار الحياة وتهيئة أسباب السعادة للناس وخلق فرص العمل وتفجير الطاقات وتشغيل العاطلين ويساهمون في دعم هذه الحركة المباركة، وهكذا.

 

الأغلال الفكرية:

إن الفهم الخاطئ لفكرة الانتظار والتقية والعزلة وغيرها تُعدُّ من الأغلال الفكرية التي تقيّد حركة الإسلام المباركة مضافاً إلى القصور والتقصير الذاتيين، وما لم نحطّم الأغلال ونكسر القيود فإننا لا نستطيع أن نتحرك، وما بِعثة الأنبياء والرسل (صلوات الله عيهم أجمعين) إلا لكسر هذه القيود وتحرير الإنسان من الأغلال الفكرية والنفسية والاجتماعية التي تعيق حركته([3])، قال تعالى: [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] (الأعراف: 157).

تصور لو أن إنساناً مكبلاً بالحديد في يديه ورجليه وهو في سجن محكم وأننا نطلب منه النهوض والحركة والتخلص من سجنه والإفلات من سجّانه، أترى يستطيع ذلك من دون أن يكسر هذه القيود ويفكّ هذه الأغلاق ولو بمساعدة الآخرين؟ والتأريخ يروي لنا عن أشخاص -كأحد زعماء مشركي قريش- طُلب منه - حين الاحتضار- أن يقول كلمتين ما أيسرهما (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) فلم يقدر وقال: إنهما أثقل من الجبال على صدري. لأنه مكبّل بالموروثات الاجتماعية التي تمنعه من مخالفة طريقة الآباء.

  هكذا الإنسان لا يستطيع أن يرتقي سلم الكمال ويستجيب لدعوة الله تبارك وتعالى ورسوله إلا عندما يتحرر من هذه الأغلال قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] (الأنفال: 24).

فما هي هذه الحياة التي يدعونا الله تبارك وتعالى إليها؟ وما هي صفتها؟ قال تعالى: [مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (النحل:97).  

 

أيها الأحبة:

إذن أساس الحياة الطيبة والانتظار والاستعداد لليوم الموعود الذي يؤسس هذه الحياة الطيبة ركنان: الإيمان المبني على العلم والمعرفة، والعمل الصالح المبني على التقوى؛ ففي الكافي عن أبي بصير قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جُعلت فداك متى الفرج؟ فقال: يا أبا بصير وأنت ممن يريد الدنيا؟ من عرف هذا الأمر فقد فُرِّج عنه لانتظاره).

ولا يخفى ما في جواب الإمام (عليه السلام) من توبيخ لمن ينتظر الفرج طلباً للدنيا مثلاً لكي يكون الحكم لأتباع أهل البيت (سلام الله عليهم) فتكون له حصة من (الكعكة) كما يقولون فيكون الوصول إلى الحكم غاية وهدفاً وليس وسيلة لإحقاق الحق وإقامة العدل فيقع أمثال هؤلاء في الظلم والانحراف ولا يحققون الهدف المنشود، وهذا أحد وجوه معنى الرواية الشريفة (كل راية قبل المهدي فهي راية ضلالة) لأنها تتحرك لتغيير الظالم وأخذ موقعه والتمتع بالجاه والسلطة والثروة وليس لتغيير الظلم وخدمة الناس وإصلاح أحوالهم وتأسيس الدولة الكريمة التي تضمن الحياة السعيدة لكل إنسان.

لقد قلنا في خطاب سابق أن الفرج والظهور يبدآن بالإشراق من داخل النفس كلما ازدادت تهذيباً وكمالاً ومن دون انبلاج فجر حقيقة الإيمان في القلب وطهارة النفس فإن الشخص سوف لا يتنعم بالظهور الميمون وقيام الدولة المباركة والعياذ بالله.



([1]) خطبتا صلاة عيد الفطر السعيد عام 1429 المصادف 1/10/2008. وقد دأب سماحته على إقامتها في داره حيث يحتشد المئات وتمتد صفوفهم إلى الشارع والساحة المتصلة به.

([2]) جُمعت من مصادرها في كتاب المعجم الموضوعي لأحاديث الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، الفصل 15، صفحة 413 وما بعدها.

([3]) صدر تحت إشراف سماحة الشيخ إبان الحكم الصدامي المقبور كتاب ضمن سلسة (نحو مجتمع نظيف) عنوانه (كونوا أحراراً) يتضمن دراسة تحليلية لهذه الأغلال وكيفية التخلص منها.