خطاب المرحلة (169)... حوارات في الفكر الإسلامي : الحوزة العلمية والتيارات الوافدة

| |عدد القراءات : 1791
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم 

 حوارات في الفكر الإسلامي : الحوزة العلمية والتيارات الوافدة(1)

 

س1: سماحة الشيخ هنالك رياح كثيرة عالية التيار تسللت ودخلت الغرف والبيوت مثل الليبرالية والعلمانية والعولمة والحداثة وحتى ما بعد الحداثة وبدأت تتخطف الشباب المسلم، كيف يتأتى لرجال الدين أن يجعلوا من الدين الإسلامي أو الفكر الإسلامي أنموذجاً يحتذى به.

سماحة الشيخ: [بسم الله الرحمن الرحيم. رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي. وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي] (طه: 25-28).

حينما نريد تحديد موقفنا من هذه التيارات وغيرها فلا يجوز لنا أن نقف عند حدود الأسماء والعناوين ونتعامل معها بمسبقات ذهنية صنعتها مصالح قوم موافقين أو مخالفين لهذا التيار أو ذاك، وإنما يجب استيضاح المضمون أولاً والتعرف عليه ثم الحكم سلباً أو إيجاباً.

فالعلمانية مثلاً صوّرها خصومها الذين يتاجرون بالدين ويتخذونه وسيلة لتحقيق مصالحهم على أنها محاربة الدين ومعاداته وحينئذ سيكون رد الفعل السريع هو الرفض والمواجهة، لكن البعض يعرّفها على أنها إلغاء سلطة رجال الدين الذين يسيئون استخدام الفتوى الدينية والقداسة لتحقيق مصالحهم اللامشروعة بدفعٍ من المستفيدين منهم، فهم – أي العلمانيون – لا صراع لهم مع الدين كتعاليم سامية تتكفل بإسعاد الإنسان وضمان حقوقه في حياة حرةٍ كريمة.

وهم بذلك يصلون إلى نصف الحقيقة وعليهم السعي لتحصيل النصف الآخر لأننا جميعاً نرفض استغلال الدين للدنيا وجعله جسراً يعبرون عليه لتحقيق نزواتهم وأهوائهم الشخصية، بل إن أئمتنا المعصومين (سلام الله عليهم) قادوا حملة توعية واسعة لفضح المتسترين بلباس الدين والذين يرفعون اللافتات الإسلامية نفاقاً وقد وصفهم الإمام الحسين (عليه السلام) (عبيد الدنيا، يحوطونه ما درّت معائشهم، فإذا مُحِصّوا بالبلاء قلَّ الديانون) وحذّروا الأمة من اتباع رجال الدين المزيفين (إذا رأيتم العالم مكبّاً على دنياه فاتهموه في دينه).

والذي يراجع تاريخ نشوء العلمانية التي انطلقت من أوربا قبل قرون يجد أكثر من شاهد على أنها كانت تمرداً على دكتاتورية رجال الدين وتخلّفهم واستعباد الناس وسرقة أموالهم بسلطان الفتوى والتحالف مع الملوك الظالمين المستبدين لكنهم في خضمّ صراعهم مع التطبيقات السيئة للدين تخلّوا عن الدين نفسه وخسروا المبادئ السامية التي تركزها عقيدة التوحيد لأنهم لم يستطيعوا التفكيك بين الدين – كتعاليم وشريعة وعقيدة – والمتلبسين به من طلاب الدنيا.

ونحن اليوم نطالب العلمانيين في معاقلهم في أوربا وحيثما امتدت دعوتهم إلى أن يعيدوا النظر في تقييمهم لدور الدين في الحياة بعد أن هدأت ثورتهم ولم يبق ما يخافون منه لأنهم في كثير من المبادئ التي يؤمنون بها كحقوق الإنسان بل الحيوان وسائر معاهداتهم الإنسانية كالحد من أسلحة الدمار الشامل أو الحفاظ على البيئة سيجدونها في الدين الإسلامي العظيم فمثلاً توجد روايات عن أئمة أهل البيت تمنع من إلقاء السم في مياه المشركين المحاربين فضلاً عن غير المحاربين وهو معنى مطابق لما يطالبون به اليوم من منع استعمال الأسلحة الكيمياوية، ولو أجروا هذه المراجعة اليوم مع عرضٍ مقنع منّا وحوار شفاف سنجد إقبالاً واسعاً على الدين من دون تخوّف صنعه التجّار بالدين والذين أساؤوا استعماله والذين خلطوا الأوراق ولبّدوا الأجواء لتأييد جهة أو تسقيط جهة أخرى. وسوف يجد العلمانيون المنصفون أن الدين هو وصفة جاهزة متكاملة ينقذ البشرية مما هي فيه من كوارث ولا يجعل الناس حقل تجارب للنظم والقوانين الأرضية ثم تثبت فشلها بعد ثمن باهظ من أرواح الناس وممتلكاتهم.

وبهذه النظرة في التعاطي مع التيارات الوافدة اعني النظر إلى المضمون بعمق وإنصاف وموضوعية وليس بالانفعالات التي تثيرها العناوين ستكون مسيرتنا إصلاحية تأخذ الجيد وتترك الرديء، وقد بينا في حديث سابق رأينا في الحداثة وما بعد الحداثة بما ينسجم مع هذه النظرة.

 

الفكر الإسلامي وعلم الانثروبولوجي

س2: هنالك نظريات تشير بعلم جديد يسمى (الانثروبولوجي) يختص هذا العلم برسم سياسة الإنسان وإنسانيته، دعى الكثير من المفكرين الإسلاميين الغربيين أمثال الدكتور محمد أركون إلى هذا العلم، هل خلت أجندة الفكر الإسلامي من هذا العلم أم دعت له؟

سماحة الشيخ: لم تخلُ مصادر التشريع الإسلامي من جزئيات هذا العلم، ولكنها الغفلة عن هذا التراث الضخم وعقلية الانبهار بما يردنا من الغرب، وعقدة الحقارة - بحسب تعبير كتب علم النفس – وثقافة الهزيمة التي يعيشها المسلمون منذ عدة قرون ولم يستعيدوا إلى الآن ثقتهم بأنفسهم عدا محاولات في العقود الأخيرة لا يمكن إغفال تأثيرها، ونحن نسعى بجدّ إلى استعادة هذه الثقة والانطلاق بالمشروع الإسلامي الإصلاحي الكبير.

ولو تأملنا في ما وردنا عن أئمتنا سلام الله عليهم لوجدنا أصول ما توصل إليه أهل هذا العلم بجزئيات وتفاصيل لم يلتفتوا إليها وهذه مسؤولية شبابنا الواعي المتعلم أن يقدّم ما عندنا إلى البشرية كلها، وسيجدون حينئذ إن الإنسان هو أكرم المخلوقات وقد خلق الله تبارك وتعالى كل ما في الكون له لأنه خليفته في أرضه [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] (البقرة:30)، وإن حرمته عند الله تبارك وتعالى أشد من الكعبة التي يعتبرها المسلمون أقدس مقدساتهم [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً] (الإسراء:70)، وعندنا في روايات أهل البيت (عليهم السلام) أن الإنسان إذا عاش إنسانيته ولم ينزل إلى مستوى الحيوانية في إتباع الشهوات والنزوات كان عند الله أفضل من الملائكة.

 

كيف يدرك المسلم معاني القرآن

س3: كما يقال أن القرآن حمّال أوجه وكل فرقة فسّرته كما ترى وكل فرقة فسرته لصالح أفكارها متمنطقة ببراهين متعددة، كيف يتسنى للمسلم البسيط أن يدرك حقيقة قراءة النصوص القرآنية وتفسيرها؟

سماحة الشيخ: يتحقق ذلك بالرجوع إلى أهله العارفين بأسراره وهم أئمة آهل البيت (عليهم السلام) ومن وعى تراثهم قال تعالى: [هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ] (آل عمران:7).

وقال تعالى: [وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً] (النساء:83).

فتوجد إذن في القرآن آيات محكمات غير قابلة للتأويل لذا اتفق عليها المسلمون كالتي أوجبت الصلاة والصوم والتي حرّمت الميتة والزنا، أما الآيات القابلة للتأويل أي تحتاج إلى إرجاع إلى حقيقة معناها ولا يكفي فيها النظر الظاهري من (أول) وهو العودة والرجوع فلابد من إحالتها إلى أهلها العارفين بأسرار القرآن، وقد أوضحنا أوصافهم في حديثنا السابق عن الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام). وهم أهل البيت الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.

أما من يبتعد عن هذا المعين الصافي فأنه سيضلّ ويتخبط وتتقاذفه أمواج الضلال والابتعاد عن الحقيقة، وإذا كان له أتباع فسيضلُّ غيره كما فعل الخوارج ضلّوا وأضلوا.

وقد وقع في نفس الضلال خوارج اليوم كالتكفيريين حيث راحوا يتأولون آيات القرآن ويفسرونها بحسب هواهم فسفكوا الدماء المحرمة واهلكوا الحرث والنسل وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. ولذا نصحنا أخواننا أهل السنة بفتح باب الاجتهاد لتنضبط عندهم حركة الإفتاء وتنحصر بمن له الأهلية وتنسدّ باب التأويلات في النصوص إلا لمن بلغ هذه المرتبة السامية.

 

تعدد المرجعية حالة إيجابية

س4: هل سماحتكم مع وجود المرجعية الواحدة أم أنكم مع تعدد المرجعيات؟

سماحة الشيخ:  إن تعدد المجتهدين حاله ايجابية لان معناها وجود حياة فكرية وإبداع علمي في الأمة، كما يقاس الآن نبوغ المجتمعات بنسبة ما فيه من الكفاءات العلمية، وكلما ازدادت النسبة فهذه نقطة مضيئة في تاريخ الأمة.

وهؤلاء المجتهدون يتحولون بالخبرة والممارسة وسعة النشاط الذي يقدمونه على صعيد الحوزة العلمية والمجتمع عموماً إلى مراجع ترجع إليهم الناس لمعرفة أمور دينهم ودنياهم، وكل واحد من الناس يتبع من يراه جامعاً أكثر من غيره لشروط الرجوع إليه التي دوّنها الفقهاء في كتبهم، وقد تتنوع القناعات فيتعدد المراجع. وليس في ذلك ضير لأنها مسألة طبيعية ليست على صعيد عالم الفقه فقط. بل الأمر أكثر في سائر حقول الحاجة البشرية، فهناك عدة مراجع طبية من الاختصاصيين مثلا ولكل واحد شهرته والشريحة المقتنعة به التي تراجعه وهذا شيء حسن.

 نعم على صعيد القيادة وولاية أمر الأمة لا يوجد تعدد ففي المجتمع الواحد والبلد الواحد يكون وليُّ أمرٍ واحد ويكون التعدد منتفياً أصلاً لان اختيار القائد وولي الأمر لا يكون بيد الناس وإنما بيد أهل الحل والعقد من علماء وفضلاء وأساتذة الحوزة العلمية إذا وجدت ضرورة اجتماعية لإعلان ولي أمر وقد لا توجد حاجة أصلاً، ولما كان من صفات ولي الأمر الخبرة بشؤون الحياة والمجتمع فلا ينجح ولي الأمر إلا إذا كان من أبناء ذلك المجتمع وعايش الناس في آلامهم ومعاناتهم وعرف مشاكلهم وتفاصيل حياتهم ولا يفرض عليهم بالقوة أو بالادعاء.

 

اختلاف الفقهاء في الفتوى أمر طبيعي

س5: قرأنا في الرسائل العملية للمرجعيات هنالك خلاف في أمر واحد وفي فتوى واحدة وكل واحد يفتي خلاف الآخر وهنالك من يفتي بالأحوط وجوباً والآخر يفتي بغير ذلك؟ وما هو معنى الأحوط وجوباً في الإفتاء الشرعي؟

سماحة الشيخ: إذا كان سؤالكم يستبطن معنى الاعتراض على هذه الحالة فانه في غير محله لأنها حالة طبيعية مادام باب الاجتهاد مفتوحاً وحرية التفكير والبحث عن الحقيقة مكفولة تماماً، كما أن حالة مرضية معينة تعرض على عدد من الاختصاصيين فليس من الضروري أن يتفقوا جميعاً على تشخيص واحد وإنما قد يختلفون وتختلف رؤاهم، ولا يمكن للإنسان أن يخالف قناعته وما اطمأن إليه قلبه وعقله.

واختلاف المجتهدين له مناشئ متعددة بعضها راجع إلى اختلاف قابلياتهم وقدراتهم على ممارسة عملية استنباط الحكم الشرعي كأي عملية فنية وعلمية وبعضها راجع إلى المقدمات التي يستند إليها المجتهد للوصول إلى النتيجة، وقد مرّت مدونات مصادر التشريع بصعوبات كثيرة خلال التاريخ فأتلف جزء كبير منها كما ينقل التاريخ عما حصل عند احتلال المغول بغداد وبذلك ضاعت على المتأخرين جملة من الأدلة التي كانت متوفرة لدى المتقدمين، وإن نسخ الكتب كان بطريقة بدائية ويكتبون في الليل على ضوء القمر وآلات الإضاءة القديمة وعلى أيدي نُسّاخ غير متخصصين وإنما يُستأجرون لنسخ الكتب، وبسبب ذلك كله قد يغفل عن أمور بسيطة لكنها مهمة، مثلاً يقول الإمام (عليه السلام) (إذا فعلت كذا فعليك كذا أو كذا) فينسخها (كذا وكذا) فمن أطلع على النص الأول يفتي بأن الشخص مخيّر بين أحد الأمرين لان (أو) تدل على التخيير، ومن وصل إليه النص الثاني يفتي بوجوب الجمع بين الأمرين لان الواو تدل على الجمع ، فلاحظ أن حرف الألف كيف أثّر في النتيجة، ومن شاهد الكتب القديمة وطريقة كتابتها يتوقع الكثير من هذه التغييرات والاشتباهات وأمثالها.

فالاستنباط يتطلب جهداً كبيراً في تقليب المصادر ومقارنتها والتأمل فيها ودراستها ولأن الفقيه يتعامل مباشرة  مع النصوص التي مرّ على تدوينها مئات السنين. ووظيفة المجتهد هو بذل الوسع للوصول إلى الحكم الواقعي فإن أصاب فذلك لطف من الله تعالى به وبمن يتبعه وإن اخطأ فله اجرٌ على ما بذل من جهود مخلصة للوصول إلى الحقيقة.

كما أن قناعة الفقيه بما توصل إليه قد تكون تامة وقطعية فيجزم بالحكم، وقد تكون اقل من ذلك فيعبّر بالأقوى أي أن ما أفتى به هو أقوى المحتملات في المسألة وقد يتردد فيضطر إلى أن يفتي بالاحتياط لإبراء ذمته وذمة من يقلده، باعتبار أن الاحتياط يتحرى العمل بكل المحتملات التي تحرز إصابة الواقع.

 

تعريف (المشهور لدى الفقهاء) وتأثيره على عملية الاستنباط

س6: هنالك منهجية تسمى عند الفقهاء (بالمشهور لدى الفقهاء) كيف يكون تأثير هذا المشهور على سماحتكم عند استنباط الحكم الشرعي من الدليل ومواكبة العصر الحديث؟

سماحة الشيخ: إذا كان الحكم موضع اتفاق جميع العلماء من الأولين والآخرين فهو حكم مجمع عليه، والإجماع دليل على اعتبار هذا الحكم والاعتماد عليه لأنه كاشف عن أن هذا الحكم مأخوذ من مصادر التشريع الأولى، وهذه سيرة موجودة لدى العقلاء فانك إذا رأيت جماعة ذات أيدلوجية متفقة على موقف معين فتستكشف أن هذا هو موقف رئيس تلك الجماعة وإلا كيف يفسر هذا الإجماع؟

وأحيانا يكون الحكم غير مجمع عليه لكن يتبناه الأكثر فيسمى (مشهوراً) ولا تكون الشهرة حجة ودليلاً ولا تملك التأثير على الفقيه عند الاستنباط ، خصوصاً إذا كان شجاعاً وحازماً ومقتنعاً بما توصل إليه من نتيجة، وهذا هو موقف الفقهاء من كل المؤثرات النفسية والاجتماعية وغيرها التي يتعرض لها لأنه أمام مسؤولية كبرى أمام الله تعالى ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم).

وأنقل لك حادثة عن الفقيه الكبير صاحب الجواهر المتوفى سنة 1266 هجرية، فقد نقل عنه انه لما كان يبحث في مسألة نجاسة ماء البئر إذا وقعت فيه نجاسة وكمية ما ينزح منه حتى يطهر، أغلق بئراً كان في بيته حتى يفكر بحرّية من دون الضغط النفسي الذي يوجهه لعدم القول بنجاسة البئر لأنها مصدره لاستقاء الماء داخل البيت فلما أنهى البحث عاد وفتحها.

وكذا لا يخضعون للضغوط السياسية رغم شدة ما عانوه من الطواغيت ولا للضغوط الاقتصادية رغم شظف العيش الذي لازم أكثرهم، وهذه النزاهة والأمانة والسمو والدقة في ضبط النفس شروط في مرجع التقليد.

نعم بالنسبة للمشهورين من الفقهاء يوجد لآرائهم احترام لدى البعض لأنهم أساطين الفن خصوصاً مع اقتراب عصره من المعصومين سلام الله عليهم، وربما وصل إليهم من الأدلة ما خفي علينا، وهم غير متهمين فيما أفتوا به بل العكس نتهم أنفسنا بالقصور والتقصير والغفلة عما التفتوا إليه، من أجل ذلك يتجنب الفقيه أحياناً مخالفتهم فيفتي بالاحتياط ونحوه مما يعزز عنده حالة الاطمئنان ببراءة الذمة.

 

لا يمكن للفرد أن يستغني عن التقليد

س7: هل يمكن للإنسان أن يستغني عن التقليد ويعمل بما يمليه عليه عقله.

سماحة الشيخ:  توجد مساحة واسعة من الأفعال والأنشطة الحياتية تسمى (المباحات) ترك فيها الشارع المقدس حرية اختيار القرار المناسب فيها للإنسان نفسه وتوجد مساحة أخرى وضع لها الشارع المقدس حوافز لفعلها وهي (المستحبات) وحوافز لتركها وهي (المكروهات) وتوجد مساحة ضيقة جدا بالنسبة لسابقاتها قد لا تشكل نسبة 1% مما تقدم هي دائرة الأحكام الإلزامية بالفعل وهي (الواجبات) أو الترك وهي (المحرمات)، فلا تستحق هذه النسبة الضئيلة أن يتضايق منها الإنسان.

ثم أن كل تلك التشريعات التي غطت كل تفاصيل حياة الإنسان والمجتمع ولم تقتصر على العبادات فقط بل أن العبادات تمثل الجانب الأقل من أحكام الشريعة إنما أريد بها هدفان: دنيوي وهي سعادته واطمئنانه وخلق حياة بين أفراد البشرية يسودها السلام والأمن والرفاهية والحب والتآلف (وأخروي) لضمان نجاته في الآخرة وفوزه برضوان الله تبارك وتعالى وجنات النعيم خالدين فيها لا يرون فيها ألماً ولا معاناة ولا ظلماً ولا نكدا.

فالنتائج تعود كلها بالخير عليه والله غني عنه لأنه لما خلقه لم يتركه سدى وإنما علّمه ما ينفعه في حياته ودلّه على ما يصلحه، فإذا اعرض الإنسان عن هذه الوصفة الإلهية فقد ظلم نفسه.

وإنما نأخذ هذا النظام الإلهي للحياة من الأنبياء والرسل الذين بعثهم ومن أوصيائهم (صلوات الله عليهم أجمعين) ثم من العلماء العارفين بهذه الأحكام والتشريعات.

ومن طبيعة البشر أن يعود في كل مجال إلى المختصين فيه فلو أصيب بمرض لا سامح الله فانه يراجع الطبيب ولا يسمح لنفسه أن يأخذ كتابا طبياً من المكتبة ويستخرج منه علاجه، لان التفاصيل والمداخلات والاستنتاجات لا يدركها إلا ذوو الاختصاص.

فالإنسان الحريص على حاضره ومستقبله وحياته الأخروية يرجع إلى علماء الدين ليأخذ منهم ما يضمن له النجاة حتى لو كان احتمال وجود عالم الآخرة والحساب والعقاب ضعيفاً فإن خطورة المحتمل تدفعه إلى الأخذ به، لاحظ مثلاً الهوس الذي أصيب به العالم بسبب سماعه بأن شخصاً قد مات بأنفلونزا الطيور في بلدٍ ما فأتلفت ملايين الطيور وبيعت ملايين الأمصال وصرفت المبالغ الطائلة على الإجراءات الوقائية مع أن احتمال إصابة الشخص بالمرض تقل عن واحد من عشرات الملايين، ومع ذلك فانه يجد هذه الإجراءات مبررة لخطورة المحتمل وهو الموت، وان الآخرة أهم من ذلك لأنها الحياة الباقية [وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] (العنكبوت:64)، ونحن لسنا نحتمل بل نقطع ونجزم بوجودها بالتفاصيل التي نقلها لنا مئة وأربعة وعشرون ألف نبي صادق.

إضافة إلى الحياة المطمئنة التي يحياها المؤمن ويفتقدها غيره، نقل لي أحد الإخوة عن طالب يدرس في الصين أن الصينيين قالوا له أن من لا يتناول الخمر ويجتنب الزنا وكذا نسميه الإنسان النموذجي، فماذا يسمون يا ترى الإنسان المسلم الذي يجتنب كل الخبائث ويتحلى بالصفات الحميدة السامية.

وأختصر الجواب بقولي أن الرجوع إلى ذوي الاختصاص في اختصاصهم طريقة عقلائية جارية في كل المجالات، والحقل الديني من أهم ما يجب أن نراعيه لأنه يتعلق بسعادتنا في الدنيا وحياتنا الدائمة في الأخرى فلا نستغني عن الرجوع إلى علماء الدين للأخذ منهم لأنهم أهل الاختصاص، وان العقل يعجز عن فهم أسرار التشريع وإنما تؤخذ من أنبياء الله ورسله.



 ([1])  تقرير لبعض ما ورد في الحوار الذي أجرته (إذاعة القران الكريم) التابعة لشبكة الإعلام العراقي مع سماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) وبثّته بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف لهذا العام 1428الذي صادف 6/4/2007 .