خطاب المرحلة (185)... لا يقرّ للمسؤول المخلص قرار حتى يكون جواب كل واحد من الناس: أنا سعيد

| |عدد القراءات : 2253
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

 لا يقرّ للمسؤول المخلص قرار حتى يكون جواب كل واحد من الناس: أنا سعيد([1])

 من كلمات الإمام الحسين (عليه السلام) مع الجيش الأموي الذي زحف لقتاله وقتله (إن الله ابتلانا بكم وابتلاكم بنا) ومفردة الابتلاء وإن استعملها الإمام (عليه السلام) نفسها في كلا الاتجاهين إلا أن مضمونها ومعناها واستحقاقها مختلف بين ابتلاء الإمام والقائد بالأمة عن ابتلاء الأمة بإمامها.

فمن وظائف القائد اتجاه أمته الإخلاص في رعايتهم وإصلاح شأنهم وهدايتهم من دون أن ينتظر من أحد جزاءاً ولا شكوراً، هذه الكلمة التي قالها الإمام الحسين (عليه السلام) مع أبيه أمير المؤمنين وأمه الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وأخيه الحسن (عليه السلام) في حياة جدّهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعمرهْا بضع سنوات [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ،إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُوراً] (الإنسان8-9)، فهم يفعلون الخير حباً لله تبارك وتعالى الذي يحب الخير ولوجه الله تعالى.

هذا الإحسان الخالص لله تعالى له مشهد آخر بعد أكثر من خمسين عاماً حينما كان الإمام الحسين (عليه السلام) متوجهاً بأصحابه وعياله من مكة إلى العراق، لاقاه الحر الرياحي على رأس ألف فارس من أتباع الأمويين وهم مأمورون باعتقال الإمام (عليه السلام) ومن معه وجلبهم إلى عبيد الله بن زياد والي يزيد على الكوفة وقد بلغ بهم العطش أشده وأشرفوا على الهلاك فسقاهم الإمام (عليه السلام) بيده الشريفة عن آخرهم وسقى خيولهم، والتقى بهم الإمام (عليه السلام) يوم عاشوراء وقد حبسوا عنه الماء وطلب منهم شربة ماء لرضيعه واحتجّ عليهم أنواع الحجج، ولكنه لم يذكر أبداً إنني ألم أسقكم في الطريق وكدتم تهلكون فقابلوا ذلك الإحسان بسقي هذا الطفل الرضيع؟...لم يقل الإمام (عليه السلام) شيئاً من هذا لأنه فعل ما فعل لوجه الله لا نريد منكم جزاءاً ولا شكورا وهي الكلمة التي قالها قبل أكثر من خمسين عاماً.

فالأئمة (عليه السلام) أخلصوا للأمة ولم يدخروا عنها جهداً، فهل قابلتهم الأمة بأن أعطت كل ما عندها في طاعة الإمام (عليه السلام) يقول الإمام الباقر (عليه السلام) (بليتنا في شيعتنا عظيمة، إن أمرناهم لم يطيعونا، وان تركناهم لم يهتدوا بغيرنا).

هذا الابتلاء هو سنة إلهية جرت في عباده، [لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ] (الأنفال:42)، ولو لم يكن هناك ابتلاء وامتحان واختبار كيف سيثبت إحسان المحسن وإساءة المسيء وسوف يجادل المسيء في استحقاقه العقوبة ويجادل المحسن بطلب أكثر من استحقاقه [وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً] (الكهف:54)، وهو لا يكتفي بأن يحتج عليه ربّه بعلمه المسبق بحاله واستحقاقه ما لم يختبره في دار الدنيا ليكتشف الإنسان أمام نفسه مقدار استحقاقه.

والابتلاء يتنوع بحسب تفاوت المسؤوليات والدرجات الذي اشرنا إليه في خطبتي عيد الأضحى، وما دامت الحاجة موجودة فالابتلاء بها متحقق لمن هو قادر على قضائها أو الاهتمام بها والتفاعل معها، فإذا وجد فقير فهو ابتلاء للآخرين وإذا وجد مريض أو سجين أو مخطوف أو مظلوم أو مسلوب الحقوق العامة كحقه في الصحة والتعليم والخدمات والرفاهية والحياة الكريمة فهو ابتلاء للمسؤول المتصدي.

ومجتمعنا –أعانه الله وسلّمه من كل مكروه- يعاني من كل هذه الأنواع من الابتلاءات، ومنطقتكم منطقة المعامل ببغداد واحدة من النماذج التي تعاني من كل هذه المظالم والتقصيرات والاحتياجات فانتم ابتلاء لكل من هو قادر بحكم موقعه أو مسؤوليته أو بما منّ عليه الله تعالى من فضله أن يؤدي ما عليه لأداء واجبه، وأنتم حجة عليه سواء كان مسؤولاً حكومياً أو جهة دينية أو إنسانية أو أفراد أو أحزاباً ومنظمات.

وينبغي الالتفات إلى أن الابتلاء لا يتضمن معنى السلبية والأذى والمحنة بل يمكن أن يكون له معنى ايجابياً بأن يكون فرصة لطاعة الله تبارك وتعالى ونيل رضوانه وذلك هو الفوز العظيم، فلو لم يوجد فقير كيف سنحصل على ثواب الصدقة عليه، وإذا لم يوجد محتاج فستنسدُّ فرصة نيل ثواب مساعدة المحتاج وإدخال السرور عليه.

 فالإنسان بإرادته واختياره هو الذي يجعل من الابتلاء سبباً للنجاح والفلاح والفوز بعلّو الدرجات أو يكون سبباً للوقوع في الهاوية بالتقصير والإهمال واللامبالاة والعياذ بالله تعالى [الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] (الملك:2)، [أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ] (العنكبوت:2-3). إن مشاكلنا في العراق كثيرة ومعاناتنا كبيرة، ويحاول المسؤولون الحكوميون أن يعلّقوها على شماعة الإرهاب وتَرِكة النظام السابق والديون وغيرها، وهي أعذار واهية تعجز عن تفسير كل ما يحصل بالبلد من قتل وخراب، وكل الدول تمر بأخطار وحروب ولا يوقفها ذلك عن مواصلة الأعمار وتوفير الخدمات وفرض هيبة القانون والنظام فالحكومة تتوزع مسؤولياتها على أكثر من عشرين وزارة ومكافحة الإرهاب تختص به وزارتا الدفاع والداخلية والأجهزة الساندة الأخرى.

فما وظيفة الوزارات الأخرى وأين هي انجازاتها وماذا قدمت خلال هذه السنين؟

إن جوهر مشاكلنا هو فقدان الإخلاص لله تبارك وتعالى ولهذا الشعب المظلوم وللبلد الجريح وهو الذي ينتج الأخطار التي أحدقت بنا وعلى رأسها الفساد المالي والإداري الذي ينخر بكيان الدولة ويضيف يومياً المزيد من الفقراء والمحرومين والمظلومين.

ونحن نرى يومياً المظاهرات والاعتصامات وغيرها من الفعاليات وكلها شاهدة على وجود حاجات ومطالب مشروعة وما خفي أعظم، والله تبارك وتعالى يطالبنا بالتحرك بكل ما أوتينا لتحمل هذه المسؤولية [وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً] (النساء:75).

ولا نقتصر في فهم القتال على المواجهة بالسيف فهناك جهاد أكبر وأصغر وكل من سعى للإصلاح وإقامة مشاريع الخير وإنصاف المظلومين فهو مجاهد في سبيل الله تعالى كما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): (الجهاد على أربعة أوجه...) إلى أن قال (عليه السلام): (وأما الجهاد الذي هو سنة فكل سنة أقامها الرجل وجاهد في أقامتها وبلوغها وإحيائها فالعمل والسعي فيها من أفضل الأعمال)([2]).

فلا نتصور أن واجباتنا تقف عند حدود الصلوات الخمس وصوم رمضان وأداء الخمس ونحوها. الم يكن الإمام الحسين      (عليه السلام) يؤدي كل تلك الواجبات؟ فما هذا الابتلاء الإضافي الذي يتحدث عنه الإمام     (عليه السلام) بقوله (إن الله ابتلانا بكم)، انه هذا الابتلاء بحاجات الناس ووجوب بذل الوسع في قضائها ولا يقرّ للمسؤول قرار حتى يكون جواب كل واحد من الشعب إذا سألناه: هل أنت سعيد؟ بقول: نعم أنا سعيد.

ولا ينال ذلك إلا بعون الله تبارك وتعالى وتسديده ولطفه ورعايته.  



 ([1]) من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع وفد منطقة المعامل ببغداد يوم 23/ذ.ح/1428 المصادف 3/1/2008 ومع وفود معلمي الحلة والشعلة ببغداد وطلبة معهد التدريب النفطي في البصرة وطلبة كليتي العلوم والهندسة في جامعة البصرة ونقابة ذوي المهن الهندسية فروع واسط  يوم 25/ذ.ح/1428 المصادف 5/1/2008.

([2]) وسائل الشيعة، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 5ح1.