محور الحوار مع الآخر

| |عدد القراءات : 4349
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

محور الحوار مع الآخر

  بسم الله الرحمن الرحيم

الحوار رابطة انسانية بين طرفين اياً كانا.. فهو مبدأ للتواصل والتفاهم وازالة اللبس او الخلاف، كما انه بساط مشترك يطرح من خلاله الانسان آراءه وافكاره للآخر مثلما يتسلم من الآخر، فهو عملية اخذ وعطاء وتبادل فكري متفاعل بين طرفين او اكثر.. ما يعمق العلاقة بينهما ويؤسس لأرضية مشتركة يمكن من خلالها تنمية العلاقات السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الحضارية بشكل عام.

وقد كان عبر التاريخ المؤمن بالحوار والانفتاح على الآخر هو الواثق بما لديه من ذخيرة فكرية وانسانية وقدرة على المواصلة والاقناع بالحجج والتبادل المعرفي كما ان له الثقة بالآخر واحترام ذاته ورأيه مثلما تشع نفسه بالمحبة والاعتراف بحق الاخر بالحياة ويتصف بروح التسامح والانطلاق الى ما هو اكثر نفعاً لكل الاطراف بعيداً عن حب الذات والمصالح الخاصة على حساب الآخر.

من هنا كان الدين الاسلامي الحنيف هو دين المحبة والتسامح والانفتاح على الآخر عبر كل الطرق الانسانية الممكنة فهو يحترم حرية المعتقد (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) كما يحترم خصوصيات الناس وذواتهم (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ).. بل حتى في موضوع الاختلاف في المعتقد حد الاشراك بالله فانه يفتح باب السلم والامان له حتى يستمع الى حقيقتك ورأيك واستمع منه (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) اما قضية الحوار مع الآخر او حوار الاديان والحضارات فان الآية الكريمة تشير اليه (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) بهذا الانصاف انفتح الاسلام على الآخر.

كما ان الحوار او سياسة الاعتراف بالآخر ليس فقط بين المسلم وغير المسلم وانما هو انصاف الناس بشكل عام من ذاتك ومن مشروعك الانساني او السياسي او الثقافي فطالما وفر الحوار واعطاء الفرصة للآخر كثيراً من التضحيات والخسائر المادية والمعنوية كما وفر كثيراً من الوقت الذي يضيع في لغة الاحتراب والتنافر.

ولعل واقع المرحلة الجديدة التي يمر بها العراق كمنعطف تاريخي ومخاض سياسي كبير واقع اكثر ما يحتاج اليه هو الحوار والاعتراف بالآخر والاستماع الى رأيه ومشروعه وتقريب وجهات النظر حد الوصول الى نقطة توازن بين الآراء بحيث تزداد القواسم المشتركة بين المتحاورين حتى وان ادى ذلك الى التنازل عن بعض المصالح من اجل نقطة التوازن التي تخدم الصالح العراقي المشترك.. ففي واقع متداخل ومتغير ومنفتح على مراحل جديدة يجب ان يكون الحوار سيد الموقف وذلك لاختلاف وجهات النظر او التحول السياسي الكبير والتغيير الشامل لكثير من الثوابت التي ترسخت او عمل على ترسيخها نظام سياسي شمولي منذ عقود من الزمن ما يستدعي تغيير كثير من القناعات والرؤى او توجيهها بالاتجاه الوطني الجديد.

لذا فقد نزلت الى طاولة الحوار اغلب الكتل السياسية التي تثق بمشروعها وتعترف بمشروع الآخر ومشروعيته ولم يعترف بهذا المبدأ - مبدأ الحوار والانفتاح على الآخر-  الا الذي في قلبه مرض سياسي او الذي لديه اجندة تدمير وقتل للشعب العراقي فلم نسمع من ارهابي اراد الحوار او طرح مشروعه السياسي لانه لو كان يملك هذه الذخيرة الانسانية والسياسية التي تؤهله للحوار والاعتراف بالآخر لما اقدم على افعاله الوحشية ولاسيما حين يكون الآخر بالنسبة له شعباً باكمله بحضارته وتاريخه وانسانيته.

وقد كان لنا في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اسوة حسنة في لغة الحوار والانفتاح والاعتراف بالآخر سواء في تعامله مع الاديان الاخرى او مع المشركين او مع الناس بشكل عام بمبدأ (التودد الى الناس نصف العقل) كما جاء في الحديث الشريف كذلك مبدأ الحوار والمحاججة الذي اتبعه الائمة المعصومون ومنها محاججة وحوار الامام علي (عليه السلام) مع الخوارج حيث اقتنع كثير منهم بالعدول عن رايهم والعودة الى جادة الصواب فقد كان مبدأ الامام المحاججة وان يجعل القتال آخر الحلول.. وهكذا فعل في صفين والجمل.

كما ان مبدأ الحوار يعتمد على الآخر نفسه، موقفه و ثقافته وغيرها من الصفات وكذلك صفته الرئيسة التي جعلت منه (آخر) أي طرفاً آخر من معادلة الحوار فهناك آخر من حضارة ودين آخر وبذلك سيكون الحوار حوار حضارات وحوار أديان وهذا ما دعا اليه القران الكريم في الآية الكريمة (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) وهذا الحوار له اهميته و لاسيما في هذا العصر من زمن العولمة وبالذات في هذه المرحلة التي يمر بها العراق بعد انفتاحه على العالم بعد ان كان مغلقاً منعزلاً لسنين طويلة.. وهذا الحوار يتطلب وعياً وثقافة مؤثرة بالآخر وموصلة له الصورة المشرقة الحقيقية عن الدين الاسلامي او عن الحضارة الاسلامية وفي هذا الصدد يذكر سماحة الشيخ فيما يتوجب على المفكرين والمحاورين في هذا المجال الحضاري حيث يحدد ثلاث نقاط مهمة هي :

(1- انفتاح الحضارتين على بعضهما والتعرف على حقيقة كل منهما من حيث المقومات والاهداف والآليات..).

أي ان تتوفر النية الصادقة للانفتاح على الآخر ومد الجسور الانسانية معه لكي تنبني علاقة حوارية ممهدة لسماع الرأي والرأي الآخر، ثم اخذ الفكرة الكاملة او المهمة عن الحضارة المراد الانفتاح عليها والتحاور معها ومعرفة نقاط الالتقاء أو الاختلاف معها من اجل خلق منطقة توازن حضارية مشتركة بينها.

(2- عرض النماذج الكاملة من رموزنا ودراسة سيرهم وتحليلها وبيان نقاط العظمة فيها مثل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والائمة (عليهم السلام)..).

وهذه تغني مادة الحوار والتركيز على النقاط التاريخية المهمة وهي الشخصيات التاريخية الاسلامية لكي نوصل الى الآخر ليطلع على تفاصيل سيرها ودورها في الاسلام والتاريخ بشكل عام لان هذه الشخصيات هي رموز للشخصية المسلمة وقدوة حسنة لها وهي محصلة شخصانية للمجتمع الاسلامي لان الاقتداء يشير الى شخصية المقتدي من خلال شخصية المقتدى به وبهذا ننجح في توصيل ذواتنا العالية الى الآخر من خلال رموزنا الدينية والفكرية والادبية كمحصلة ثقافية وحضارية شاملة.

(3 – ان نجيد لغة الخطاب والحوار مع الآخر ونفهم المداخل المناسبة لعقله وقلبه..) فبعد ان تتوفر النية الصادقة للحوار والانفتاح، ثم المادة التي نريد ان نوصلها، يجب ان نجيد الطريقة التي نوصل بها هذه المعلومة والمثاقفة والمداخلة الحضارية، فالحوار فن بحد ذاته وثقافة وقدرة على التوصيل والاقناع وكسب الآخر او سحبه الى منطقة المحاور الاولى وجعله ينسجم معها ويتعايش مع تفاصيلها لكي ينفتح هو الآخر فتتداخل المنطقتان المتحاورتان وتزداد المساحة المشتركة والقواسم المشتركة الفاعلة التي تخلق نقاط الافادة المتبادلة بين الطرفين.. وفي هذا المجال يضرب الشيخ مثلاً (لا يناسب ان اشرح للاوربي الغارق بالماديات سبب ثورة الحسين على يزيد بانه كان يشرب الخمر وينكح المحارم.. لكن لو عرضت يزيد كقاتل للنفس المحترمة بغير حق ومصادر للحريات ويسرق الاموال العامة، ويثري بغير حق ويتسلط بالقهر على رقاب الامة من دون اجراء انتخابات حرة سيكون المبرر للثورة عليه واضحاً..) وبهذا نوصل الامام الحسين (عليه السلام) الى الاخر على انه ثائر ضد الظلم ومن اجل العدالة الانسانية ومن اجل تعاليم السماء.. وهكذا تصل قضايانا التاريخية او المعاصرة باسلوب يتناسب مع الآخر ومع ثقافته ولغة عصره ومرجعياته الحضارية لكي نقف معه على ارضية انسانية صلبة مشتركة وكذلك نستلم منه ما ينفعنا في المعلومة الحضارية والتبادل الحضاري الذي يخدم كلا المصلحتين ففي رسالة سماحته الى مسؤول الادارة المدنية للعراق بول بريمر في 11 / 4/ 2004 يشير الى اهمية هذا التبادل الحضاري بقوله (اننا نطمح ان تنشأ بين شعبينا علاقة احترام متبادل بعد زوال الاحتلال لاننا نعتقد ان الشعب الامريكي عنده الكثير مما نريد ان نستفيد منه كما ان عند شعبنا العريق في الحضارة الكثير ما يمكن انتفاع الشعب الامريكي منه في ظل حوار ودي بناء، لكن كثرة التصرفات الخاطئة تزيد من الكراهية والعداوة وان كثيراً ممن رحبوا بقدوم القوات الامريكية قبل عام تحولوا الى اعداء..) اذن حتى الامريكان المحتلين يمكن ان نفتح معهم حواراً حضارياً اذا ما عدّونا طرفاً مكافئاً حضاريا لهم بعيداً عن لغة القوة والاعتداء والتدخل في الشؤون الداخلية للعراق.

ويتجلى مبدأ الحوار والانفتاح على الآخر اكثر فاعلية برسالة سماحته الى منظمة المؤتمر العالمي للاديان من اجل السلام في مؤتمرها الثالث في عمان حيث يذكرهم باهمية (تفعيل دورها في تاسيس هذه المبادئ العظيمة ونشر ثقافة التسامح والمحبة والسلام والتآلف واحترام الآخرين لا ثقافة التطرف والتعصب والاحتراب).

اما على صعيد الحوار والانفتاح على الآخر في الراي السياسي او المذهب او القومية وهو المشترك في العملية السياسية وفي واقع العراق الجديد المتشابك والمتداخل فالانفتاح على هذا المشترك بالهم العراقي ضرورة ملحة من اجل ايجاد نقاط توازن وطنية يمكن الرجوع اليها في كل اختلاف او يمكن الانطلاق منها لبناء العراق ونهوضه و لا سيما ان المرحلة الجديدة طرحت العديد من الرؤى التي تمثل الاتجاهات السياسية المختلفة كما ان التثقيف الذي جاء مع الاحتلال في التفرقة بين المذاهب والقوميات يتطلب كثيراً من الحوار والانفتاح للرد على هذه الهجمة الشرسة التي تريد ان تؤجج نار الفتنة والتفرقة بين العراقيين.. فسماحة الشيخ يقدم مشروعاً للمصالحة الوطنية بين العراقيين في رسالته الى العراقيين لمناسبة حلول شهر رمضان مستهدياً باخلاق امير المؤمنين (عليه السلام) في انصاف الآخر.. (فلا تفرقنا اتجاهات دينية او نوازع عرقية، فهذا امير المؤمنين (عليه السلام) يوصي مالك الاشتر عندما ولاه مصر ويعهد اليه بكتاب طويل ومما جاء فيه : واستشعر الرحمة في قلبك للرعية فانهم صنفان اما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق) وفي الحقيقة لقد كانت دعوة مرجعياتنا الدينية سباقة للمصالحة الوطنية وترك الامور للقضاء العراقي والابتعاد عن لغة الانتقام والعنف.

وفي المؤتمر العام الاول لرابطة بنات المصطفى يتكلم سماحته عن مبادئ الثقافة ومظاهرها، ويوضح معنى الشفافية المراد في القانون الاسلامي لانها (من اهم ميزات القانون الاسلامي وقادته العظماء) ويوجز هذا المعنى في عشر نقاط تصب كلها في مبدأ الحوار والانفتاح على الآخر وانصافه سنمر عليها بايجاز لاهميتها في حلقتنا هذه :

1- انصاف الآخرين من نفسك.. فاذا كان رأي الآخر صحيحاً فكن شجاعاً وقل له ذلك و تنازل عن رايك واعترف بخطئك.

2- المشاورة وعدم الاستبداد بالرأي.

3- اعتماد مبدأ الحوار وعدم فرض الرأي على الآخر مهما كنت مقتنعاً به.

4- التواضع.

5- سعة الصدر.. ولا بد ان تتناسب سعة الصدر بعظم المسؤولية (سعة الصدر آلة الرياسة).

6 – الحب للناس جميعاً فليس في قلب المؤمن حقد ولا غل ولا كراهية.

7 – حسن الخلق مع الناس والتآلف معهم.

8 – المحافظة على حدود الصداقة التي حدها الائمة المعصومون.

9 – حمل الآخرين على الصحة، والتماس العذر لهم.

10 – المواساة بل الايثار (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ).

وارى ان حصر الشفافية في هذه المعاني او فتحها على هذه المعاني يعطي لها هالة من الايمان وبعداً من الانسانية والوطنية بما يجعلها محوراً للتعامل مع الآخر وشروطاً للانفتاح عليه.. انها مبادئ تضع الآخر في دائرة الاعتراف بالحوار واهميته والانجذاب الى المحاور والبحث عن مساحات مشتركة تضمن المسار الصحيح للعملية السياسية وتضع من لا يدخل ضمن هذه الدائرة دائرة المبادئ والشفافية الانسانية والوطنية تضعه في دائرة الاستفهام والاتهام ومحاولته عرقلة المسيرة السياسية والاساءة الى مصلحة الشعب العراقي لانه يضع نفسه خارج دائرة التفاهم والحوار الوطني والقضية العراقية وهو بالتالي في الخندق المعادي للشعب العراقي.

وبهذا التحديد لموضوع الشفافية او التوسيع لها تبرئ المرجعية الرشيدة ذمتها من مشروع المصالحة الوطنية وتحكم الشرع والقضاء والقانون في القضية العراقية وتعطي لكل عراقي حقه من المواطنة وواجبه تجاه اخيه العراقي من أي شريحة كان.

كما يُذكّر سماحته المسؤول العراقي بسعة الصدر التي ذكرها الحديث الشريف فانه يناشد الجهات الاخرى غير العراقية المعنية بالقضية العراقية ان تساهم في إرساء قواعد التسامح والمصالحة الوطنية بين العراقيين ففي لقائه مع السيد اشرف قاضي رئيس بعثة الامم المتحدة في العراق بتاريخ 19/4/ 2006 يذكره باهمية دور الامم المتحدة في مساعدة العراقيين على اعادة بنائهم السياسي والاجتماعي ولم شملهم من خلال التثقيف لهذه المبادئ بقوله (..والذي نامله ان لا تطول الفترة حتى يقتنع الفرقاء العراقيون بضرورة الحوار ونبذ العنف والاستعمال غير الشرعي للسلاح لان كل يوم اضافي في عمر الفتنة يعني المزيد من الضحايا والتخلف والحراب وتعطيل الحياة..) ثم يبصره بان تمتد المنظمة الدولية من واجباتها الروتينية في المساعدات الانسانية المعروفة الى التثقيف على ثقافة الحوار والتسامح لما لهذه المنظمة من مكانة في نفوس العراقيين يمكن استغلالها بلم شمل العراقيين بها من خلال المنظمة نفسها (فاني اعتقد ان دوركم ليس في تقديم المساعدات الانسانية ونحوها لان دوركم اهم من هذا.. انه عمل فكري وثقافي باقناع الفرقاء بثقافة الحوار والتسامح والمصالح المشتركة وتوزيع الاستحقاقات و لامعنى لحمل السلاح مع امكانية تحقيق المطالب بالحوار..)

ان الحوار شجاعة واقدام وقد يتحقق من خلاله ما لم يتحقق باسلوب العنف والقتال.. لكن هذه الشجاعة لها اشتراطاتها ونواياها واساليبها التي تجعل من الحوار والانفتاح على الآخر سلاحاً عقلياً وجسراً حضارياً وانسانياً او جسراً وطنياً تبنيه الرؤى المتعددة من اجل ايصال رسالة الى الآخر على عمق الانتماء الى الحضارة والدين والى الوطن والانسانية بشكل عام وكذلك ايصال رسالة الى العالم اجمع بان الانسان العراقي ذو لمسات ثقافية ومجسات حضارية يمكنه من خلالها تحسس الآخر والتوغل الى اعماقه وتحريك هواجسه باتجاه خلق رؤى مشتركة وارضية انسانية او وطنية صلبة للحوار والانفتاح.