بعض المواعظ والاسرار المعنوية لفريضة الحج

| |عدد القراءات : 2303
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بعض المواعظ والاسرار المعنوية لفريضة الحج

إن مناسك الحج حافلة بالمواعظ والعبر والدروس المعنوية لمن تأمل فيها ابتداء من استعداده للسفر وتحضيره لمستلزماته وجوازه فيتذكر هل حصّل جواز مروره على الصراط وهل حصّن نفسه وقلبه من الرذائل المعنوية كما اصطحب شهادة للتطعيم ضد الاوبئة وهل حضّر زاده للآخرة بالتقوى (إن خير الزاد التقوى) كما حضّر امتعته لسفرة مهما طالت فانها لا تتجاوز أياماً معدودة اما الموت فهو سفر الى حياته الدائمة ويتذكر برفقاء السفر قرناءه في القبر فالرفيق المريخ المؤنس هو كالعمل الصالح القرين لصاحبه في القبر والرفيق المشاكس المتعب كالعمل السيئ (وقيضنا لهم قرناء) (فهو له قرين) وهذا لمجرد التذكرة والا فالفرق شاسع ثم يذكر نعمة ربه عليه اذ سخر له من الآلات ما تطوي به المسافات البعيدة دون عناء وحينما يفارق اهله ووطنه ومحل عمله ونمط حياته الذي تعوده يتذكر غربته بعد الموت ومفارفته لماله وأحبته الذين افنى عمره لخدمتهم ولم يصحبه الا عمله.

 

وحينما يتجرد عن ملابسه ويرتدي ثوبي الاحرام يستشعر ذهابه الى ربه وحيداً فريداً (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ماخّولناكم وراء ظهوركم ومانرى معكم شفعاء كم الذين زعمتم انهم فيكم شركاء ) مؤتزرا كفنه فقط وان يفهم من الاحرام تخليه وتوبته عن سيرته السابقة وبدء صفحة جديدة بيضاء من العمل لا يملأها الا بما هو صالح وحينما يطوف حول بيت ربه يعلم نفسه كيف يجعل الله تبارك وتعالى هدفا في كل تفاصيل حياته ومحورا لكل اعماله ثم يصلي لربه فلا يعبد الا الله ولا يسجد الا لله ولا يطيع الا الله ولا يخضع الا الله فاذا فعل ذلك كفاه الله حقارة وذل طاعة غيره والخنوع والعبودية للمخلوقين.

 

وحينما يجلس وسط المسجد الحرام وفي قبالة بيته يستشعر الهيبة والجلالة لخالقه العظيم وامتنانه وشكره لجليل نعمه وجميل صنعه ويستشعر الحياء من التقصير في حق طاعته والهمة والعزيمة في التغيير نحو علاقة افضل مع ربه.

 

وهكذا يسترسل في هذه الاجواء والمعاني القدسية في سعيه بين صفا والمروة ووقوفه في عرفات والمشعر الحرام ومبيته في منى وذبحه للهدي وحلقه لرأسه حتى اذا وقف لرمي الجمرات أخذه الحماس لرمي النفس الامارة بالسوء بسهام الورع والتقوى والشوق الى رضوان الله تبارك وتعالى ورمي شياطين الانس وطواغيت الارض واولياء الشيطان بسهام الاخلاص لله تبارك وتعالى والالتزام بشريعته الكاملة وعدم الانخداع بالمغريات او الخوف ونحوها من الوسائل البالية لشياطين الانس والجن.

 

ولو شاهدتم معي منظر المسلمين من شتى دول العالم على اختلاف جنسياتهم والوانهم ولغاتهم يسعون بصوت واحد في كتائب والوية ومجاميع وترتفع امامهم اعلامهم وراياتهم متوجهين جميعا نحو الجمرات ليرجموا الشياطين التي تبدو عاجزة ساكنة جامدة متحجرة لا تملك ان تدافع عن نفسها ويرجع الجميع مزهوين بالانتصار وإصابة الشياطين لرأيتم منظرا مهيباً مهولاً وكم تمنيت لو ان هذه الملايين توحدت بهذه الهيئة وبهذا الحماس والاندفاع لترفض طواغيت الارض والقوى المستكبرة لاستطاعت ان تهزمها بدون سلاح ولا تحتاج ازيد من هذه الحجارة ولكن عليها ان ترجم اهواء النفس الامارة بالسوء قبل ذلك فان النصر على الاعداء لا يتحقق الا بعد الانتصار في ميدان الجهاد الاكبر داخل النفس مع جنود الشيطان وهناك على صعيد منى وداخل الحرم المكي الشريف وفي كل زمان ومكان تعيش الامل والامنيات السعيدة يوم العيد الاكبر حينما يأذن الله تبارك وتعالى لوليّه الاعظم بالظهور فيوحد هذه الجموع ويقودها نحو الخير والسعادة ويحكم بالقسط والعدل.

 

وحينما تتجول في مكة ستجد في كل مكان ذكرى للرسول الاكرم (ص) ومعلماً من معالم الاسلام التي لها مكان شامخ في قلوب اهله فهنا ولد رسول الله (ص) وهنا عاش في كنف جده عبد المطلب وعمه ابي طالب وبين هذه الازقة كان يتردد وفي هذا الغار الذي يسمو عاليا ويطل على الانسانية كلها كان يتعبد وفي هذا الشعب حاصرته قريش مع عمه وزوجته واصحابه عدة سنين عاشوا فيها سنوات محنه وهنا كان بيت الزوجية السعيدة المثالية التي قضاها مع أم المؤمنين خديجة هذه الارض وفي ثرى هذه البقعة الطاهرة (الحجون) دفنت اجساد جده وعمه وامه وزوجته ومن هنا انطلق نور الاسلام ليضيئ للبشرية طريق السعادة والكمال وهذا هو البيت العتيق الذي جعله الله مثابة وأمنا يتوجه اليه المسلمون من كل اصقاع الارض هذه هي مكة ومعالمها التي اغتصب رسول الله (ص) منها قلبه ونفسه وروحه غصباً وهو يغادرها الى ارض الهجرة (المدينة المنورة) بأمر الله تبارك وتعالى فمضى (ص) وهو يتلفت الى الوراء ليملأ ناظريه من الارض المقدسة حيث يتوسطها اول بيت وضع للناس وودع فيها ذكريات الاهل والاحبة وسنوات الجهاد والدعوة الى الله تبارك وتعالى والعبادة المخلصة له واشفق على قلبه الرب الرؤوف الرحيم فطيب قلبه بكلمات نزل بها الروح الامين (ان الذي فرض عليك القرآن لرادك الى معاد) وصدق الله وعده فاعد النبي (ص) الى مكة فاتحا منتصرا بعد ثمان سنوات.

 

وتقطع الطريق من مكة الى المدينة وهي تزيد على اربعمائة كيلومتر فتتذكر معاناة النبي (ص) واصحابه كيف قطعوها ورجال قريش الاشداء تلاحقهم وتبحث عنهم وهم قلة مستضعفون حتى انجاهم الله تبارك وتعالى.

 

وفي المدينة حيث المسجد النبوي الشريف الذي شهد مقر اعظم قيادة عرفتها الانسانية واكملها وأنبلها وأشرفها ومنها اقام دولته المباركة التي ما لبثت ان اشرقت بنورها على الارض كلها وتقف عند مرقد الرسول العظيم (ص) وستشعر انك امام قائدك ونبيك الذي تعرض عليه اعمال الامة كلها اسبوعيا مرة او مرتين (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) وحينئذ يستحضر المسلم كل سجل اعماله ليصلح السيئ منها ويطلب القبول والزيادة من الصالح ببركة أحب الخلق الى الله تبارك وتعالى وقريباً من المرقد الشريف بيت علي وفاطمة (ع) الذي اذن رسول الله (ص) ببقاء بابه مشرعة الى المسجد وسد كل الابواب الا هي وكان (ص) يستأذن للدخول عليها وتتذكر ما جرى على هذا البيت وأهله بعد رحيله (ص) ثم تزور الائمة الهداة المظلومين في البقيع وقبور عظماء الاسلام وابنائه البررة الذين اختارهم الله تعالى من دون الأجيال ليكونوا الطليعة الرسالية التي تحملت أعباء تأسيس بناء الإسلام الشامخ وتتجول في معالمه مدينة الرسول (ص) فهذا مسجد قبا الذي صلى فيه النبي (ص) أول وصوله الى المدينة بعد هجرته من مكة وهذا مسجد القبلتين الذي كان يصلي رسول الله (ص) فيه الى القبلة الأولى بيت المقدس فنزل عليه الروح الأمين بأمر الله تبارك وتعالى بالتحول الىالكعبة فاستدار وأتم صلاته وهذه بقية المساجد وهذه آثار الخندق الذي حفره النبي (ص) واصحابه حول المدينة لحمايتها من هجمة قريش الظالمة وهناك في أحد رقد سبعون شهيداً يتقدمهم حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير ونظرائهم من خيرة ابناء الإسلام فقدهم النبي (ص) في معركة أحد نتيجة عصيان بعض اصحابه وميلهم الى الدنيا فحولوا النصر الى خسارة . وهذا هو جبل أحد الذي استدار حوله خالد بن الوليد بمن معه من المشركين لينقض على جيش النبي (ص) فخاطبه بعد مدة وكان عائداً الى المدينة (( وأحد : جبل يحبنا ونحبه)) حيث استودع في ظله تلك الثلة الطاهرة .

 

اكتب هذه الكلمات ولا أصدق أن سنة كاملة مرت على تلك الأيام وكيف طابت نفوس المؤمنين بمغادرة تلك المشاهد المشرفة وكم اهلوا من الدموع وقذفوا الزفرات والآهات من أعماقهم وهم يلقون نظرات الوداع عليه وها نحن نتجرع مرارة الفراق ويعتصر قلوبنا الألم حتى يأذن الله تبارك وتعالى لنا بالعودة اليها أو يقبضها إليه راضين مرضيين إنه  ولي كل نعمة وصاحب كل حسنة وهو أرحم الراحمين .