تذكير للمشغولين بالعمل الرسالي

| |عدد القراءات : 3011
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

 

تذكير للمشغولين بالعمل الرسالي[1]

 

عرّفنا المؤمن الرسالي بأنه من لا يتوقف عند حدود إصلاح نفسه وإرادة الخير له وان كان في هذا كفاية لمن يروم النجاة، ولكنه بما يحمل من حب ورحمة بالاخرين يتحرك بعمل دؤوب لإصلاح مجتمعه وتحقيق السعادة لهم ، وهذا هو ديدن الرسل والعلماء الصادقين مع الله تبارك وتعالى {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً } ( الأحزاب /39 ) ، {لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً } (الجن28) ،

 

وهذه النية الصادقة والعمل المخلص لهداية الاخرين وإصلاحهم هي من اعظم القربات الى الله تبارك وتعالى وقد وردت احاديث كثيرة في تفضيل العالم العامل  على العابد الزاهد المنزوي والمتكفيء على ذاته . فالعمل الرسالي يمثل مرحلة متقدمة  على مرحلة إصلاح النفس وتهذيبها .

 

وهنا أريد أن اذكَر العاملين الرساليين بأنهم أحيانا ينهمكون في العمل الاجتماعي بكل حماس وهمّة ويغفلون في خضّم ذلك عن أمور يفترض فيهم أنهم حققوها في المرحلة السابقة أي مرحلة إصلاح النفس وتهذيبها ، وهذا نقصٌ بالتأكيد،

 

ومادمتم شباباً في مقتبل العمر فأنني اذكر لكم مثالاً لتلك الغفلة ، إذ لا يخفى عليكم اهتمام الشارع المقدس ببر الوالدين وحرمة إيذائهما حتى على مستوى قول ( أُفٍ ) لهما ففي الحديث عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) انه قال ( لو يعلم الله شيئاً أدنى من أفٍ لنهى عنه ، وهو من أدنى العقوق ، ومن العقوق أن ينظر الرجل إلى والديه فيحدَ النظر إليهما )  وفي حديث أخر عن أمير المؤمنين (عليه السلام ) قال ( قال رسول الله صلى الله عليه واله : من احزن والديه فقد عقّهما ) وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال ( قال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) : ثلاثة من الذنوب تعجّل عقوبتها ولا تؤخَر إلى الآخرة : عقوق الوالدين  والبغي على الناس وكفر الإحسان ) وعن النبي ( صلى الله عليه واله) انه قال ( من اسخط والديه فقد اسخط الله ، ومن أغضبهم فقد اغضب الله ، وإن أمراك أن تخرج من اهلك ومالك فأخرج ولا تحزنهما ) وعن الإمام الصادق (عليه السلام ) (عقوق الوالدين من الكبائر لان الله عز وجل جعل العاقَ عصياً شقياً )[2] وعنه (عليه السلام) ( من نظر إلى والديه نظر ماقت ـ وهما ظالمان له ـ لم تقبل له صلاة )[3].

 

وقد عايشت الكثيرين ممن عملوا بحماس في الحركة الإسلامية منذ أكثر من ثلاثين عاماً فوجدت منهم تفريطاً في هذه الخصلة الكريمة (( بر الوالدين)) التي قرنها الله تبارك وتعالى بتوحيده وعبادته في قوله عزَ من قال ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) (الإسراء/ 23) طبعاً نحن لا نتحدث عن مستوى فيما لو أمر الوالدان بمعصية الله تعالى كشرب الخمر أو نزع الحجاب ولا فيما إذا نهيا عن طاعة كالصلاة المفروضة وصوم رمضان فان حقوقهما تقف عند هذه الحدود كما ورد ( لا طاعة لمخلوق بمعصية الخالق ) .

 

ولكننا نتحدث عما هو دون ذلك إذ إن الإباء قد يقدّمون نصائح وتوجيهات إلى أبنائهم انطلاقاً من طول تجربتهم بالحياة وخبرتهم بأحداثها والوضع الاجتماعي العام والولد لا يقتنع بذلك فيخالفهما ويعاندهما فيتورط في هذه الكبيرة وهي إيذاء الوالدين، وهذا مضرٌ بعلاقته مع ربّه وبعاقبته.

 

 وإذا أردت أن أتحدث عن مثال في تلك الفترة فهو أن الظرف  الذي عشناه كان قاسياً من جهة بطش جلاوزة صدام وامثاله وكان وكما عبّر هو نفسه ـ يقتل عشرة ألاف دون أن يرفَ له جفن ـ  وكان الشباب مندفعين بأعمال يراها الآباء لا تستحق الاصطدام مع ذلك النظام الجائر وإنهم يمكن أن يحافظوا على دينهم وحياتهم من دون إعلان لكن بعض الشباب كان يعارض أباه وينتقده على هذا الخنوع من وجهة نظره الحماسية بينما ينطلق الأب من خبرته بقسوة وبطش هؤلاء الطواغيت منذ أن حكموا عام 1963 ثم عادوا إلى الحكم عام 1968 فلم يتورعوا عن التذويب بأحواض التيزاب والقتل بثرامة اللحم والدفن أحياء واغتصاب الحرائر وجلد الاطفال الرضّع بالأرض حتى يتناثر دماغهم وعلى أي حال فقد حصل الذي حصل ولله عاقبة الأمور.

 

 وأتذكر أنني سألت السيد الشهيد الصدر الثاني (قده) وهذا مثبّت في كتاب قناديل العارفين ـ عن سبب عدم ممارسته لدورٍ ميداني في حركة السيد الشهيد الصدر الأول (قده) وانعزاله في الأيام الأخيرة فقال لسببين،أحدهما إن أبي (وهو العلامة السيد محمد صادق الصدر الذي صلى على جثمان السيد الشهيد الأول ) كان يمنعني من ذلك وكانت له هيبة وطاعة عليّ وعلى السيد الشهيد الأول نفسه ، فانظر إلى عاقبته حيث أطاع أباه كيف قيّض الله تباك وتعالى له الدور الكبير في بعث روح الإسلام والعودة إلى الله تبارك وتعالى حينما حانت له الفرصة بعد انتفاضة العام 1991 .

 

كان سعد بن معاذ من سادة الأنصار الذين بايعوا رسول الله (صلى الله عليه واله) في العقبة قبل الهجرة وعاهدوه على النصرة والفداء وطلبوا منه الهجرة اليه وكان بيته مقراً للحركة الاسلامية ودعوة الناس إلى الاسلام  في يثرب قبل الهجرة وخاض مع رسول الله صلى الله عليه واله معارك الاسلام الكبرى بدراً و أحداً  والاحزاب وأصيب بسهم في معركة الخندق

 

وبقي جريحاً الى ان توفي وشيّعه رسول الله (صلى الله عليه واله) واصحابه وحدّثهم رسول (صلى الله عليه واله) ان ألاف الملائكة كانوا يشيعونه حتى لم يبقَ موطئ قدم خلف جنازته الا وفيه احد الملائكة ونزل معه رسول الله (صلى الله عليه واله) الى قبره ووسّده في ملحودته فقالت أمه: هنيئاً لك يا سعد الجنة ، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه واله) : مه يا ام سعد فلعله كان سيء الخلق مع اهله فيعذّب في قبره.

 

واقول لكم ان كل الذين لم ينتبهوا الى اصلاح انفسهم وتطهير قلوبهم وتهذيب اخلاقهم فان عملهم منقوص وبائس مهما تصدّروا الواجهات الاسلامية وحملوا من القاب دينية او اجتماعية ، وربما أدى بهم خبثهم الباطني الى الهلاك بعد العمر الطويل ، وكل الذين لم يلتفتوا الى هذه التربية فأنهم ذاقوا بدرجة من الدرجات الواناً من العذاب عاجلاً ام اجلاً وفضحوا .

 

وانت ترى اليوم الكثيرين ممن كانوا في عمركم قبل ثلاثين او اربعين عاماً ويزعمون أنهم انخرطوا في العمل الاسلامي منذ ذلك الزمان تراهم اليوم قد تخلّوا عما امنوا به وراحوا يتصارعون بقسوة الحيوانات المفترسة على الدنيا وينتهكون من اجل تحقيق مأربهم الانانية ما حرمه الله تبارك وتعالى، ولو كانت اسس بنائهم سليمة لبقوا مستقيمين.

 

فانتبهوا ايها الاحبة لاصلاح انفسكم وتحليتها بالاخلاق الفاضلة ولاتغفلوا عن هذا (الجهاد الاكبر) مهما انهمكتم في العمل الرسالي وخدمة المجتمع فانه يبقى (جهاداً اصغر) وان الله تعالى يعينكم ما دمتم في طاعته واعلموا ان النفس بعيدة الاغوار معقدة التاثيرات والتجاذبات ولا يفلح في ترويضها وكبح جماحها وتوجيهها الى الله تبارك وتعالى الا من أدركه الله سبحانه بلطفه وتولاه برعايته لتجتازوا الامتحان الصعب كما اجتازه الحر الرياحي حينما وقف يوم عاشوراء وكان قائداً كبيراً في جيش الخليفة الاموي يخيّر نفسه بين الجنة التي هي مع الحسين واصحابه وان كان ثمنها الصبر على الموت ساعة وبين النار التي هي مع جيش يزيد وكانت مزخرفة بالشهوات والسلطة والنفوذ والدنيا الواسعة فاختار الجنة ومضى شهيدا ووقف الامام الحسين على مصرعه وقال له (حرٌ كما سمتك امك حر،حرٌ في الدنيا وسعيدٌ في الاخرة ) فكانت هذه الشهادة وساماً قلّده اياه سيده ومولاه ليأخذ الجائزة فوراً من رب العزة والجلال.

 

وهكذا بقي الحر الرياحي رمزاً لكل من انتصر على نفسه حينما يتعرض لمثل هذا الامتحان الصعب ، كما بقي في تاريخنا المعاصر الشهيد الشيخ عارف البصري رمزاً لكل العاملين الرساليين الذين ترفّعوا عن الدنيا واخلصوا لله تبارك وتعالى وتفانوا في إعلاء كلمته ونصرة المحرومين والمستضعفين فمضى شهيدا وهو في ريعان الشباب وخلف هذا الذكر الخالد.

 

 

 

 

 

--------------------------------------------------------------------------------

 

[1] في الحديث اشارة الى الايتين الشريفتين ( وبرّاً بوالديه ولم يكن جباراً عصياً ) ( وبرّاً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً )

 

[2] الاحاديث موجودة في كتاب وسائل الشيعة ومستدركه.

 

[3] من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد كبير من طلبة الدراسات الاعدادية المنضوين في رابطة الطالب الرسالي في الناصرية يوم الثلاثاء 4 شوال 1428