خطاب المرحلة (112)... لقاء سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله)مع السيد أشرف قاضي رئيس بعثة الأمم المتحدة في العراق

| |عدد القراءات : 2265
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

لقاء  سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله)مع السيد أشرف قاضي رئيس بعثة الأمم المتحدة في العراق (1)

 استقبل سماحة آية الله الشيخ اليعقوبي (دام ظله) السيد اشرف قاضي رئيس بعثة الأمم المتحدة في العراق وعدداً من معاونيه ضمن زيارتهم لعدد من المرجعيات الدينية في النجف الأشرف، وبعد أن قدم السيد قاضي نبذة مختصرة عن دور بعثة الأمم الأمم المتحدة في العراق وتأريخها ونشاطها ونقل تحيات الأمين العام كوفي عنان، تحدث سماحة الشيخ (دام ظله) قائلا: إنكم تابعتم الحالة العراقية ووجدتم بالتأكيد موقفاً موحدا من قبل المرجعيات الدينية لأن هدفها واحد وهو خدمة الإنسان وبنائه بناءً صالحاً وتوفير أسباب السعادة والسلام له لذا فأني سوف لن أكرر ما سمعتموه من المرجعيات التي قمتم بزيارتها.

أن دور الأمم المتحدة حيوي وضروري ونحن طالبنا من أول يوم بعد سقوط النظام الوحشي بأن يكون لها دور حاسم، لكن الولايات المتحدة يبدو أنها كانت تظن أنها قادرة على أن تدير العملية بمفردها فلذلك لم تصغ كثيراً لهذه الدعوات أو لم تعطِ لها ألفرصه المناسبة رغم وجود تمثيل لها في العراق من خلال رئيس بعثتها البرازيلي دوميللو الذي قتل بعملية تفجيرية في أب 2003 لكن هذا الوجود لم يكن فاعلاً وبعد أن أرتكب الأمريكيون سلسلة من الأخطاء والإخفاقات أذعنوا بالحاجة للجهد الدولي في هذا القضية. 

 لكننا نعلم أن الأمم المتحدة وكل المنظمات الدولية والإقليمية ليست قادرة لوحدها على حل القضايا ومعالجة المشاكل، إذا لم تكن هناك إرادة جدية للحل لدى الأطراف المعنية بالقضية، والواقع يشهد بذلك فالحرب الأهلية اللبنانية استمرت خمسة عشر عاماً ولم ينفع في حلها أي تدخل لأن كل طرف كان يريد فرض إرادته على الآخر، ولكن لما اقتنعوا بالجلوس إلى طاولة الحوار اجتمعوا في الطائف وأوقفوا الحرب وكذا الحرب الداخلية في الجزائر والتي استمرت عشر سنين وكلفت الجزائر حوالي مئة وخمسين ألف قتيل.

والذي نأمله أن لا تطول الفترة حتى يقتنع الفرقاء العراقيون بضرورة الحوار ونبذ العنف والاستعمال غير الشرعي للسلاح لأن كل يوم إضافي في عمر الفتنة يعني المزيد من الضحايا والتخلف والخراب وتعطيل الحياة.

لذا فإني أعتقد أن دوركم ليس في تقديم المساعدات الإنسانية ونحوها من الأعمال الميدانية لأن لكم دوراً أهم من هذا أنه عمل فكري وثقافي بإقناع الفرقاء بثقافة الحوار والتسامح والمصالح المشتركة وتوزيع الاستحقاقات ولا معنى لحمل السلاح مع أمكانية تحقيق المطالب بالحوار.

وإني متابع لأدائكم شخصياً وأُثمّن فيكم الكثير من المواقف الايجابية التي تتميز بالموضوعية والإنصاف والحيادية التي هي كفيلة بإعطائكم ثقة لدى جميع الأطراف مما يجعلكم جهة صالحة لإدارة هذا الحوار، في حين نجد أطرافاً عديدة متدخلة في الساحة العراقية إلا أنها لا تحظى بقبول جميع الجهات المعنية وهذا يثير الفخر والاعتزاز بشخصكم إلا انه في نفس الوقت يحملكم مسؤولية أضافية لتقوموا بهذا الدور الكبير.

 لاشك إنكم تابعتم أداء المرجعية الدينية التي هي الجهة الرئيسية التي تنصاع لها الناس وتطيعها تعاملت بحكمةً كبيرة  وبضبط نفس عالٍ، فبعد سقوط صدام شعر أهل السنة بالقلق وتركوا منازلهم وعطلوا مساجدهم ظناً منهم أن الشيعة ستنتقم منهم جراء الظلم والاضطهاد الذي لحق بهم من الأنظمة المستبدة المتعاقبة خصوصاً نظام صدام، لكننا أفهمناهم من اليوم الأول إننا وانتم أخوه على دين واحد وأبناء وطن واحد ولا نشعر تجاهكم بأي حزازة، ونحن لم نُظلم منكم بل من عصابة مجرمة لا إنسانية لا تعبأ بأي قيم أو مبادئ وقد أصابكم أنتم شيء من ظلمهم، وقد وصف الدكتور محسن عبد الحميد في زيارته لي عندما كان رئيساً لمجلس الحكم إن هذه الحالة تشبه المعجزة، ثم سارت العملية بنفس الهدوء والحكمة منطلقين من ثوابتنا الدينية والأخلاقية والتي عززتها القوانين الدولية التي أجمع عليها العالم المتحضر أنهُ لا يجوز مؤاخذة البريء بجريمة الجاني وأن [لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى] (الأنعام:164)  وملتزمين بقول الله تبارك وتعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] (المائدة:8).

ولكن هل قابل الآخرون هذا الموقف النبيل بالحسنى كما أمر الله تبارك وتعالى [هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ] (الرحمن:60)، كلا، بل قابلوه بالنقيض فاستقدموا القتلة والمجرمين عن طريق الدول المجاورة وتحالفوا معهم ووفروا لهم حواضن الإرهاب، وبدأوا باغتيال الرموز السياسية والدينية من الشيعة كعقيلة الهاشمي عضو مجلس الحكم آنذاك، ثم قاموا بعملية مريعة عند الصحن الحيدري الشريف في النجف في أواخر آب 2003 استشهد فيها سماحة آية الله السيد محمد باقر الحكيم وأكثر من ثمانين من أبناء الإسلام البررة، ثم فجروا موكب الشهيد المفكر الإسلامي عز الدين سليم الذي كان رئيساً لمجلس الحكم، ثم قاموا بالتفجيرات البشعة يوم عاشوراء من عام 2004 في كربلاء والكاظمية وقتلوا المئات من الموالين لأهل البيت (عليهم السلام) المفجوعين بمصابهم، وصنعوا مثلثاً للموت حسبما يتبجحون به في اللطيفية واليوسفية للذبح على الهوية، وهكذا توالت الاغتيالات والتفجيرات فطالت المدارس والأسواق وتجمعات الناس والمساجد والحسينيات، ونحن صابرون محافظون على تعاليم الله تبارك وتعالى ملتزمون بأن الحل هو في بناء قوات مسلحة وطنية تحمي المواطنين جميعاً وتمنع من تعدد الجهات الحاملة للسلاح عدا الدولة لئلا تقع حالة الفوضى والحرب الأهلية.

 لكن الذي حصل أن هذا الموقف العقلاني أدى إلى نتيجتين عكسيتين مع الأسف.

الأولى: تمادي هؤلاء المجرمين في غيهم وولوغهم في المزيد من الجرائم حتى بلغ بهم الحال إلى تفجير العتبات المقدسة وتهجير أكثر من عشرة ألاف عائلة إلى الآن وقتل العشرات من الأبرياء يومياً.

الثانية: أن الولايات المتحدة أيضاً لم تحترم هذه الحكمة وبدأت تخضع لمبدأ الابتزاز الذي يمارسه هؤلاء المجرمون وبدأت تغير ستراتجيتها ومن آليات عملها لتتناغم مع عمل هؤلاء المجرمين، وكأنها تريد أن تقول لهم: إنكم إذا دفعتم شَرَكم عن قواتنا فأعملوا بالعراقيين ما تشاؤون، والمهم أن لا تتعرضوا لنا وكأنها مسؤولة عن أمن الجندي الأمريكي فقط ولا يهمها أمر المواطن العراقي.

وهذا منطق خطير أي منطق الخضوع للابتزاز بقوة السلاح وأخطر منه أن تخضع له الولايات المتحدة لأنه يؤسس لحالة سلب إرادة الأخر وفرض الموقف عليه بقوة السلاح، ولعلهم غفلوا أن الشريحة الواسعة المظلومة في العراق تتميز بالشجاعة والحماس والعنفوان، وإذا حملت السلاح فسوف لا يقف في وجهها شيء وإذا قرروا ذلك فسوف يلقون بالمعتدين في الجحيم.

وهذا ما حذرنا منه وقلنا أنها حالة خطيرة أن تصاب الشعوب باليأس وفقدان الأمل لأنها سوف لا تجد أمامها حلاً إلا حمل السلاح كالذين ينتحرون وينهون حياتهم حينما يشعرون بأن لا أمل عندهم يعيشون من أجله.

وحينما يقرر شعب الموت فإنه سيقتل معه الكثيرين فاستمرار هذه الجرائم والعدوان على الشعب العراقي يفقده خياراته ولا يبقى أمامه إلا الموت لأنه لم يبق عنده شيء يعيش من أجله إذا كان الأبرياء رجالاً ونساء وأطفالا يُقتلون والعتبات المقدسة والمساجد تفجر والعوائل تهجر تاركة ورائها دورها وأموالها وحينئذ تقع الكارثة.

وتستطيعون اللقاء بطبقات من الناس لتلمسوا عندهم بوضوح حالة اليأس، وإذا وصل الإنسان إلى هذه الحالة فسوف لا يستطيع أحد ضبطها والسيطرة عليها حتى المرجعية الدينية.

فالذي نريده منكم أن تعملوا حتى لا يصل العراقيون إلى هذه الدرجة من الشعور لأنه يعني الدمار ليس للعراقيين فحسب لما تعلمون من امتداد تأثير العراق على الدول المجاورة وغيرها روحياً واجتماعياً، ورأيتم كيف أن صداعاً يصيب النجف تتداعى له دول العالم بالسهر والحمى.

إن الإدارة الأمريكية تعاني من عدة عقد تسبب لها المزيد من الأخطاء التي تكون مميتة أحياناً ومنها:

1- الغطرسة وعدم الاستماع إلى النصائح وإلا فإنه كان يمكنها تجنب الكثير من المطبات لو استمعت إلى النصائح التي تضمنتها بياناتنا وخطاباتنا التي وجهناها من أول يوم للتغيير.

2- عدم وجود رؤى صحيحة للحالة العراقية لأن القنوات التي توصل لها التقييم ليست نزيهة ولا موضوعية ولا خبيرة بالشأن العراقي وإنما توجهها مصالحها ودوافعها الشخصية أو الفئوية ولا يهمهم أن تمرغ سمعة دولتهم بالتراب.

3- أنها لم تتصرف على الأرض كقوة مساعدة للعراقيين وإنما تصرفت كقوى احتلال، وهذا حولها في أنظار الشعب العراقي إلى عدو وأدخلها في مطبات خطيرة كان يمكن تجنبها، فبعد أن كان القادة الأمريكان يقولون أن لنا أنصاراًُ في شرق بغداد عندما دخلوا مدينة الصدر قبل سقوط الصنم واستقبلوهم بحرارة، تغيرت المعادلة بسرعة وأصبحوا يقاتلونهم بعد عام واحد فقط.

وتصرفهم هذا كمحتلين منعنا من الاتصال بهم مباشرة لأن ذلك يعطي مشروعية لوجودهم ولكن متى ما غيّروا سياستهم وأصبحوا في نظر الشعب العراقي قوة مساعدة فعلاً فحينئذ ستكون هناك فرصة للاتصال المباشر.

وفي ضوء هذا التقاطع يكون دوركم حيوياً  ومهماً في إيصال النصائح لهم ليس فقط لأجلنا وإن كنا نستحق كل مساعدة لأننا تعرضنا للكثير من البطش والقسوة والاضطهاد والحرمان، ولكن أيضاً من أجلهم لكي يتجنبوا المزيد من الخسائر والمزيد من التردي في سمعتهم لدى شعوب الأرض وأرجو أن تكونوا قناة طيبة.

وعلينا كشعب عراقي وأنا واحد منهم أن نشكر جهودكم لحرصكم على إخراجه من محنته ومساعدته لتجاوز أزمته، واهتمامكم بقضايا الشعب العراقي ليس انطلاقاً من وظيفتكم المهنية فقط وإنما لأن واجبكم الإنساني وإيمانكم بالله تعالى يحثكم على هذا، فإن الإنسان خليفة الله في الأرض وخلق كل ما في الكون من أجله وهو أعلى قيمة في الوجود، فلا بد أن يُسخَّر كل شيء من أجل إسعاده، لكن الثقافة السائدة اليوم مع الأسف هي استرخاص الإنسان وجعله الضحية الأولى من أجل تحقيق مكاسب شخصية أو مصالح دنيا وهذه ثقافة خاطئة ومجرمة بحق الإنسان.

لقد أكد النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على هذه الأهمية حينما سأل المسلمين عن قدسية الكعبة وعلو منزلتها، ثم قال إن حرمة المؤمن عند الله أشد من الكعبة، فمن الغريب أن يهتز العالم إذا مس بيت المقدس أو سائر المقدسات بسوء -وهو موقف مشكور- ولا يهتز أكثر من ذلك حينما يرى الدماء البريئة الزكية التي حرمها الله تعالى تراق على ارض العراق يومياً بل أن البعض يبارك هذه الأفعال المنكرة ويشيد بها.

وفي ختام اللقاء دعا سماحته إلى تبني منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة باعتبارها مسؤولة عن الثقافة والعلوم والحضارات الإنسانية أن تعقد مؤتمراً دولياً عن الروضة العسكرية المطهرة وسامراء التي فجرها الإرهابيون لوضع الخطط الكفيلة بإعمارها بالشكل الذي يحفظ قدسيتها وهيبتها، فإن مثل هذه الخطوة تساهم في تخفيف الاحتقان وتشعر المفجوعين بوجود تعاطف مع قضيتهم وقد أبدى السيد اشرف قاضي اهتمامه بالمقترح ووعد بالسعي لتنفيذه.

كما طلب دعم سماحته لـ (مبادرة بغداد للسلام) وهو ميثاق يأمل أن يحظى بقبول الواجهات السياسية والدينية والاجتماعية في العراق ليساهم في تخليص العراق من وضعه الأمني المتردي بإذن الله تعالى.

كما وعد بإيصال نصائح الشيخ (دام ظله) إلى الإدارتين الأمريكية والبريطانية والأمين العام للأمم المتحدة.

                                                                

          

محمد اليعقوبي

20ربيع الأول1427

19/4/2006



([1]) حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع رئيس بعثة الأمم المتحدة حينما زاره يوم 20 ربيع الأول 1427 المصادف 19/4/2006.