خطاب المرحلة (76)...الوضع الأمني السيئ مصداق لقوله تعالـى: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ

| |عدد القراءات : 1868
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

الوضع الأمني السيئ مصداق لقوله تعالـى:

(وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)([1])

 

إن كل إنسان نبيل وعراقي شريف يتوجع قلبه ألماً ويعتصر مرارة لما يرتكبه العتاة المجرمون من مستكبرين طغاة وطائفيين وتكفيريين ومرتزقة وجهلة في حق الشعب العراقي من جرائم يندى لها جبين الإنسانية ويتبرأ منها ويستنكرها حتى مرتكبوها والممهدون لها؛ لأنها أفعال قبيحة بكل المقاييس ولا يمكن تبريرها بأي حالٍ من الأحوال. فما معنى تفجير مسجد على رؤوس أهله المصلين المتعبدين؟ وما معنى اقتحام مجلس عزاء وقتل من فيه؟ وما معنى اقتياد صيادين يكسبون القوت لأهلهم وقتلهم صبراً؟ وما معنى تفجير السيارات المفخخة والألغام في تجمعات الناس الأبرياء من غير تفريق بين رجل وامرأة وشيخ وطفل.

إنّ هذه الجرائم ليست جديدة ولم يرتكبها فاعلوها اليوم وإنما هي امتداد لجرائم أصولهم الخبيثة، والجديد هو تنوّع الأساليب والآليات فبعد أن كانوا يمسكون بالسلطة ويظنّون أن بأيديهم مصائر العباد، فدفن المنصور العباسي آل البيت (عليهم السلام) وهم أحياء وقتل هارون العباسي ستين علوياً في يوم واحد ومن قبل ما جرى على سيد شباب أهل الجنة حتى قتلوا الرضيع وسبوا النساء وأحرقوا البيوت وملأوا بهم السجون. فهل ناقش أحد لماذا توفيت الزهراء (عليها السلام) وهي في الثامنة عشرة من العمر، والإمام محمد الجواد (عليه السلام) في الخامسة والعشرين، والإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في الثامنة والعشرين والإمام الهادي (عليه السلام) في الثانية والأربعين وحرموا الأمة بل الإنسانية من عطائهم الثرّ؟

وبالأمس القريب قتل صدام وجلاوزته المراجع العظام والعلماء الكرام والشباب الرسالي وطلائع الأمة التوّاقة إلى الحرية بأحواض التيزاب والمقابر الجماعية والأسلحة الكيمياوية والصعقات الكهربائية، وفي السجون والمعتقلات ويجدون لذتهم ومتعتهم في سفك هذه الدماء الطاهرة.

واليوم عادوا بعد أن جنّدوا مجموعة من المتحجرين والمضلّلين والحاقدين على أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم ووفروا لهم الإمكانيات والمعلومات واستجلبوهم من الآفاق([2]) وضلّلوهم بعناوين (الجهاد) و(المقاومة) و(إنقاذ عاصمة الخلافة الإسلامية) و(التكفير) ليقضوا بهم مآربهم، ووظفوا لذلك عدداً من علماء السوء الذين يصدرون الفتاوى لتبرير هذه الأفعال الشنيعة والحث عليها والدعوة إليها فانطبق عليهم قوله تعالى: >وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أو تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ< (الأعراف: 175 - 176).

وهم يهدفون من كل ذلك إرعاب الأمة وزرع اليأس والإحباط في نفوسها حتى تنـزوي وتترك الساحة لهم ليعودوا من جديد يتخذون أموال الله دولاً وعباد الله خولاً ويهلكون الحرث والنسل ويخضمون ثروات الأمة خضم الإبل نبتة الربيع.

فمسؤولية الأمة حينئذٍ وردّها الحاسم هو التواجد المكثف والفاعل في الساحة وملأ مفاصل الدولة والحياة كما وقفت بشجاعة ووعي يثيران الفخر والاعتزاز يوم الانتخابات وفي المسيرات المليونية في ذكرى زيارة الأربعين، وأن لا تكترث بإرهاصات هؤلاء المجرمين ولا يقلل من عزيمتها ما نفقده من دماء عزيزة علينا وخسائر جسيمة فإن هذا النزيف مستمر منذ أن خلق الله البشر فانساق بعضهم وراء شهواته ونزواته وأطاع هوى نفسه الأمارة بالسوء >وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إذ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ، فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ< (المائدة: 27 - 30).

فعلى أمتنا الحرة الكريمة أن لا تضعف وأن لا تشعر بالإحباط من وقوع الجرائم التي تكشف عن هزيمة مرتكبيها وإفلاسهم ويأسهم وفشل أطروحاتهم، حتى أنهم لا يستطيعون تبنّي أي عملية منها ولا تستطيع جهة أن تتحدث باسمهم وتعلن مطاليبهم ليتسنى للجهات المعنية النظر فيها وتحقيق ما هو مشروع منها كما هو دأب كل العقلاء الذي لهم أهداف من أفعالهم، أما هؤلاء فلا هدف لهم إلاّ الدمار والخراب ونشر الرعب ليهزموا إرادة الأمة، وهم بأفعالهم الخسيسة هذه أهون من أن ينالوا من عزيمة الأمة إذا امتلكت قوة الإرادة لمواصلة الحياة وتأسيس مستقبل جديد، وتغيير معادلة استمرت ألف وأربعمائة عام كانت إرادة الأمة فيها مصادرة ولا مكان للأحرار إلاّ في السجون ومقاصل الإعدام، ولا يمكن لكلمة الحق أن تتنفس.

ومثل هذا التغيير التأريخي العظيم لابد له من ثمن وهو مهما كان عظيماً فإن الغاية منه أعظم ويهون دونه، فليست دماؤنا أغلى من دماء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) وقد وهبوها بكرم وسخاء طاعة لله تبارك وتعالى.

لقد التفت العالم الآن إلى الوجه القبيح لهؤلاء وأخذ يصدّق أن أسلاف هؤلاء قتلوا الرضيع وأحرقوا بيوت عقائل النبوة ودفنوا الصلحاء وهم أحياء وقطعوا رؤوس الشهداء ومثّلوا بجثثهم الزواكي ورضّوها بحوافر الخيل، وليست هذه الأخبار حكايات مصطنعة ليستدرّوا بها عواطف السذّج والجهلة كما كانوا يصوّرون.

وبدأ العالم يقرأ التأريخ من جديد ويقيّم حوادثه وفق الرؤية التي حصلت لديه ليجد أن الإسلام لا يمثله هؤلاء الطواغيت المتسلطون بغير حق الذين ملأوا صحائف الكتب عاراً وشناراً بجرائمهم، ولا أذنابهم الذين يعيشون على فتات موائدهم ولا الهمج الرعاع الذين يتبعوهم وينعقون مع كل ناعق. وإنما يمثل الإسلام ثلة آمنت بربها فزادها هدى وآتاها تقواها جسدّت المعاني الإنسانية النبيلة بأسمى صورها، لكنها أقصيت وغُيّبت ولم يُعطَ لها حق الحياة ومع ذلك فقد ملأت بمآثرها ومكارمها الخافقين، فبدأ العالم بكل أديانه وطوائفه يعيد قراءة التأريخ ويتلقى بنهم كل ما يُعرّفه بأهل البيت (عليهم السلام) وتعاليمهم وأصولهم والمرجعية الدينية وخصائصها وطريقة حياتها التي جعلت لهم هذه الهيبة والقداسة وقوة التأثير في أتباعها.

ولقد قلت قبل زيارة الأربعين أن هذه الحشود الهائلة وبهذه الشجاعة والتضحية الجسيمة ستجبر الأعداء قبل الأصدقاء على إعادة قراءة الخارطة السياسية والاجتماعية والديمغرافية والفكرية للعراقيين، وأول من صدق ظني عليه هو الرئيس الأمريكي بوش، فقد نقل أحد أخواننا المقيمين في واشنطن أن بوش تابع المشاركة المليونية والشعائر المهيبة التي أدوها وهم يسيرون مئات الكيلومترات مشياً على الأقدام إلى كربلاء، فأبدى إعجابه وطلب من مستشاريه تقديم تحقيق مفصل عن هذه الشخصية التي استشهدت منذ ألف وأربعمائة عام ولا زالت تحرك ملايين البشر بهذا الحماس والعاطفة الجيّاشة.

بهذه الأفكار استطعنا أن نلتفت إلى أكثر من أمر يعيننا على تجاوز المحنة ورباطة الجأش وتثبيت القلوب والنظر بأمل وتفاؤل إلى المستقبل وخلاصتها:

1- إنها ليست حالة جديدة حتى نحنّ إلى الماضي، بل هي على أي حال أقل خسائر في الأرواح والممتلكات مما كنا ندفعه من قبل فإن الحرب مع إيران وحدها التهمت مليون إنسان ومئات المليارات من الدولارات وغزو الكويت أدى إلى قتل ربع مليون إنسان وتدمير البنى الأساسية للبلد وغيرها.

2- إن هذا الدم العزيز الغالي لم يذهب هدراً وإنما هو ثمن لتغيير معادلة عمرها ألف وأربعمائة عام كانت إرادة الأمة فيها مسحوقة ويتسلط عليها أراذلها.

3- إنها كشفت عن الوجوه القبيحة لمدّعي إمارة المؤمنين وتمثيل الإسلام وسلّطت الأضواء على الأخلاق السامية والتعاليم المباركة لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام).

ومع إيماني العميق بأن الأمن والخبز هما من الحقوق الأساسية للإنسان ولا نستطيع مطالبته بأي استحقاقات إلاّ بعد توفيرها وأن الله تبارك وتعالى لم يطالب الناس بعبادته إلاّ بعد أن منّ عليهم بهما، قال تعالى: [فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ] (قريش: 3-4)، إلا أنه لا ينبغي للأمة أن تبالغ في تقييم الأمور وتضيّع الأهداف العليا التي يجب أن يعيشوا من أجلها ويملأ هذا الهاجس كيانهم وكأنه لا همّ لهم ولا هدف إلاّ التخلص من السيارات المفخخة والألغام.

والثمرة الأخرى التي تحققت نتيجة فعل هؤلاء المجرمين والتي هي مصداق لقوله تعالى: [فَعَسَى أنْ تَكرَهُوا شَيئاً وَيجعَلَ اللهُ فِيهِ خَيراً كَثِيراً] (النساء:19)، [وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ] (البقرة: 216)، أنه بعد أن وطأت أقدام المحتل هذه الأرض المباركة كان هذا الغزو العسكري وسيلة لغزو فكري وأخلاقي وعقائدي واجتماعي يريدون به مسخ الهوية الإسلامية لهذا الشعب وتغيير ثقافته وتقاليده وأنماط سلوكه وإلحاقه بالركب الغربي، ويجري كل ذلك على أيدي منظمات ومؤسسات بعناوين مختلفة كحقوق الإنسان وأطباء بلا حدود والتدريب على الديمقراطية وتأهيل الاقتصاد ومواكبة تكنولوجيا العصر وتحرير المرأة وتطوير المهارات وغيرها، وكانت هذه المنظمات تمثل جيشاً جراراً لا يقلّ عدداً ولا عدة عن تجهيزات الغزو العسكري، ويمتلك عناصر القوة والتأثير من مبالغ مغرية ووسائل إثارة وتكنولوجيا متطورة يقدّمها بالمجان من أجل أهدافه الخبيثة.

وبصراحة أقول: إن شعبنا لم يكن مستعداً لهذا الغزو الكاسح والواسع، وكان يمكن أن يذوب ويضمحل لأنه يعاني الفقر والحرمان والاضطهاد والتخلف والتجهيل، فهو يسارع إلى تلقي أي مساعدة تنعش وضعه ولا يفكر في عواقبها برويّة، فجرى التخطيط الإلهي في توظيف عمل هؤلاء المجرمين لمصلحة الدين (كما كان لجريمة قتل الحسين (عليه السلام) التي هي أفظع جريمة شهدتها البشرية الأثر البالغ في حفظ الرسالة الإسلامية عبر التأريخ)، حيث فرّت تلك المنظمات وردّت على أعقابها ولم يبق منها إلاّ القليل وتأثيرها محدود بحيث يستطيع الشعب بتربيته التي حصل عليها أن يحصّن نفسه لمواجهتها حتى يؤهّل نفسه لمواجهة أعلى عند قدوم المزيد منها وهكذا تتصاعد حصانته وتربيته وتكامله تدريجياً ليستوعب تصاعد الخطر الذي يزداد مع استقرار الوضع لذلك سمعتم قبل أسبوعين تقريباً تصريحات بعض المسؤولين الأكراد التي تتحدث عن نشاطات واسعة لمنظمات تبشيرية في شمال العراق تهدد عقيدة إخواننا هناك إن لم يتداركوا أنفسهم.

أسأل الله تعالى أن يشّد على قلوبكم ويزيدكم هدى وبصيرة ويثبتكم على صراطه المستقيم.

 

محمد اليعقوبي

28 ربيع الأول 1426  المصادف 7/5/2005



([1]) تقرير الكلمة التي ألقاها سماحة الشيخ على حشد كبير من طلبة جامعة بغداد والمستنصرية والتكنولوجية وكلية التقنيات الميكانيكية والمعهد التقني في بغداد يوم السبت 28  ربيع الأول 1426 المصادف 7/5/2005.

([2]) نقلت التقارير بالأرقام وجود عشرات المكاتب والخلايا لتجنيد هؤلاء المضللين في الدول العربية والإسلامية والأوربية وبعثهم إلى العراق.