خطاب المرحلة (66)...العيد يرسّخ ركني الإسلام : كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة

| |عدد القراءات : 3631
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

العيد يرسّخ ركني الإسلام : كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة

 بسمه تعالى

أقام سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) صلاة عيد الفطر المبارك للعام 1425 هـ في باحة داره، حيث اجتمع العشرات من المؤمنين، وبعد الصلاة قام لأداء الخطبتين وافتتحهما بالحمد والثناء على الله تبارك وتعالى كما هو أهله وكما يستحقه حمداً كثيراً، ثم قال توجد كلمة لأحد العلماء يقول: (بُني الإسلام على ركنين: كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة) وهي عبارة صادقة بدرجة كبيرة ولم تأتِ من فراغ وإنما هي مستقرأة من مجموعة وفيرة من النصوص الشريفة في القرآن والسنة وهذان الركنان تُساهم فعاليات العيد في ترسيخهما في نفوس وقلوب المؤمنين.

أما كلمة التوحيد –ولا نعني بها لقلقة اللسان فقط- فهي وإن كانت تمثل درجة من درجات الإيمان ومعبّرة عما في قلب الإنسان وضميره ومبرزة لهذا الاعتقاد الباطني، إلا أنها غير كافية كما قال تعالى [قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] (الحجرات:14) فالمطلوب من المسلم مراحل أخرى:

منها: انعقاد القلب على هذه الحقيقة بأن لا إله ولا مدبر ولا ربَّ ولا معبود ولا كامل وغيرها من المعاني إلا الله تبارك وتعالى.

ومنها: إشراق هذه المعاني على حياة الإنسان وتأثيرها في سلوكه فلا يخشى إلا الله تبارك وتعالى ولا يطيع أحد غيره ولا يرجو الخير إلا منه ولا يبغي رضا أحدٍ غيره ولا يتوكـــل إلا عليــــــه ... وهكذا.

وقد جعل الله تبارك وتعالى أزمنة شريفة -ومنها يوم العيد- فرصة كبيرة لتعميق هذه المعاني، فقام الأئمة (عليهم السلام) بحكم وظيفتهم الإلهية وهي الأخذ بيد العباد في طريق الهداية وإيصالهم إلى الكمال بوضع برنامج عمل تفصيلي لهذه الأيام، فعلمَّوا شيعتهم عدة صيغ للطاعة من الصلاة والدعاء والسنن والمستحبات وتضمنت الأدعية الحمد والثناء لله تعالى على جميل صنعه إذ وفق لصيام هذا الشهر العظيم، وأعان على قيامه وتلاوة كتابه الكريم في وقت حُرِم منها الكثيرون بحسب درجات الحرمان المتفاوتة، فأحدهم -وهو أسوأهم- لم يؤدِ ما فرض الله عليه من صيام وصلاة واشتغل بالمعاصي، وآخر صام ظاهراً بمعنى أنه امتنع عن الطعام والشراب لكنه لم يمنعه صومه عن الخوض في المحرمات كالغيبة وظلم الناس والمعاملات المحرمة والنظر إلى ما حرم الله وحضور مجالس البّطالين ونحوها فهو قد حُرِم من درجة من درجات العطاء الإلهي، وهكذا تمتد درجات الحرمان بمقابل درجات القبول والقرب من الله تعالى، وكل درجة من درجات القبول تقابلها درجة من درجات الحرمان [وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً] (الإسراء: 21).

ومما تضمنته الأدعية من معان: التوسل إلى الله تعالى بالمغفرة وعدم المؤاخذة على التقصير وقبول الأعمال بكرمه وان لا يعاملنا بعدله بل بفضله (اللهم أدِّ عنا حق ما مضى من شهر رمضان واغفر لنا تقصيرنا فيه ولا تؤاخذنا بإسرافنا على أنفسنا واجعلنا من المرحومين ولا تجعلنا من المحرومين) وفي دعاء آخر (إلهي ربح الصائمون وفاز القائمون ونجى المخلصون ونحن عبيدك المذنبون).

فإذن ليس كل عمل يأتي به الإنسان يكون مقبولاً وإن كان مطابقاً للشروط التي ذكرها الفقهاء (قدس الله أسرارهم) في رسائلهم العملية التي تتكفل بإبراء الذمة من التكليف، أما القبول فيتطلب درجة من درجات التقوى [إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ] (المائدة:27).

ومن الأجزاء الواجبة في خطبتي صلاة العيد التذكير بتقوى الله تبارك وتعالى كتلاوة الآية الشريفة [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ] (التوبة:119) [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ] (النساء:1)، وقد ورد مثل هذا الحث كثيراً في القرآن في إشارة واضحة إلى غياب هذه الحالة عن حياة الناس حتى المؤمنين.

فالعيد –بخطبتي صلاته- يعيد للمؤمنين هذه الحالة الروحية الوجدانية التي يستشعرها في حياته ويستحضرها في معاملاته وتصرفاته لتكون هي المقياس؛ لذا فسّروها في بعض الأقوال (أن يجدك الله حيث أمرك ويفتقدك حيث نهاك) فإذا أمرك بالصوم فيريد أن يجدك مع الصائمين وأمرك بالصلاة فلا بد أن يجدك مع المصلين ... وهكذا ونهاك عن الغيبة فيجب ان يفتقدك في مجالس الخائضين فيها ... وهكذا.

وفي هذا السياق دعا الأئمة (عليهم السلام) شيعتهم إلى الإكثار من ذكر الله تعالى والعمل الصالح يوم العيد، وعدم جواز الاشتغال باللعب والضحك ومما ورد في هذا المجال عن الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) أنه نظر إلى ناس في يوم فطر يلعبون ويضحكون فقال لأصحابه والتفت إليهم: إن الله عز وجل جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى رضوانه، فسبق فيه قوم ففازوا وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب كل العجب من الضاحك اللاعب في اليوم الذي يثاب فيه المحسنون ويخيب في المقصرون وأيم الله لو كشف الغطاء لانشغل محسن بإحسانه ومسيء بإساءته)([1]).

وهكذا يعمق العيد هذا الركن الأول من ركني الإسلام في شخصية المؤمن).

ثم أنهى خطبته الأولى بقراءة سورة الكوثر، وبعد جلسة خفيفة قام إلى الخطبة الثانية:

 

فبدأها بالحمد لله تبارك وتعالى ثم الصلاة على النبي وآله بأسمائهم فرداً فرداً وقال: (إن العيد يتكفل بترسيخ الركن الثاني وهو توحيد الكلمة من خلال عملين:

الأول: الحث على التزاور والمعانقة والمصافحة ونبذ القطيعة والتباغض والتشاجر، وهذه الأساليب العملية لها دور فعال في حفظ تماسك المجتمع المسلم ووحدته وسيادة روح الألفة والمحبة بين أفراده فمن الأحاديث الواردة في المصافحة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال (إن المؤمنين إذا التقيا فتصافحا أدخل الله يده بين أيديهما واقبل بوجهه على أشدهما حباً لصاحبه فاذا اقبل الله بوجهه عليهما تحاتت عنهما الذنوب كما يتحات الورق من الشجر)([2]) وغيرها كثير، ولما علم الله تبارك وتعالى أن الناس يشتغلون خلال السنة بتفاصيل حياتهم اليومية فتقل اللقاءات بينهم خصوصاً مع تعقيد الحياة المعاصرة؛ لذا جعل العيد فرصة ليجددوا هذه العلاقات ويزيلوا عنها ما شابها من الكدر ونزعات الشيطان.

وهذا التماسك والتآلف هو الأساس الرصين لبناء أمة مزدهرة متقدمة قوية، وترى أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أول ما عمل حين صدع بدعوته المباركة هي المؤاخاة بين المهاجرين أنفسهم، ثم بعد ما هاجر آخى بين المهاجرين والأنصار كأول خطوة قبل أن يبدأ عمله الرسالي الواسع العظيم، وكان أصحابه (صلى الله عليه وآله وسلم) بمستوى المسؤولية فكان الأنصاري يتنازل للمهاجر عن نصف ماله حتى إذا كان له رغيفان أعطاه واحد وإذا كانت له زوجتان طلّق واحدة وتزوجها المهاجر.

وهكذا استطاع أن يبني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دولته المباركة الحصينة في المدينة وانطلق منها ليفتح العالم لأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يعلم أنه لا تستقيم له دولة ولا يستطيع أن يبلّغ رسالة ربه، وأصحابُه متقاطعون متباغضون يلعن بعضهم بعضاً، ويفسق بعضهم بعضاً فكان لا يسمع كلام أحدهم السيئ عن الآخر ويقول لهم (أحبّ أن امضي عنكم وأنا سليم الصدر)، وبذلك قطع هذه المادة الأساسية للتقاطع وسوء الظن وهي النميمة ونقل نقائص الآخرين وتشويه سمعتهم وتسقيطهم.

فما أحوجنا اليوم إلى وعي هذه العملية المباركة التي قام بها المصلح العظيم وباني دولة الإسلام العظيمة، ولو سألتني عن أهم معوق للعمل الإسلامي في الفترة التي تلت بعد سقوط الطاغية لأجبتك إنه هذا التقاطع والتشنج في العلاقات والتزاحم على المواقع الدينية والسياسية والاجتماعية -رغم أنها كلها إذا خلت من الإخلاص لله تعالى فهي لا تعدو كونها دنيا زائفة وزائلة- مما أنهك الأمة وأضعفها وجعلها نهباً للأعداء يطمع فيها كل قريب وبعيد، وأضاع الكثير من فرص التقدم ومشاريع بناء الأمة المتكاملة وهدر الطاقات وأمات الآمال التي انتعشت في يوم ما.

إننا بإذن الله تعالى مقبلون على عملية انتخابات، وقد بذلت الأمة وقياداتها جهوداً مضنية لإقرارها حتى رضخت الأطراف المعنية، ونحن نريدها أن تكون نزيهة ومنافسة شريفة لتقدم الأكفاء وتحكيم إرادة الأمة في من يقودها، لكنهم سيعملون لتحقيق مصالحهم من خلال هذه العملية، وليس من الضروري أن تتطابق المصالح فستستمر حالة التجاذب والتدافع ليحقق كل طرف ما يريد [لَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحج:40).

ومحل الشاهد أن من السلبيات المتوقعة والتي سيعمل الأعداء على ترسيخها هي حالة المهاترات الكلامية وتبادل الاتهامات ومحاولة التسقيط والتشويه والإلغاء والإقصاء التي ستتبعها الفئات المتنافسة بشتى الوسائل المتاحة من أجل إرضاء أنانياتهم وتحقيق مصالحهم الشخصية أو الفئوية، مما سيمزق الأمة بشكل أوسع وها نحن ننبه إلى هذا الخطر من وقت مبكر لأخذ الحيطة والحذر.

إن التنوع في التفكير والوصول إلى نتائج مختلفة استناداً إلى مقدمات متباينة حالة طبيعية ودليل على الإبداع، ولكي لا يجوز لها ان تتجاوز حدودها الايجابية لتؤدي إلى التقاطع والتناحر.

إننا نشهد اليوم تمزقاً على صعيد الوطن فبعض الأكراد ينادون بالانفصال في الشمال وآخرون يطالبون بانفصال الجنوب وأسيئ معنى الفدرالية.

ونشهد تمزقاً على صعيد الدين فهؤلاء المتحجرون الجهلة الحاقدون يقتلون ويدمرون ويفجرون بلا رادعٍ من دين أو أخلاق أو إنسانية وبوسائل وحشية، وحوادث اللطيفية والمحمودية والسيارات المفخخة والاغتيالات بعض الشواهد على ذلك، يريدون أن يجروا البلاد والعباد إلى حرب طائفية تهلك الحرث والنسل، وينفذوا خطط أعداء الأمة من حيث يشعرون أو لا يشعرون، ولولا حكمة المرجعية الشريفة وحلمها وبصيرتها وورعها ووعي الأمة وطاعتها لقيادتها الدينية لما بقي المجتمع على حاله اليوم.

ونشهد تمزقاً داخل المذهب الواحد بسبب اختلاف التوجهات الفكرية والقناعات المتعددة وهكذا تستمر الانشقاقات بشكل لا يُسِّر الصديق ويدمي قلب كل غيور.

ومع هذا الوضع الخطير كيف ستبنى الأمة وتزدهر البلاد وكيف سنحقق السلام والسعادة لأبناء الشعب لذا يجب أن يثوب الجميع إلى رشدهم وينظروا بعين الناقد البصير ويعودوا إلى سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث كان أول عمل هو تأليف قلوب أتباعه وتوحيد شملهم وبناء مجتمع متماسك محذراً إياهم من مغبة التفرق والتشتت التي يكون أول نتائجها ذهاب القوة والدولة [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا] (آل عمران:103) .

ولمراسيم العيد وسننه ومستحباته الدور الكبير في سيادة روح المحبة والتصافي بين أفراد الأمة.

الثاني: التذكير وإلفات النظر إلى القيادة الحقيقية للأمة التي أمر الله تبارك وتعالى باتباعها (وجعل إمامتنا نظاماً للملة)(1)، فالإمامة والقيادة الشرعية للأئمة المعصومين (عليهم السلام) وامتدادهم من الفقهاء العدول الجامعين للشرائط هو الحصن الذي يحمي الأمة من التفكك، وما تشتتت الأمة وما تمزقت إلا حينما أعرضت عن قيادتها الحقيقية.

وهذا المعنى يؤكده العيد ويرسخه في قلوب المؤمنين من خلال الحث الأكيد على زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) وفهم معاني ثورته المباركة، ومن خلال دعاء الندبة الذي ورد استحباب قراءته في الأعياد وهو دعاء جليل يذكّر الناس بالركب الكريم من أنبياء الله ورسله والأئمة المعصومين والأولياء الصالحين الذين بلّغوا رسالات ربهم وأدوا ما عليهم وقدمّوا التضحيات الجسيمة التي يشير إليها الدعاء.

ثم يركز في خطابه على الإمام المهدي (عليه السلام) باعتباره الإمام الفعلي والقائم بأعباء الرسالة الإلهية الشريفة والمدخر لإقامة الحق والعدل وإزالة الأمت والعوج، وليذكرنا أن العيد الحقيقي هو يوم إقامة حكم الله تبارك وتعالى في الأرض على يد الأمناء من عباده.

هذا هو يوم العيد في شرفه، وهذا هو يوم العيد في معطياته وهذا هو دور يوم العيد في حياة المسلمين.

ويبقى (كل يوم لم تعصِ الله فيه فهو عيد) هو شعار المؤمنين وخلاصة نظرتهم إلى معنى العيد.

جعلنا الله وإياكم من أهل طاعته ورزقنا وإياكم مرافقة أوليائه في بحبوحة جناته إنه ولي النعم.

 

 

ملاحظة:

كانت الخطبتان ارتجاليتين

وقد قررهما أحد طلبة جامعة الصدر الدينية

ثم نقحهما سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله). 




([1]) وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة العيد، باب 37، ح3.

([2]) وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العشرة، باب126، ح7.

(3) من خطبة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في مسجد أبيها (صلى الله عليه واله وسلم).