محور النفس الأمارة بالسوء

| |عدد القراءات : 5822
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

محور النفس الأمارة بالسوء 

  بسم الله الرحمن الرحيم

يقول الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام ): (من كرمت عليه نفسه هانت عليه رغباته) ويقول اكثم بن صيفي (آفة الرأي الهوى) ويقول البوصيري :

 

[poet font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="1" border="none,4,gray" type=2 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""] والنفس كالطفل ان تتركه شب على = حب الرضاع وان تفطمه ينفطم [/poet]

 

 وكل هذه الحكم والآراء الفلسفية تدخل ضمن جهاد النفس وهو الجهاد الاكبر الذي اشار اليه الحديث الشريف (اعدى اعدائك نفسك التي بين جنبيك) وهذا ما يجعل الانسان المؤمن في صراع دائم مع نفسه وكبح جماح اهوائها ورغباتها وميولها التي توسوس في اعماقه تلك الوساوس التي خص لها فيما خص في قرآنه المجيد سورة كاملة هي سورة الناس لدرء تلك الوساوس بالعياذ بالله منها على انها شر مستطير تكنه النفس البشرية.. من هنا كانت هذه السورة المباركة تحمل معنى التوازي بين هذا الاعتياذ بالله وبين هذه النفس وشرورها فالآيات الثلاث الاولى من سورة الناس هي الاستعاذة بالله سبحانه الذي هو رب الناس وملك الناس واله الناس هذا التاكيد النصي يقابل التاكيد النصي الآخر الذي يخص شر النفس الانسانية من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس فاذا كانت كل هذه الوساوس والشرور المستطيرة هناك ما يقابلها وما هو اعظم منها وهي الوسيلة العظيمة للخلاص منها وهي الاستعاذة بالله الذي هو رب الناس وملكهم وإلههم فهو صاحب الهيمنة الربانية والملكية والالهية على هذه النفوس - الناس - من هنا يتضح معنى التطمين في السورة المباركة والرعاية الالهية للبشر من شرورهم وهي اعظم الشرور وان هذه الرحمة وهذا النصر المبارك متاح للانسان بالاقتراب من الله والاحتماء به من السيل العارم القادم اليه من اعماقه سيل النفس الامارة بالسوء.

ونذكر البوصيري ايضاً:

 

وان امّارتي بالسوء ما اتعظتْ

من جهلها بنذير الشيب والهرم

 

ولكن ماهو مفتاح هذه الرحمة الذي ندخل بواسطته الى فضاء التطمين والانتصار انه العياذ بالله بالتاكيد كما توضح السورة المباركة ولكن لهذا العياذ شروطه ومستلزماته النفسية والعبادية لانه يضع الانسان في النقطة الوسطى بين المساحة الالهية والمساحة النفسية وتجاذبات النفس البشرية.. بين منطقة الرحمن ومنطقة الشيطان ذلك العدو الازلي الواقف بالمرصاد للانسان حتى في اعلى مراتبه العبادية (لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) لولا رحمة الله الواسعة.. فالنفس امارة بالسوء الا ما رحم ربي وهذا هو مغزى صراع الانسان الداخلي مع نفسه لانه يحمل في اعماقه نفساً امارة ميالة الى الهوى ويحفزها على ميلها هذا الشيطان ذو الاساليب الكثيرة والكبيرة التي يضعها امام الانسان الضعيف الذي يحمل عدوه في داخله فليس سوى المدد الالهي واللطف الرحماني للاستعانة على هذا العدو الجاثم على صدر الانسان وعلى مشروعه الحياتي بشكل عام.. انه امتحان الانسان في الحياة الدنيا امام هذين الخيارين الازليين الرحمن والشيطان وقد حذر الله الانسان وبصره في قرآنه المجيد (فَأَمَّا مَنْ طَغَى ، وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) اذن فالخطاب واضح والخيار واضح والمثوبة والعقوبة واضحتان ولكن ثمة التضليل والتشويش على هذا الخطاب وبالتالي الغشاوة على البصر والبصيرة ازاء هذه الرحمة الالهية بالتبصير والتحذير.

وهنا نريد ان نناقش مع سماحة الشيخ مقولة الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) في هذا الصدد بقوله (قصم ظهري رجلان عالم متهتك وجاهل متنسك) فالعالم هنا لم ينفعه علمه ولم ينفع به غيره وذلك لتهتكه والتهتك هو الخروج عن تعاليم الله والشريعة اما الجاهل المتنسك فهذا المدعي قد اخذ مكان غيره ودخل فضاء يضر به هذا المكان او الفضاء – التنسك - او العبادة والتعاليم الدينية ويضر به غيره لان مسك زمام قيادة هو غير مؤهل ولا قادر على ادارته.. فلنستأنس ونستفد من مناقشة سماحة الشيخ لهذه المقولة ضمن المحور الذي يؤكد عليه كثيراً وهو محور النفس الامارة بالسوء يقول الشيخ (ان الامام (عليه السلام) حينما يقول (رجلان) يقصد تيارين في المجتمع يمثلهما هذان العنوانان وهما الخضوع للنفس الامارة بالسوء وعدم تربيتها التربية الصالحة والانسياق وراء شهواتها والثاني هو الجهل والسذاجة والتخلف فتنعدم عند كليهما القدرة على اتخاذ الموقف الصحيح لانهما يفتقدان البصيرة التي تدلهما على الهدى..) وبهذا يستوي العالم والجاهل لان النفس الامارة بالسوء قد ساوتهما في مساحتها الشيطانية البعيدة عن المساحة الرحمانية.

فالشيخ يستخلص من مقولة الامام (عليه السلام) امرين يوجزان هذه القضية وهما اتباع الهوى وقلة الوعي اللذين يمثلهما هذان الرجلان وهما عدوان يسكنان النفس البشرية ويساندان بعضهما البعض على تكريس السوء وتزيينه للنفس قبل الشيطان ليضعها او يؤمرها اميرة على السوء فتصبح - الامارة بالسوء - كما يوضح الآي الكريم.

ويبدو لي ان الاديان السماوية بنيت على هذا التجاذب النفسي بين المنطقتين او المساحتين داخل النفس البشرية فصار مقياس الايمان هو الاقتراب او الابتعاد عن الله فمنذ بداية الخلق يوسوس الشيطان لآدم (عليه السلام) بارتكاب المعصية ومخالفة امر الله تعالى، والخطيئة الاولى التي ارتكبها الانسان على الارض هي قتل قابيل لاخيه هابيل (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) اذن فهي النفس التي سولت وامرت بهذه المعصية او الخطيئة.. هذه النفس التي يقابلها الشيطان الذي امر آدم او زين له اكل التفاحة.. فنزل الى الارض ونزل الشيطان معه قريناً لنفسه. فكانت مهمة الرسالات السماوية هي دفع الشيطان عن الانسان ومقاومة نفسه الامارة بالسوء , ونصرة الانسان في صراعه المستمر بين هاتين المساحتين داخل نفسه.

من هنا يؤكد سماحة الشيخ على (اننا مطالبون بمحاربة الشياطين داخل انفسنا الامارة بالسوء قبل كل شيء.. وان نصرنا الحقيقي حينما نستطيع سحق اهوائنا وانانياتنا ونزيل الغل والحقد والكراهية وحب الدنيا بكل اشكالها..).

اذن فكلام الشيخ يوصلنا الى ان حب الآخرين وزرع المحبة في النفوس والزهد بالدنيا وعدم التكالب عليها هو ثمرة من ثمرات الانتصار على النفس الامارة بالسوء بل يذهب سماحته الى ابعد من هذا حين يذكر (ان منافذ الفتنة كثيرة وابوابها الى النفس الامارة بالسوء والميالة الى اللعب واللهو كثيرة وقد ينجح الانسان في اختبار باتجاه ما لكنه يفشل في الاتجاه الآخر..) وهذا يعني ان امام الانسان امتحانات واختبارات عدة ولكن اهمها هو نجاحه امام سلطان النفس وهذا مغزى ما ورد في حديث الامام السجاد (عليه السلام) : (اذا رايت الرجل لا ينخدع بالدنيا فرويدك رويدك لا تحكم عليه بالصلاح فلعله يفشل في الامتحان امام النساء فاذا نجح فلا تغتر به فلعله يسقط في فتنة حب الجاه وهكذا..) اذن فهذه كلها ابواب داخل النفس البشرية وحواجز قد يستطيع الانسان ان يتجاوزها ولكن الحاجز الرئيس الذي يعد انتصاره عليه انتصاراً عليها جميعاً هو حاجز النفس.

وفي موضوع التحرر من الاستبداد والطغيان الذي كان قائماً على الشعب من قبل النظام المباد يذكر الشيخ في خطابه المعنون (هل لامريكا الفضل في التحرير) ان هناك تحريراً اهم من هذا التحرير وهو التحرر من ظلم النفس واستبدادها بقوله (ان الشعب وان تحرر من شكل من اشكال الظلم الا انه بقي مهدداً بالظلم الاكبر وهو ظلم النفس الامارة بالسوء التي تدعو الى معصية الله سبحانه وتعالى وتجر صاحبها الى المهالك..) فاذا كان هناك استبداد واقع على الشعب فان استبداد النفس وطغيانها وعصيانها الله سبحانه هو اخطر من ذلك الاستبداد وظلمها اخطر من ذلك الظلم , وحتى التحرر من الاحتلال كقوة ظالمة اخرى تسلطت على الشعب حيث يسلط الله على الظالم المستبد السابق من هم اظلم منه ألا وهو المحتل فهذا المحتل علينا ان نواجهه بالتحرر اولاً من انفسنا من اهوائها وشياطينها لذلك يركز الشيخ على ان (فاعملوا على تحرير انفسكم من انفسكم فانها مرهونة باعمالكم... وحطموا الاغلال النفسية والفكرية والاجتماعية التي تعيق تكاملكم..).

ولا يفوت سماحة الشيخ ان يؤكد على شخصية القائد المصلح فان السمة الاولى المطلوبة منه ان يصلح نفسه ويهذبها ويؤهلها شرعاً وفكراً وعملاً للقيادة وهذا ما يسمى بـ (العدالة) بل حتى الانبياء كانوا يستجيرون بالله من ظلم النفس كما جاء على لسان يوسف (عليه السلام): (وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ) فهذا نداء الانسان المؤمن الى ربه سبحانه ليخلصه من اهواء نفسه وان كان نبياً. وهكذا العالم والفقيه القائد وقد ضرب سماحة الشيخ مثلاً قريباً على تهذيب النفس بشخصية الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) ونجاحه في مشروعه الاصلاحي ويعده الشيخ اسس نجاح كل قائد يريد ان يتصدى لاصلاح الامة فيضع اول اسباب نجاحه (قدس سره) في القيادة والاصلاح هو (تهذيبه لنفسه وسيطرته على غرائزها، وانتصاره على ذاته بحيث اصبح هو يملك زمام نفسه، وليست هي التي تملكه وكان معروفاً بنكران الذات، وطالما كان يكرر انه يدوس على ذاته بقدميه..) فالشيخ يجعل من الشهيد الصدر الثاني انموذجاً وقدوة حسنة له وللمؤمنين فضلاً عن الاقتداء برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والائمة المعصومين (عليهم السلام).. ولعل هذا ما اشار اليه الشهيد الصدر الاول محمد باقر الصدر بقوله اننا اوصلنا المؤمنين الى منتصف الطريق وكان يقصد كما فسره الصدر الثاني بانه العلم والمعرفة والتفقه بالدين.. اما باقي الطريق فهو تهذيب النفس – والدوس عليها - على طريقة الصدر الثاني وهو المشروع الذي عمل عليه في العقد التسعيني ونجح في كبح جماح النفوس المندفعة نحو اهوائها فقل معدل الجريمة في زمنه وازداد معدل الاستعداد والجهاد والعودة لله سبحانه وتعالى وهذا هو نصف المشروع الاصعب وهو النصف المختص بجهاد النفس وهو الجهاد الاكبر ,ولعل في مقولة الامام علي (عليه السلام): يا بني احيي قلبك بالموعظة, وامته بالزهادة...

اختصاراً لهذا الجهاد او الصراع مع النفس...