مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً - دعوة كريمة إلى الإنفاق في سبيل الله تعالى من كل ما يتيسَّر

| |عدد القراءات : 43
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

 

{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة: 245]

دعوة كريمة إلى الإنفاق في سبيل الله تعالى من كل ما يتيسَّر[1]

 

        قال الله تبارك وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245].

 

        دعوة من الله تبارك وتعالى مع حثٍّ وترغيب على إقراض الله تعالى، وقد تكرّر في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11] وقوله تعالى {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 18] وقوله تعالى {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن: 17] وغيرها، ويصل في بعضها إلى صيغة الأمر {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [المزمل: 20].

        ومعنى القرض لغةً هو القطع، وعرفاً ما تقتطعه من مالك وتملّكه إلى آخر لتقضاه أي مشروطاً بإرجاعه – كما عن ابن فارس – وقال الراغب: ((سُمّي ما يدفع إلى الإنسان من المال بشرط ردّ بدله قرضاً))، ويراد بالقرض في هذه الآيات الكريمة بحسب الروايات الشريفة مطلق الإنفاق في سبيل الله تعالى لتحقق معناه، وهو أن تقطع شيئاً من مالك وتهبه لله تبارك وتعالى لتستوفي أجره وجزاءه يوم القيامة؛ فتكون الاية من قبيل قوله تعالى ((مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ))[البقرة : 261]

        والقرض من مصاديق الدَين الذي هو أعم منه لأنه يشمل كل في الذمة كالشراء بالآجل أو الضمان، وقد عبّرت جميع الآيات الكريمة التي تعرضت لهذه الدعوة المباركة بالقرض وليس بالدين، ولعل نكتةً لطيفة في ذلك هي أن القرض لوحظ فيه حال المقرض وهو عمل صالح يقوم به طلباً للأجر فيُضاعف الثواب لفاعله، أما الدين فلوحظ فيه جانب المدين وهو من الإدانة وفيه حالة من الإذعان لإرادة الدائن، والاستسلام لشروط الجزاء.

        وزادها لطافة وصف القرض بالحسن في كل الموارد لتقييد الفعل بكونه مخلصاً لله تعالى {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] خالياً من شوائب المنة والاستعلاء والإهانة والرياء والتنافس مع الآخرين {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} [البقرة: 264] وأن يكون المال طيباً من كسب حلال {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: 267] وأن لا يكون مقترناً بمحرم وأشنعه الربا {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276] وأن يكون من أحسن المال وأكثره نفعاً للقابض لأنه من البر فلا بد أن يتصف بأوصافه {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] واختصرها قوله تعالى {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] .

        فإذا كان الإنفاق حسناً فقد وعد الله تعالى فاعله بجزاء حسن لا حدود له {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً}، روى الشيخ الصدوق (رضوان الله تعالى عليه) بسنده عن أبي أيوب الخزاز قال: (سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وآله: {مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ خَيرٌ مِنهَا} قال رسول الله صلى الله عليه وآله: اللهم زدني، فأنزل الله تبارك وتعالى {مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشرُ أَمثَالِها} فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: اللهم زدني، فأنزل الله عز وجل {مَنْ ذَا الذِي يُقرِضُ اللهَ قَرضاً حَسَناً فيُضاعِفَهُ لَهُ أَضعَافاً كَثِيرةً} فعلم رسول الله صلى الله عليه وآله: أن الكثير من الله عز وجل لا يحصى وليس له منتهى)[2].

        وروى الشيخ الصدوق في الخصال عن النبي (J) قال: (قال الله جل جلاله: إني أعطيت الدنيا بين عبادي قيضاً – أي مقايضة، وفي نسخة فيضاً، وفي الكافي: قرضاً - فمن أقرضني منها قرضاً أعطيته بكل واحدة منهن عشراً إلى سبعمائة ضعف وما شئت من ذلك)[3].

        إن المؤمن الواعي ليشعر بالخجل أمام الله تبارك وتعالى الذي وهبه ألوان النعم بلا مقابل كرماً منه وتفضّلاً، ثم يحثه ويستثيره ويستنهضه ليقرض العبد ربه بعض ما وهبه له ((أَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ)) [الحديد : 7] وفي الدعاء (وَأَنْتَ الْوَهَّابُ، ثُمَّ لِمَا وَهَبْتَ لَنَا مِنَ الْمُسْتَقْرِضِينَ)[4]، وفوق ذلك فإنه يعده بمضاعفة الأجر على ذلك أضعافاً كثيرة، فهو تبارك وتعالى يأخذ من عباده هذا القليل و ينميه اضعافا مضاعفة ((وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ)) [البقرة : 276] و يعيده اليهم أضعافاً كثيرة يوم الفاقة و الحاجة إليه، و أن الله تعالى قادر على أن يكفي ذلك المحتاج و يغنيه كما أغنى غيره لكنه تبارك و تعالى اراد أن يجري الخير على يد الغني ليثيبه و يرفع درجته شفقة منه و رحمة بعباده، فنعم الرب ربنا اللطيف الكريم العطوف، وبئس العبيد نحن إن لم نستجب لدعوته إلى ما يحيينا ونسعى لرضاه تبارك وتعالى.

        روى العلامة الطبرسي في مجمع البيان عن الكلبي في سبب نزول الآية قال: ((إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من تصدق بصدقة فله مثلها في الجنة) فقال أبو الدحداح الأنصاري، واسمهعمرو ([5]) بن الدحداح: يا رسول الله، إن لي حديقتين إن تصدقت بإحداهما ([6])، فإن لي مثليها في الجنة؟ قال: نعم. قال: وأم الدحداح معي؟ قال: نعم. قال: والصبية معي؟ قال: نعم. فتصدق بأفضل حديقتيه، فدفعها إلى رسول الله. فنزلت الآية، فضاعف الله له صدقته ألفي ألف، وذلك قوله: {أضعافا كثيرة}. قال: فرجع أبو الدحداح، فوجد أم الدحداح والصبية في الحديقة التي جعلها صدقة، فقام على باب الحديقة، وتحرج أن يدخلها فنادى: يا أم الدحداح، قالت: لبيك يا أبا الدحداح. قال: إني قد جعلت حديقتي هذه صدقة، واشتريت مثليها في الجنة، وأم الدحداح معي، والصبية معي. قالت: بارك الله لك فيما شريت، وفيما اشتريت، فخرجوا منها، وأسلموا الحديقة إلى النبي. فقال النبي: (كم نخلة متدل عذوقها لأبي الدحداح في الجنة) ))[7].وفي رواية القرطبي عن زيد ابن أسلم ((ثم اقبلت ام الدحداح على صبيانها تخرج ما في افواههم وتنفض ما في اكمامهم حتى افضت إلى الحائط الاخر)) أقول: هذه من الأمثلة السامية لعظمة تأثير القرآن الكريم والقيادة الحكيمة للنبي (J) في أمة كانت في حضيض الجاهلية.

        ثم قال تعالى: {وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245]وفيه رد على زعم اليهود الذي حكته الاية الكريمة((لقدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء)) ]ال عمران 181[,روى الشيخ الصدوق في كتاب التوحيد بسنده عن الامام الصادق ((عليه السلام)) قال (القبض من الله تعالى المنع و البسط منه الاعطاء و التوسيع, كما قال الله عز وجل ((وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ ترجعون)) [البقرة : 245] يعني يعطي ويوسع، ويمنع ويقبض)[8] فإن الله تعالى هو {الرزاق} فهو يقبض الرزق عن قوم ويبسطه لآخرين, فليعلم من عنده فضل من المال هذه الحقيقة وأن ما عنده هو من الله تعالى حتى لا يتوقف عن العطاء في سبيل الله تعالى، وإن الله تعالى هو الذي يقبض العطاء من المنفق وهو الذي يبسط الجزاء الأوفى له عاجلاً في الدنيا وآجلاً في الاخرة، فلا يتخوّف من الإنفاق ولا يدع الشيطان يوسوس له بأن الإنفاق تلف للمال وضياع, وأن الأحجى هو ادخار المال للفاقة والحاجة حتى اشتهر المثل العامي (الفلس الأحمر ينفع في اليوم الأسود) وهو صحيح بلحاظ الإسراف وصرف المال في غير الأمور الراجحة, وليس لتعطيل الإنفاق في سبيل الله تعالى.

 {وإلَيهٍ تُرجَعُونَ} فإنكم جميعاً مبعوثون يوم القيامة وراجعون الى ربكم {إنَّا لله وانا إلَيهِ رَاجِعُونَ} وحينئذٍ {تُوفّى كُلُّ نَفسٍ مَا كَسَبت} [البقرة: 281] و{إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف: 30] ومادامت الامور ترجع إلى الله تبارك وتعالى وبيده فان الجزاء بالأضعاف المضاعفة متوقع ومرجو ممن له ((خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)) [المنافقون 7]

وستجدون أن ما أعطيتم في سبيل الله هو الباقي الذي تنتفعون به، أما ما بخلتم به فقد تلف ولم تستفيدوا منه، روي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذبح شاة ووزع لحمها على الفقراء، فسأل عائشة عما بقي منها، فقالت: ما بقي منها إلا كتفها، فقال (صلى الله عليه وآله): بقي كلها إلا كتفها)[9].

        وهنا يثار سؤال، بأن الله تعالى {غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] فالله هو الغني المطلق ووصفه في دعاء الافتتاح (الباسِطِ بالجودِ يَدَهُ، الَّذي لا تَنقُصُ خَزائِنُهُ وَلا تَزِيدُهُ كَثرَةُ العَطاءِ إلاّ جوداً وَكَرَماً) وفي أدعية شهر رجب (يا من يعطي من سأله، يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنّناً منه ورحمة) فما حاجته تبارك وتعالى إلى طلب القرض من عبده الفقير المطلق {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15] وكيف نفهم هذه الدعوة الكريمة من الله تبارك وتعالى؟.

        وقبل الإجابة لا بد أن نسلِّم بالحقيقة المذكورة في السؤال، قال أمير المؤمنين (A): (وقال تعالى: {مَن ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له وله أجر كريم} ... ولم يستقرضكم من قُلٍّ، ....، واستقرضكم وله خزائن السماوات والأرض وهو الغني الحميد. وإنما أراد أن يبلوكم أيكم أحسن عملاً)[10].

        ويمكن أن يكون الجواب بوجوه:

1- بلحاظ المعنى المتبادر من مثل هذه الآيات المباركة وبيّنته الأحاديث الشريفة حيث يراد من الإقراض مطلق الإنفاق في سبيل الله تعالى، وقد نسب الله تعالى قبض المال إليه، قال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 104] وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: (إن الله تبارك وتعالى يقول: ما من شيء إلا وقد وكلت من يقبضه غيري إلا الصدقة، فإني أتلقفها بيدي تلقّفاً)[11].

 والجواب بأنَّ في هذه النسبة إلى الله تبارك وتعالى تعظيماً لشأن هذا العمل الصالح حيث شرّفه الله بنسبته إليه، وعلى المنفق أن يلتفت إلى هذه الحقيقة ليبادر إلى الانفاق، و أن يعلم  بأنه إنما يعطي إلى الله تعالى فلا يشعر بالمن و الاستعلاء، كما أن في هذه النسبة تكريماً للمؤمن وصون مكانته حينما جعل الله تعالى نفسه قابضاً نيابة عن المؤمن، فإكرام المؤمن من إكرام الله تعالى، وتؤيده الأحاديث الشريفة مثل قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يشير إلى الكعبة المشرفة: (والله للمؤمن أعظم حرمة منك)[12].

2- بتقدير مضاف، وهو أن العطاء يكون حقيقة لولي الله تعالى، وفي ذلك روايات عديدة، فقد روى الشيخ الكليني بسنده عن الامام الصادق ((عليه السلام)) قال: (ما من شيء أحب لله من اخراج الدراهم إلى الإمام، وإن الله ليجعل له الدرهم في الجنة مثل جبل أحد، ثم قرأ الآية الكريمة وقال: هو والله في صلة الإمام) ([13])  وروى الشيخ الصدوق (رضوان الله تعالى عليه) عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه (سُئل عن قول الله عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} قال (عليه السلام): نزلت في صلة الامام)[14].

3- بالنظر إلى المعنى اللغوي للإقراض وهو أن تقطع شيئاً منك وتعطيه للآخر لتستوفيه وتقضاه لاحقاً وهو لا يختص بالإنفاق المالي، فإن المراد بإقراض الله تعالى كل الطاعات المقرّبة إليه سبحانه، فكل ما تقدمه من جهد بدني أو مالي أو علمي أو فكرة أو خطة أو معلومة أو نشاط اجتماعي أو أخلاقي وغيرها في سبيل الله تعالى فهو إقراض لله تعالى لأنك تطلب استيفاء أجره من الله تعالى, لذلك اقترنت دعوة الإقراض بهذا المعنى العام من تقديم الاعمال الصالحة في قوله تعالى: {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} (المزمل: 20)، وإن الآية محل البحث جاءت في سياق الحث على الجهاد في سبيل الله تعالى، فقد قال عز من قائل في الآية السابقة: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 244] حيث أن التضحية بالنفس في سبيل الله تعالى أعظم وجوه الإنفاق والبر، قال: (فوق كل ذي بر بر حتى يقتل في سبيل الله فإذا قتل في سبيل الله فليس فوقه بر)[15].

        واقترنت في الآية الأخيرة من سورة المزّمّل بتلاوة القرآن وقيام الليل وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاستغفار، وقد فهمها اصحاب رسول الله (ص) بهذا المعنى الواسع لذا طبقوها على طاعات كثيرة كالتوسعة على العيال وقول (سبحان الله و الحمد لله ولا اله إلا الله و الله اكبر) و قراءة سورة التوحيد ([16]).

        وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: {أَقْرَضُوا اللَّهَ} أي قدموا بين يدي الله تعالى كل عطاء من أنفسكم وأموالكم وجهودكم وتفكيركم ليجزيكم به اضعافا مضاعفة لا حدود لها, فالقرض المطلوب ليس ناشئاً من حاجة و انما هو لإرباحكم و استثمار لما وهبكم الله تعالى من النعم، كمن يودع في المصارف لأجل الفائدة بغض النظر عن الحكم الشرعي.

        ومن وصية أمير المؤمنين (A) لولده الإمام الحسن (A): (وَإِذَا وَجَدْتَ مِنْ أَهْلِ الْفَاقَةِ مَنْ يَحْمِلُ لَكَ زَادَكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَيُوَافِيكَ بِهِ غَداً حَيْثُ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَاغْتَنِمْهُ وَحَمِّلْهُ إِيَّاهُ، وَأَكْثِرْ مِنْ تَزْوِيدِهِ وَأَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ، فَلَعَلَّكَ تَطْلُبُهُ فَلاَ تَجِدُهُ، وَاغْتَنِمْ مَنِ اسْتَقْرَضَكَ في حَالِ غِنَاكَ، لِيَجْعَلَ قَضَاءَهُ لَكَ في يَوْمِ عُسْرَتِكَ)[17].

واخرج البيهقي في شعب الايمان عن الحسن قال: (قال رسول الله (ص) يروي ذلك عن ربه عز وجل انه يقول: يابن ادم أودع من كنزك عندي و لا حرق و لا غرق و لا سرق اوفيك احوج ما تكون إليه) ([18])

        ومن هذه الطاعات القرض بالمعنى الأخصّ أي المعروف في المصطلح الفقهي والعرفي، وقد حثّت عليه الأحاديث الشريفة كالآيات الكريمة، ففي الحديث عن النبي (J) قال: (رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوباً الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر فقلت: يا جبريل ما بال القرض أفضل من الصدقة؟ قال: لأن السائل يسأل وعنده والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة)[19] وعنه (J): (من أقرض مؤمناً قرضاً ينتظر به ميسوره كان ماله في زكاة، وكان هو في صلاة من الملائكة حتى يؤديه إليه)[20] وعنه (J) قال: (من أراد أن تستجاب دعوته وأن تكشف كربته فليفرج عن معسر)[21].

        ومما يؤسف له انحسار هذا العمل الإنساني وعدم اقدام أهل السعة على انشاء (صندوق القرض الحسن) الذي له بركات عظيمة على المجتمع، وفي هذا العزوف خسارة لطاعة عظيمة، وإن وجدت بعض الأسباب لقطع سبيل المعروف عديدة (منها) الأرباح المغرية التي يعطيها بعض المضاربين في السوق لمن يستثمر أمواله عندهم وهم غالباً مغامرون لا يهمهم مصير المال لأنهم لم يشقوا باكتسابه، فيخسرون هذه الأموال وتكون نهايتهم في السجون أو الهروب إلى خارج البلد.

        (ومنها) مماطلة المقترضين وعدم تسديد ما بذمتهم خصوصاً إذا أمنوا العقوبة، وبفعلهم هذا يقطعون سبيل المعروف.

ونحن نستقبل شهر رجب الأصب وايام الله تبارك وتعالى ((وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ))] ابراهيم 5[وهو ما يليه من شعبان و شهر رمضان من اعظم مواسم الطاعة و التقرب إلى الله تبارك و تعالى و تتأكد فيها الدعوة إلى اقراض الله تبارك و تعالى بكل عمل صالح مثمر، و من كلٍّ بما يتيسر له و يحسنه و يناسبه و الله ولي التوفيق

       

 



[1] - من درس التفسير الأسبوعي الذي يلقيه سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) في مكتبه في النجف الأشرف على طلبة البحث الخارج يوم الأربعاء 30/جمادي آخرة/1466 الموافق 1/1/2025.

[2] - معاني الأخبار: 397، نور الثقلين: 1/243.

[3] - الخصال: ص130 ح135.

[4] - من دعاء الإمام الحسين (A) في يوم عرفة.

([5]) اسمه في المعاجم: ثابت من بني عمر بن عوف

([6]) في رواية القرطبي:( (قال أبو الدحداح: أن لي حديقتين احداهما بالسافلة والأخرى بالعالية والله لا املك غيرهما قد جعلتهما قرضاً لله تعالى، قال رسول الله(ص): اجعل أحدهما لله والأخرى دعها معيشة لك ولعيالك))

أقول: لأن النفقة على العيال من أعظم الصدقة، ولكيلا يبقى ابو الدحداح معدما يطلب من الناس

[7]- مجمع البيان: 2/ 78، ط. مؤسسة التأريخ العربي، وتوجد روايات عديدة عن القضية في الدر المنثور، المجلد الأول: 746، ط. دار الفكر.

[8] - نور الثقلين: 1/157 ح969.

[9] - صحيح الترمذي: حديث رقم 2470.

[10] - نهج البلاغة: ج ٢ - ص ١١٤.

[11] - بحار الأنوار: 96/ 134.

[12] - بحار الأنوار: 64/ 71 عن مشكاة الأنوار.

([13]) اصول الكافي 1/451 ح2, تفسير البرهان 2/138

[14] - من لا يحضره الفقيه: 2/ 72، ح 1763.

[15] - الكافي: 5/ 53.

([16]) الدر المنثور:1/747

[17] - نهج البلاغة: 31.

(18) الدر المنثور : 1/748

[19] - كنز العمال: رقم 15374 وكثرت رواية الحديث في مصادرنا كما في ثواب الأعمال: 167، وفي بحار الأنوار: 103/138-139.

[20] - ثواب الأعمال: 166 ح1.

[21] - كنز العمال: 15398.