خطاب المرحلة (69)...مشاعر في يوم الانتخابات

| |عدد القراءات : 1892
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

مشاعر في يوم الانتخابات (1)

 بسم الله الرحمن الرحيم

 [اليَومَ يَئِسَ الذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُم فَلا تَخْشَوهُم وَاخْشَونِ] 

أهنئ سيدي ومولاي صاحب العصر والزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وكل العراقيين الأحرار والشرفاء في هذا اليوم بما أبدوه من وعي وشعور بالمسؤولية في هذا الفصل التأريخي من حياة الأمة، حيث أنهم أدركوا أنهم عند مفترق طريق، فإما أن يعبئوا قواهم ويعطوا أصواتهم لنخبة صالحة كفوءة قادرة على بناء عراق حر كريم وتحقيق أمل العلماء والشهداء والمضحين والخيرين، أو يبقوا في زوايا النسيان ويتركوا الساحة للظلمة والمجرمين والانتهازيين والمتسلطين ليعيدوا دورة التأريخ الشنيع من جديد.

فلم يترددوا في الاختيار الأول، وأثبتوا أنهم شعب حضاري أخذ مكانه بسرعة وسط أكثر الشعوب تقدماً ونضجاً وفهماً للديمقراطية، أي تمكين الشعب من اختيار قادته بنفسه رغم سياسية التجهيل والحرمان والتخلف عن ركب الحضارة الإنسانية التي مارسها صدام المجرم خلال عقود من الزمن، وإن نسبة المشاركة في الانتخابات تزيد عن نسبة المشاركة حتى في الولايات المتحدة، رغم البون الواسع بين ظروف البلدين.

وأهنئهم على شجاعتهم وصلابة إرادتهم وقوة عزمهم حين توجهوا إلى صناديق الاقتراع رغم تهديدات القتلة والولعين بسفك الدماء البريئة الذين بلغت بهم الخسة أدنى مراتبها، وأولغوا في الجرائم ليكسروا إرادة العراقيين، ويثنوهم عن عزمهم عن التحرر والانعتاق من تسلط الجبابرة والطواغيت وعبدة الدنيا الزائفة، لكن العراقيين شيوخاً وشباباً ونساءً ورجالاً حتى العجزة والمعاقين جاؤوا وبحالات قل نظيرها ليساهموا في صنع مستقبل أبنائهم إن لم يكن في العمر فسحة ليتنعموا به هم، وقد ارتدى بعضهم الأكفان واغتسل آخرون غسل الشهادة واصطحبت النساء أطفالهن ليقلن للعالم إننا نموت جميعاً من أجل التحرر من سلطة الظالمين، وإعادة الحق إلى أهله، ومشى بعضهم عشرات الكيلومترات سيراً على أقدامهم بسبب حضر مرور السيارات.

وأهنئهم على طاعتهم لمرجعيتهم الشريفة التي ثبتت بحزم على موقفها المطالب بتمكين الشعب من ممارسة حقه ورفضه أية وصايا أو قيمومة إلا لله تعالى ملبية نداء العلي العظيم [وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً] (النساء:75)، وقاتلت المرجعية من أجل المستضعفين والمحرومين والمضطهدين بكل الأدوات المتاحة من حركة دبلوماسية، وتعبئة جماهيرية، وتوعية شعبية، وحزم وإصرار من أجل تثبيت هذه العملية التي تكفل للأجيال حقوقهم، وانتصرت إرادتها بالإخلاص والحكمة وحسن السيرة.

وأهنئهم على أخلاقهم التي زرعها الإسلام في قلوبهم وسلوكهم، فقد سارت الحملة الدعائية شريفة رفيعة رغم تنافس أكثر من مئة كيان، لم يكن للمهاترات الكلامية أي نصيب فيها إلا ما شذ وندر، وهذا السمو الإنساني لم نجده عند أي شعب آخر، وبنفس النزاهة سارت العملية الانتخابية فإن كثيراً من المراكز الانتخابية خلت من مراقبة الأشخاص الممثلين لشبكات المراقبة أو ممثلي الكيانات السياسية إلا أنها لم تخلو من مراقبة الضمير والخلق الإسلامي الرفيع.

وأهنئهم على حبهم لوطنهم وسعيهم الدؤوب لتحريره من قيود الظلم والتخلف والتعسف، بحيث اتحدت قلوبهم جميعاً في داخل العراق وخارجه على حب هذا البلد الكريم الأصيل مهد الحضارات ومنطلق الحرية والعدالة، فاختلطت دموع الفرح مع أهازيج الانتصار، وكان الجميع متآلفين ومتوافقين على بناء مستقبل زاهر ولم يتعكر صفو المحبة بالطمع في المناصب أو الاستئثار و الأنانية.

وأهنئهم على صبرهم رغم طول المحنة وشدة البلاء وظلوا متمسكين بهويتهم ومبادئهم لم يخضعوا للأصنام البشرية ولم يرضوا بعبادتهم من دون الله العلي العظيم حتى جاء اليوم الذي انتزعوا فيه حريتهم وكرامتهم.

في مقابل ذلك كله وبعدما قال الشعب كلمته ووقف وقفته البطولية المشرفة وسطّر كل تلك الملاحم توجد استحقاقات على عدة أطراف أخرى.

فعلى السادة المنتخَبين للجمعية الوطنية أن يعرفوا لهذا الشعب حقه وفضله وتضحيته حتى وضعهم في هذا المكان الشريف؛ بأن يكونوا ممثلين حقيقيين لمطالبه وآماله ويبذلوا كل ما في وسعهم من أجل استعادة حقوقه المشروعة وتخفيف آلامه وجروحه وتحسين وضعه على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والأخلاقية، وأن يجعلوا من الجمعية خيمة لكل العراقيين الشرفاء ليساهموا في صنع المستقبل الحر الكريم وان كنا نقدر لهم حجم المعاناة التي تواجههم والقيود التي تحاصرهم.

وعلى الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأخرى التي تحتفظ بقوات في العراق أن تحترم إرادة هذا الشعب، وتتعامل معه بكل إنصاف وموضوعية وتتجنب سياسة القهر والإذلال والاستعلاء والاستكبار، فإنها قد جربت هذه السياسة طيلة الأشهر العشرين الماضية فجعلها موضع سخرية واستهجان وتهكم وكراهية للعالم، حتى اعترفوا أن ثمانين بالمئة من شعوب العالم تكره الولايات المتحدة، ولكنها حينما رضخت لإرادة الشعب وأعطته حريته رأيناهم كيف رفعوا رؤوسهم وعلت وجوهم البسمة وعوضوا بعض إخفاقاتهم السابقة.

وهم مطالبون اليوم ومن خلال هذه التجربة الناجحة أن يغيروا سياستهم في التعامل مع الشعوب وسيكونون هم أول الناجحين المتحضرين والمستفيدين من نتائجها الانتخابية.

إن الولايات المتحدة تتحمل اليوم مسؤولية كبيرة لأنها رمز حضارة الغرب وعنوانها والنموذج الأرقى لها فأي فشل تقع فيه سيسيء إلى سمعة كل هذه الحضارة ويزيد نفور الشعوب منها.

وعلى الدول الإقليمية التي ساهمت بصورة وبأخرى في تخريب العراق ودفعه إلى الهاوية لولا لطف الله تبارك وتعالى ووعي الشعب العراقي وحكمة قيادته، أن ترجع عن غيها وعدوانها وتقبل خيار الشعب وتحترم إرادته بكل مكوناته ولا تستسلم إلى تعصبها وطائفيتها وأنانيتها، ولتعلم أنهم أول المتضررين من هذا البغي والعدوان، فهذه سنة إلهية في عباده (من سل سيف البغي قتل به) (لو بغى جبل على جبل لتدكدك)، ويتعظوا بالتجارب التأريخية القريبة قبل البعيدة، فقد وقفوا مع صدام في عدوانه على شعبه وجيرانه فكانوا أول ضحية له ودعموا الإرهاب في العراق وها هي حوادث الإرهابين في بلادهم يقودها ناس بعثوهم هم إلى العراق ودفعوهم بالتضليل والعقائد الفاسدة، وإذا كانوا بالأمس قد عانوا كثيراً من ظاهرة (الأفغان العرب) فسيعانون أكثر من (العرب) الذين يقومون بالتخريب وقتل الأبرياء وزعزعة الأمن والاستقرار في العراق حينما يعودون إلى بلادهم في يوم ما.

ولا ينقضي عجبي من التسافل الذي وصلت إليه إحدى الفضائيات العربية وهي تتبجح بانتحاري يفجر نفسه في طابور من الناخبين، أو مسلحين يقتلون امرأة متوجهة إلى صناديق الاقتراع، أو يضربون بالقذائف مركزاً انتخابياً!! هل وجدت مثل هذه الحالة في اشد شعوب العالم تخلفاً؟ نعم، لا وجود لها إلا في القلوب القاسية والعقول الفارغة للتكفيريين المتعصبين سلالة الخوارج، وعند صدام المجرم الذي هدد في الثمانينات لمهاجمة المراكز الانتخابية في إيران وأجابه السيد الخميني (قدس سره) بإصراره المعروف: حتى لو بقيت وحدي فإني سأذهب إلى صناديق الاقتراع.

إني أعرف أن هذه الدول الإقليمية حينما تحرض على التخريب إنما تخشى انبعاث الشعوب ومطالبتها الحقة باحترام إرادتها وكرامتها وعدم استعبادها، فلا تريد تلك الأنظمة لنموذج حضاري أن يقوم في المنطقة، ولكن ليعلموا بان الشعوب لا بد أن تتحرك  في يوم ما وتطالب بحقوقها، وحينئذٍ سوف لا ينفع الظالمين إيوائهم إلى الجحور كما لم ينفع صداماً من قبل فليعيدوا النظر في سياساتهم مع شعوبهم وليبدأوا التعامل بالعدل والرحمة والإنصاف.

أسأل الله تعالى أن يجمع كلمة عباده على الهدى والصلاح ويوفق أولياء أمورهم لما فيه رضاه وصالحهم إنه ولي النعم.

 

محمد اليعقوبي

النجف الأشرف

20 ذ.ج 1425 هـ المصادف 31/1/2005



([1]) كتبت لتخليد وقفة الشعب العراقي لاستنقاذ حريته واستقلاله حينما هَبَّ للإدلاء بصوته في أول انتخابات حرة شاملة في تأريخه يوم 30/1/2005 رغم أن قوى الإرهاب والشر أعلنت الحرب العامة ضد المراكز الانتخابية ومن يشارك فيها وقد صدرت منهم فعلاً جرائم وصمتهم بالعار لكنها لم تنل من شجاعة العراقيين وإصرارهم.