خطاب المرحلة (111)... إننا بحاجة إلـى مشاريع إعمار كما نحن بحاجة إلـى مشاريع استشهاد

| |عدد القراءات : 3370
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

إننا بحاجة إلـى مشاريع إعمار كما نحن بحاجة إلـى مشاريع استشهاد([1])

 بسم الله الرحمن الرحيم

 إن لبس الكفن الذي ارتديتموه يثير في النفس عدة معانٍ:

الأول: أخلاقي لأن لبس الكفن يعني الاستعداد للموت وللقاء الله تبارك وتعالى والإعراض عن الدنيا وزخرفها وزبرجها وكان السلف الصالح يحرصون على استثارة هذه المعاني التي تزهّدهم في الدنيا وتهذب أنفسهم وتردعها عن أتباع الهوى، فقد كان بعضهم يحفر قبره في بيته وينام فيه كل يوم ويستحضر محاسبة الملكين له ثم يكرر قول الله تبارك وتعالى على لسان الإنسان الذي يكشف له يومئذٍ عن غطاء الغفلة فيرى ما قدمت يداه فيقول [رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ] (المؤمنون:99- 100) ثم يخاطب نفسه بأنك قد أُعدت إلى الدنيا وأستجيب دعوتك هذه فانظر ماذا تعمل، ولا شك أن تكرار هذه التذكرة وهذه الموعظة يومياً لا يجعل ثغرة للشيطان أو النفس الأمارة بالسوء كي تنفذ فيها الشرور والآثام ولذا ورد الحث الأكبر على ذكر الموت والاتعاظ بأخباره وقد فصّلنا الكلام حول الموضوع في كتاب (الأسوة الحسنة). 

فارتداؤكم للكفن واستعدادكم للقاء الله تبارك وتعالى يعني أنكم عمرتُم آخرتكم وتودّون اللحاق بها وذلك هو الفوز العظيم، يروى إن جماعة سألوا أحد أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كأبي ذر أو سلمان (رضوان الله عليهما) انه لماذا نحب الدنيا ونكره الموت قال: لأنكم عمّرتم الدنيا وخربّتم الآخرة فأنتم تكرهون الانتقال من دار عماركم إلى دار خرابكم.

الثاني: حركي أو ثوري يعني إننا مستعدون للتضحية بأغلى شيء وهي النفس من أجل إعلاء كلمة الله تبارك وتعالى ونصرة المظلومين والمستضعفين والدفاع عن الحقوق والمقدسات، كما وصف الشاعر أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام):

لبسوا القلوب على الدروع واقبلوا      يتهافتون على ذهاب الأنفسِ

أي عكس ما يفعل الآخرون حين يلبسون الدروع لوقاية أجسادهم من الإصابة.

وفي ضوء هذين المعنيين فإنكم بلبس الكفن توجهون رسالة لإدخال اليأس على جميع الأعداء فبالمعنى الأول تردّون على الشيطان والنفس الأمارة بالسوء وتحققون الانتصار في ميدان الجهاد الأكبر، أما بالمعنى الثاني فتوجهون مثل هذه الرسالة للأعداء من إرهابيين وطغاة يريدون منكم أن تتخلوا عن حقوقكم وهويتكم وانتمائكم ويخيفوننا بالموت فنقول لهم كما قال الإمام السجاد (عليه السلام) (القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة) وبذلك تحققون النصر في ميدان الجهاد الأصغر.

وحينئذٍ قد ينقدح في الذهن سؤال حاصله إن الأمة إذا تكاملت بتربيتها إلى هذه الدرجة من الإقدام على التضحية بالنفس تحت راية مرجعيتها الرشيدة التي هي نائبة الإمام المعصوم إذن فما الذي يؤخر الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ويقعده عن القيام بحركته الإصلاحية المباركة، ما دام السبب المتوارث تأريخياً هو عدم وجود ناس كذاك الذي أمره الإمام الصادق عليه السلام برمي نفسه في التنور المسجور ففعل فوراً من دون تردد أو مناقشة وقد أجبت عن هذا السؤال في خطاب سابق بعنوان (ما الذي ينتظره الإمام من شيعته) وقلنا إن عليكم الآن أمرين:

الأول: زيادة درجة الوعي لدى الأمة حتى تمتلك الحصانة من التضليل والانحراف والتشويش المؤدي إلى الإرباك وتعويق حركة الإصلاح المنشود.

الثاني: تنمية القدرات على إدارة المجتمع وبناء دولة المؤسسات التي تحكم بين الناس بالعدل والتي تقدم للبشرية نموذجاً حضارياً مزدهراً راقياً يذهل البشرية ويدفعها -لعجزها عن مجاراته- إلى الإذعان بأحقيتها في قيادة البشرية.

 فيا أحبتي إن الإمام ينتظر وجود الحلقة الوسطية بين القائد والقواعد الشعبية المهيأة لنصرة المشروع الإلهي العظيم واعني بهم الثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً الذين يقود بهم الناس، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: كأنّي انظر إلى القائم على منبر الكوفة وحوله أصحابه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً عدة أهل بدر، وهم أصحاب الألوية وهم حكّام الله في أرضه على خلقه.  

وأعتقد أنكم تشاطرونني القناعة إن المتصدين للعملية السياسية والقيادة الاجتماعية لم يقدموا لنا ثلاثة عشر نموذجاً صالحاً لهذا الدور فضلاً عن الثلاثمائة الآخرين فأين من تسير به همته ليكون من هؤلاء [وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ] (المطففين:26)؟

وأنا لا أدعي عدم وجودهم لأنهم قد يكونون موجودين في أوساط الأمة ولكننا لجهلنا وقصورنا وتقصيرنا لم نتوصل إليهم، لكن الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) يعرفهم بأسمائهم وأعيانهم وسوف يجمعهم من أصقاع الأرض أما نحن فليس لنا تلك المعرفة، ولذا طالما دعونا ذوي الكفاءات والقدرات حتى يعرِّفوا أنفسهم كما فعل الصديق يوسف (عليه السلام) حينما قال لعزيز مصر [اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ] (يوسف:55) وما التلكؤ الذي يحيط بحركة المرجعية الرشيدة إلا بسبب هذا النقص والخلل في الحلقة الوسيطة.

 إنني أسمع منكم أنكم (مشاريع استشهاد) وإنكم تأنسون بالموت استئناس الطفل بمحالب أمه إذا أمرت المرجعية الرشيدة بمواجهة الظلم بالسلاح.

ولكن يا أحبتي إن موقف الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء كان يوماً واحداً من(57) سنة عاشها الإمام الحسين عليه السلام ورغم علمي إن موقفاً كذاك كافٍ لصنع الحياة ومستقبل البشرية كلها والواقع يشهد بذلك حيث إننا منذ أربعة عشر قرناً ولا زلنا نحيا بركات ذلك اليوم الحسيني العظيم ولكن لا يجوز لنا أن نغفل بقية الأيام الحسينية من عمره الشريف ومساهمتها في بناء صرح الإسلام العظيم من جميع جوانبه.

فنحن كما إننا محتاجون لمشاريع الاستشهاد حينما يدعونا الواجب إليها كذلك نحن بحاجة إلى مشاريع أعمار لكل أنشطة الحياة الفكرية والأخلاقية والدينية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والهدف الذي خلقنا من أجله [هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ] (هود:16) فلا بد أن تتصدى كل شريحة من المجتمع لوجه من هذه النشاطات التي يكمل بعضها بعضاً بحسب قابليته كل شخص واستعداده انطلاقا من الحديث الشريف (الإنسان ميّسر لما خلق له)، فلكل حالة طريقتها المناسبة لمعالجتها وليس السلاح والاستشهاد دائما هو الحل فهذا تحجيم لطاقات الأمة بل يكون أحياناً هدراً لها وتضييعاً بلا مبرر.

إن مقتضى الحكمة أن حمل السلاح والقتال لا يكون لمجرد القتال وإبراز العضلات والفتّوة وطلباً للسمعة والجاه وحتى يقال انه رجل شجاع ومقاتل شرس أو لكي تمجّده الفضائيات ويملأ شاشات التلفزيون وإنما يكون حمل السلاح وسيلة لتأسيس مشروع فيه خير الأمة وصلاحها ويكون الملاذ الأخير حينما تعجز كل الوسائل.

وهكذا فإن الإسلام لم يأمر بالقتال ليبسط نفوذه وليجني أموالاً ودنيا أو لمجرد تلبية غرائز حب التسلط على رقاب الناس، وإنما قاتل ليحرر الناس من عبادة الطواغيت ويترك لهم الخيار والحرية التامة في اعتناق العقيدة التي يشاؤون ولو إذن كسرى لصوت الإسلام أن يُعرض على الفرس ويسمح لهم بالاختيار بحرية لما قاتله المسلمون، ولكنه لما عتى وتجبَّر وأصرَّ على استعباد قومه قاتله المسلمون وكسروا شوكته، ولما أمَّنوا هذه الحرية للناس تركوا لهم حرية المعتقد، وكان أتباع أهل الديانات الأخرى يعيشون في عاصمة الإسلام وغيرها من الحواضر وتوفر الدولة كل حقوقهم حتى أن أمير المؤمنين عليه السلام وبخ أصحابه حينا رأى مسيحياً يستعطي في عاصمته الكوفة لأنه كبر وعجز عن العمل وأمر أصاحبه بصرف راتب تقاعدي له من بيت مال المسلمين.

ويؤكد قوله تعالى هذه الحقيقة [لا أِكْرَاهَ في الدِينِ] ولكن بعد أن تؤمن حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر للناس جميعاً. ولذا قاتل المسلمون بشرف وجسدوا أسمى ثقافة للقتال، فعندما دخل المسلمون مكة فاتحين كان سعد بن عبادة يحمل راية الأنصار فأخذه زهو الانتصار وتراءى له شريط طويل من ذكريات قريش الظالمة المعتدية مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فاخذ يرتجز ويقول:

اليوم يوم الملحمة             اليوم تُسبى الحُرَمة

فما بلغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا الموقف أرسل ابن عمه عليَ ابن أبي طالب وأمره بأخذ الراية من سعد وان ينادي:

اليوم يوم المرحمة      اليوم تُصان الحُرمة

هذه هي أخلاق الإسلام وأهدافه ومبادئه التي جاء لتأصيلها في الأمة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) فكلُّه خير وعطاء ونفع عميم للبشرية ومواقف أمير المؤمنين مع خصومه الذين شنّوا عليه الحروب وأزهقوا ألاف النفوس مما يطأطئ له الرأس إجلالاً وإعظاماً.

إنني حينما دعوت إلى تشكيل اللجان والمجاميع الشعبية ذكرت عملين لهما وهما:

الأول: تنفيذي ويتضمن:

1- حماية المناطق السكنية والتجمعات البشرية والمؤسسات من اعتداءات المجرمين لأن جهد الحكومة غير كافٍ لوحده في تحقيق هذا الهدف.

2- مساعدة القوات المسلحة الوطنية في القضاء على أوكار الإرهابيين الذين يقتلون الأبرياء ويفجرون أماكن العبادة وينشرون الرعب والدمار في البلد وجزائهم القتل في كتاب الله تعالى [إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا] (المائدة:33).

الثاني: تعبوي ونفسي ليكونوا مستعدين لأي طارئ يستهدف وجودهم وهوّيتهم فإن السياسة لا تعرف أماً ولا أباً ولا صاحباً ولا صديقاً والسيناريوهات الموضوعة للعراق والعراقيين خطيرة وبعضها مرعبة، فلا بد للشعب أن يبرز البطاقة الصفراء لهؤلاء المتأمرين من خلال استعداده لأي مواجهة لإنذاره وإجباره عن التراجع.

ورغم أن هذه التوجهات تثير قلقاً وخشية لدى البعض لاحتمال عدم تطبيقها بالدقة وضمن الحدود المرسومة لها إلا إنني على ثقة كبيرة بوعي القواعد المرتبطة بالمرجعية الرشيدة وأنها لا تحيد عن أوامر قيادتها الشرعية.

وفي ضوء هذه الثقة فأنني أتخذُّ قرارات قد يراها البعض مجازفة إلا أنها في الحقيقة مستندة إلى التقييم الموضوعي لقدرات الأمة وتربيتها النفسية والعقلية، وأرجو منكم أن تكونوا عند حسن ظن قيادتكم فلا تنساقوا وراء عواطفكم وتحملوا توجيهات المرجعية أزيد مما ذُكِر فيها.

إن الردود الانفعالية والتصرفات الارتجالية تخدم مصالح أعدائنا فينقل عن وزير الخارجية الأمريكية رايس أنها تتبنى سياسة (الفوضى الايجابية) أو (الفوضى البنّاءة) تصوّروا كيف تكون الفوضى بما تستلزم من خراب وتدمير وإزهاق أرواح بنّاءة وايجابية وإنما كانت كذلك من وجهة نظرهم لأنها -في العراق- تخدم مصالحهم، حيث يتصارع أبناء البلد الواحد وتتوجه أسلحة بعضهم إلى البعض وبذلك تضعف قوتهم وشوكتهم وينشغلون عن عدوهم المشترك، وسوف يضطرون جميعاً –لعدم إمكان تحقيق الغلبة في مثل هذه الصراعات- إلى الولايات المتحدة لتنقذهم من أزمتهم ويرون فيها المخِلص الوحيد.

فعلينا أن نكون واعين ونحسب تصرفاتنا بدقة ونشخص أهدافنا بوضوح، وهنا يكون دور نخب الأمة وطليعتها من فضلاء وأساتذة ومفكرين ومثقفين وسياسيين وخطباء ضرورياً في ضبط إيقاع حركة الأمة بما ينسجم مع توجهات القيادة لأن المتقدم عليهم مارق والمتأخر عنهم زاهق واللازم لهم لاحق، لأنه ليست كل الأمة قادرة على أن تقرأ أو تفهم إذا قرأت أو تهتدي إلى طريقة التنفيذ إذا فهمت أو تنفذ بصورة صحيحة وغيرها من المشاكل.

وهذه السلسلة من خطابات المرحلة لا تجد فيها اختلافاً ولا تناقضاً بفضل الله تبارك وتعالى وليس فيها تراجع أو تغيير بل تضم مشاريع محكمة ومتواصلة مع قضايا الأمة والتحديات التي تواجهها.

ورغم أن كثيراً من الآخرين لا يأخذون بهذه الأفكار والمشاريع إلا إنني أجدهم يعودون إليها ولو بعد مدة لأنهم يجدون فيها الحل السليم لمشاكل الأمة، ولا احتاج إلى ضرب الأمثلة وما عليكم إلا مراجعتها منذ أن عرضنا مشروع الحكومة الانتقالية قبل تأسيس مجلس الحكم ولم يأخذوا به ثم عادوا إليه بعد سنة من التخبط.

وتناولنا مختلف قضايا الأمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والفكرية والفضل في ذلك كله لله وحده المتفضّل المنان.

إن البعض ما زال يفكر بعقلية المعارضة فيشكل الخلايا السرّية ويخطط لساعة الصفر ونحوها وهذا جهل وتخلّف لأن الحالة تغيرت والأمة تستطيع أن تعبّر عن إرادتها بكل حرية وكل صاحب مشروع يستطيع أن يقنع الأمة به فتنتخبه ليبرهن قدرته على تنفيذ المشروع وبذلك انتقلت الأمة من حالة المعارضة إلى حالة الحكم، فلا بد لها أن تفكر بهذه العقلية الجديدة وتخطط لبناء دولة المؤسسات وسلطة القانون والإعمار والازدهار في جميع أوجه الحياة.

وهذه الثقافة ـ أي ثقافة الحكم ـ لا بد من استيعابها ووضع البرامج التفصيلية لها وهذا موضوع مهم ربما تسنح فرصة أخرى لشرحه بإذن الله تعالى.



([1]) من حديث سماحة الشيخ مع إحدى المجاميع الشعبية من حي المعارف ببغداد وقد ارتدوا الأكفان يوم 11 ربيع1 1427المصادف 10/4/2006 ومن حديث سماحته مع حشود المؤمنين الذين وفدوا لتهنئته بذكرى المولد النبوي الشريف ومن حديث سماحته مع طلبة مدرسة أهل البيت للعلوم الدينية في النجف الأشرف يوم 5 ربيع1 1427.