إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ - داء التكبر: سوء عاقبته وأسباب علاجه
{إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56]
داء التكبر: سوء عاقبته وأسباب علاجه[1]
{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر: 56].
تحليل نفسي لسبب صدود المعاندين عن الحق وعدم اذعانهم به وعنادهم، فإن الآية الكريمة تنفي أن يكون سبب جدالهم في آيات الله هو عدم وضوح الحق لديهم، أو الشك في صدق هذه الآيات، ولا أنهم يجرون حواراً بناءً يطلبون به الوصول إلى الحقيقة، وإنما هم يخوضون في هذا الجدال والخصام غير المستند إلى الدليل والبرهان ودافعهم فيه منحصر بمرض نفسي مترسّخ فيهم وهو الكبر {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14] فيتوهمون أنهم بهذا الاستكبار والإعراض يدحضون الحق ويهزمونه بهذا الصخب والضجيج والتشويش على الرسالة وصاحبها وكل رسالة إصلاحية {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [غافر: 5]، وليرضوا أنفسهم الأمارة بالسوء التي تأبى أن تكون تبعاً للنبي (J) وهو (يتيم أبي طالب) أو أن يجلسوا مع العبيد والمستضعفين من المؤمنين.
لكن الله تبارك وتعالى يطمئن نبيه الكريم (J) ومن خلاله جميع المؤمنين بأن المعاندين لا يستطيعون تحقيق مرادهم، ولا يبلغون هدفهم في إبطال الحق بهذا الجدال العقيم، الذي يغلق على قلوبهم منافذ النور، وإن ما حسدوك عليه ويريدون زواله عنك وانتقاله إليهم كالنبوة والزعامة حيث كانت قريش تحسد بني هاشم على النبوة لأنه مقام لا يستطيعون منافستهم فيه، أو أن الآية عنت اليهود – كما في بعض الروايات - فإنهم ((يريدون رجوع المُلك إليهم عند خروج الدجال)) ((وإن الكبر الذي ليس هم ببالغيه: توّقع أمر الدجال، فتكبرّوا متربصين يتوقعون خروج الجدال، فأعلم الله تعالى نبيه (J) أن هذه الفرقة التي تجادل لا تبلغ خروج الدجال))[2].
{مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} لأن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ولا يدرك بالأماني والسعي بالباطل، والضمير في (بالغيه) يعود إلى الكبر، فيكون من ذكر السبب وهو الكبر الذي دعاهم إلى الجدال، وإرادة المسبب وهو دحض هذه الدعوة المباركة، فلا يحزنك جدالهم وإعراضهم لأن الله تعالى مذلُّهم ومحبطٌ لأعمالهم فلا يتحقق لهم ما يريدون، وهذا شأن كل من يسعى إلى هدفه بالوسائل الباطلة، بل هو مصير كل عمل لا يُبنى على أساس الإخلاص لله تعالى وصدق النية والحجة الشرعية {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23] {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.
والكبر والتكبّر أي توهم العظمة في النفس وتفخيم الأنا، وهو وصف لا يليق بالعبد الضعيف الذليل العاجز الفقير الذي لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فكيف يريد التلبّس بهذه الصفة المختصة بالخالق العظيم المتكبر الجبار، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (يقول الله جل وعلا: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في النار)[3] وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (الكبر رداء الله، فمن نازع الله شيئاً من ذلك اكبّه الله في النار).
لذا وصفت الآيات الكريمة هؤلاء الواهمين بأنهم مستكبرون أي طالبون للكبر ومنتحلون للتكبّر من غير استحقاق له، فإن الله تعالى هو {الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر: 23]، وإنما وظيفة الإنسان استشعار هذه العبودية والخضوع والفقر والحاجة لله تبارك وتعالى، وإنه يزداد كمالاً كلما ازداد تواضعاً وعبودية لله تعالى، ويتحقق ذلك بزيادة معرفته بصفات الله الحسنى.
ثم تقدم الآية الكريمة العلاج بالدعوة إلى تنقية النية والدافع وتطهير الباطن من خلال الاستعاذة بالله تعالى للتخلص من هذه الرذيلة الخُلقية، ومن تأثير المتصفين بها ومكرهم وجدالهم بالباطل من غير حجة أو دليل، ويكفي في احتقارهم أن الله تعالى يأمر بالاستعاذة منهم.
وتُطمئنُ الآية الكريمة النبي (J) والمؤمنين مرة أخرى بأن الله تعالى سميع لدعاء عباده، بصير بأحوالهم وظروفهم ومعاناتهم وحوائجهم، وبما يصلح حالهم ويسعدهم في الدنيا والآخرة، مضافاً إلى ما تضمنته الآية السابقة من تطمين وتوجيهات عملية، قال تعالى {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [غافر: 55].
والكبر من أصول الرذائل الخلقية الذي تترشح منه صفات خبيثة كثيرة كالعصبية والحسد والبغي والاستعلاء وعدم الانصاف والصد عن الحق، قال أمير المؤمنين (A): (احذر الكبر فإنه رأس الطغيان ومعصية الرحمن)[4]، وقال (A): (أقبح الخلق التكبر)[5]، ولو تركه الإنسان ولم يعالجه فإنه سيملأ كيانه ويترسخ في قلبه ويصبح المحرك لسلوكه {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ}.
وكان الكبر سبب إباء إبليس السجودَ لآدم (عليه السلام) وعصيان الخالق العظيم {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ} [ص: 73-74] فكان جزاؤه الطرد من رحمة الله وجنتَّه المحرمة على المتكبرين {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف: 13]، فهو صغير عند الله تعالى، وعند الناس ورد في الحديث عن النبي (J) قال: (يحشر الجبارون المتكبرون يوم القيامة في صور الذر، يطؤهم الناس لهوانهم على الله تعالى)[6].
وهو الذي دفع قادة الانقلاب في السقيفة بعد وفاة رسول الله (J) فخالفوا أمر النبي (J) في تعيين الولي من بعده ففتحوا باب الصراع والاقتتال والانحراف على الأمة إلى يوم القيامة وكانوا يبرّرون فعلتهم (كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة فتبجحوا على الناس بجحاً)[7].
وصِفَة الكبر راسخة في النفوس الأمّارة بالسوء فإنها نزّاعة إلى التكبر والاستعلاء حتى إلى ادعاء الربوبية لو وجدت لذلك سبيلاً، وقول فرعون: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] لا يختص به، لكن عدم إظهارها يكون لفقدانه ما يصول به، وإن هذه الصفة تظهر على الإنسان في أنماط متعددة من السلوك، كاحتقار الآخرين والاستعلاء عليهم، وعدم الجلوس إلا في صدر المجلس، أو عدم الاذعان بصواب رأي الآخر مع اعتقاده بذلك، أو الترفع عن بدء الآخرين بالسلام وغير ذلك، روي عن رسول الله (J) قوله: (إياكم والكبر، فإن الكبر يكون في الرجل وأن عليه العباءة)[8] وهو كناية عن تظاهره بالزهد في الدنيا واعتزال الناس فيقال عنه: أنه لبس العباءة.
وإن كثيراً من طالبي المقامات الروحية العالية ينطلقون من الكبر والأنانية فلا يزدادون إلا بعداً لعدم سلوكهم السبيل الصحيح الموصل إلى الله تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان : 21] ولذا حذّر المعصومون (سلام الله عليهم) من هذه الرذيلة، قال رسول الله (J): (إياكم والكبر، فإن إبليس حمله الكبر على أن لا يسجد لآدم)[9] وقال أمير المؤمنين (A): (فاعتبروا بما كان من فعل اللّه بإبليس، إذ أحبط عمله الطّويل، و جهده الجهيد، وكان قد عبد اللّه ستّة آلاف سنة لا يدرى أمن سنيّ الدّنيا أم سنيّ الآخرة عن كبر ساعة واحدة، فمن بعد إبليس يسلم على اللّه بمثل معصيته)[10]؟!
وقد تعرضت آيات كثيرة لما يسببه الكبر من آثار سيئة في الدنيا والآخرة، منها ما تقدم من الطرد من الجنة ومن رحمة الله تعالى والصغار عند الله تعالى وعند الناس {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف : 40]، و (منها) أنه يوجب الشحناء والعداوة ويمحق المودة أما التواضع فإنه يجلب المودة، قال تعالى {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة : 82] وأنه يوجب شدة سكرات الموت، قال تعالى {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام : 93] ويؤدي إلى عدم قبول الحق تكبراً على أهله {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الأعراف : 76] ويدعوه إلى عدم الإيمان بيوم الحساب ليبرّر لنفسه تصرفاته {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر : 27] ويوجب مقت الله تبارك وتعالى والطبع على القلب {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر : 35] والمتكبر يستنكف عن الاعتراف بالخطأ والنصيحة بالتصحح {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون : 5] وقال الإمام الصادق (A): (الكبر قد يكون في شرار الناس من كل جنس – أي في اراذل الناس ووضيعهم - ، والكبر رداء الله، فمن نازع الله عز وجل رداءه لم يزده الله إلا سفالاً، إن رسول الله صلى الله عليه وآله مرّ في بعض طرق المدينة وسوداء تلقط السرقين فقيل لها: تَنَحّي عن طريق رسول الله، فقالت: إن الطريق لمعرض، فهمّ بها بعض القوم أن يتناولها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: دعوها فإنها جبّارة)[11]، فلم تمنعها وضاعتها وخسّتها من التجبّر والتكبّر مما يدل على رسوخ هذه الصفة في البشر وعدم اقتصارها على أولي الحول والقوة.
فعلى المؤمن أن يلتفت إلى هذا الداء ويتعهد نفسه بالتهذيب وقلبه بالتطهير، وإلا ساقته نفسه إلى الهلكة من حيث يشعر أو لا يشعر، والشيطان يعلم ذلك، لهذا فإن الكبر من أعظم وسائله للإغواء وأوسع مداخله لتحريك النفس الأمّارة بالسوء، قال أمير المؤمنين (A): (فأطفئوا ما كمن في قلوبكم من نيران العصبيّة، وأحقاد الجاهليّة، فإنّما تلك الحميّة تكون في المسلم من خطرات الشّيطان ونخواته، ونزغاته ونفثاته، واعتمدوا وضع التّذلّل على رءوسكم، وإلقاء التّعزّز تحت أقدامكم، وخلع التّكبّر من أعناقكم، واتّخذوا التّواضع مسلحة، بينكم وبين عدوّكم إبليس)[12]، وقال (A): (فالله الله في عاجل البغي، وآجل وخامة الظّلم، وسوء عاقبة الكبر، فإنّها مصيدة إبليس العظمى، ومكيدته الكبرى، التي تساور قلوب الرّجال مساورة السّموم القاتلة، فما تكدى أبداً، ولا تشوى أحداً: لا عالما لعلمه، ولا مُقلاّ في طمره)[13].
ومبرزات الكبر الموجود في النفس الإنسانية ومظهراته عديدة كالسلطة {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف : 51] والزعامة بكل أشكالها السياسية والاجتماعية والعشائرية حتى الدينية، والعلم {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف : 175] والمال[14] والجاه والعصبة من الأولاد والإخوة والأتباع {قالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} [النمل : 33] {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت : 15] وهو منطق الدول المستكبرة اليوم وفي كل زمان، وهذه لو تحققت لصاحب النفس الكريمة فإنها تكون مدعاة للتواضع وفعل الخير والإحسان إلى الناس، وإنما يسقط في امتحانها ذو النفس اللئيمة الذي يعاني من عقدة الحقارة والدونية، قال أمير المؤمنين (A): (لا يتكبر إلا وضيع خامل)[15] وقال الإمام الصادق (A): (ما من رجل تكبّر أو تجبّر إلا لذلّة وجدها في نفسه)[16].
وقد دأب علماء الأخلاق على تقسيم علاج الرذائل الخلقية إلى علمي وعملي، فعلاج الكبر العلمي ما ذكرناه من معرفة حقوق الربوبية ووظائف العبودية والتفاته إلى ضعفه وهوانه {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ} [المرسلات: 20] {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} [النساء: 28] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ} [الروم: 54]، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (عجبت لابن آدم أوله نطفة وآخره جيفة وهو قائم بينهما وعاء للغائط، ثم يتكبر)[17].
فالإنسان خلق من ضعف وهوان، وهو صائر إلى الضعف والهوان، فلا يليق به إلا التواضع واستشعار الذلة والفقر والحاجة إلى الرب الغني العزيز المقتدر، روى الإمام السجاد (A) قال: (وقع بين سلمان الفارسي رحمه الله وبين رجل كلام وخصومة، فقال له الرجل: من أنت يا سلمان؟ فقال سلمان: أما أولي وأولك فنطفة قذرة، وأما آخري وآخرك فجيفة منتنة، فإذا كان يوم القيامة ووضعت الموازين فمن ثقل ميزانه فهو الكريم، ومن خف ميزانه فهو اللئيم)[18].
أما العلاج العملي فيكون بالتواضع لله تبارك وتعالى ولسائر الخلق وتدريب النفس عليه إن لم يكن متّصفاً به، وأن لا يرى لنفسه فضلاً أو تقدماً على الناس، روى الشيخ الصدوق في الخصال عن الإمام الرضا (A) قال: (في المؤمن عشر خصال) إلى أن قال: (والعاشرة وما العاشرة! لا يرى أحداً إلا قال: هو خير مني وأتقى، إنما الناس رجلان فرجل هو خير منه وأتقى، وآخر هو شر منه وأدنى، فإذا رأى من هو خير منه وأتقى تواضع له ليلحق به، وإذا لقي الذي هو شر منه وأدنى قال: عسى خير هذا باطن وشره ظاهر، وعسى أن يختم له بخير، فإذا فعل ذلك فقد علا مجده، وساد أهل زمانه)[19].
وقد ذكرت الروايات بعض العلاجات للكبر، روي عن أبي ذر الغفاري (رضوان الله عليه) قال: (دخلت ذات يوم في صدر نهاره على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مسجده.. فقلتُ: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أوصني بوصية ينفعني الله بها، فقال: .. يا أبا ذر، من مات وفي قلبه مثقال ذرة من كبر لم يجد ريح الجنة إلا أن يتوب قبل ذلك، فقال: يا رسول الله، إني ليعجبني الجمال حتى وددت أن عِلاقة سوطي وقِبال نعلي حسن، فهل يرهب علي ذلك؟ قال: كيف تجد قلبك؟ قال: أجده عارفاً للحق مطمئناً إليه، قال: ليس ذلك بالكبر، ولكن الكبر أن تترك الحق وتتجاوزه إلى غيره، وتنظر إلى الناس ولا ترى أن أحداً عرضه كعرضك ولا دمه كدمك)[20]، وقال الإمام السجاد (عليه السلام): (من قال: أستغفرُ الله وأتوب إليه، فليس بمستكبر ولا جبار، إن المستكبر مَن يصرّ على الذنب الذي غلبه هواه فيه، وآثر دنياه على آخرته)[21].
ومما ورد في خطبة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في مسجد أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) في مصالح التشريعات الإلهية: (فجعل الله الصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر)[22] فالصلاة لو أقيمت حق قيامها فإنها علاج الكبر لأنها {تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَر} [العنكبوت: 45] وفيها من الأفعال ما يزيل الكبر عملياً كالركوع والسجود وأذكار التسبيح والتعظيم والتكبير وتذكّر الوقوف بين يدي الله يوم القيامة، وما فيها من الدعاء والتذلل وإظهار الحاجة إلى الله تبارك وتعالى، فإن الدعاء يقوِّي عزيمة المؤمن ويربطه بالعطاء اللامتناهي، روى الشيخ الكليني بسند صحيح عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إن الله عز وجل يقول: {إِنْ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] قال (عليه السلام): (الدعاء، وأفضل العبادة الدعاء)[23]، فالدعاء علاج فعّال للكبر، وتركه للشعور بالاستغناء وعدم الحاجة استكبار وفي دعاء مكارم الاخلاق للإمام السجاد (A): (ولا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزا ظاهرا إلا أحدثت لي ذلة باطنة عند نفسي بقدرها)[24].
[1] - من درس التفسير الأسبوعي الذي يلقيه سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) في مكتبه في النجف الأشرف على طلبة البحث الخارج يوم الأربعاء 16/جمادي آخرة/1466 الموافق 18/12/2024.
[2] - الدر المنثور: 5/353، والتبيان: 6/88، ومجمع البيان: 4/529.
[3] -الحديث والذين بعده في ميزان الحكمة: 7/ 417.
[4] - غرر الحكم: ح 2609.
[5] - غرر الحكم: ح 2898.
[6] - المحجة البيضاء: ٦ / ٢١٥.
[7] - ابن الأثير: ج 3، ص 63، وتاريخ الطبري: ج 4، ص 223.
[8] - كنز العمال: ح رقم 7735.
[9] - كنز العمال: ح رقم 7734.
[10] - نهج البلاغة: الخطبة 192.
[11] - الكافي: 2/ 309، باب (الكبر)، ح 2.
[12] - نهج البلاغة: الخطبة 192 وهي المسماة بالخطبة القاصعة.
[13] - المصدر السابق.
[14] - راجع تفسير قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى* أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6-7].
[15] - غرر الحكم: ح 10808
[16] - الكافي: 2/ 310، ح 17.
[17] - علل الشرائع: 1/ 276.
[18] - بحار الأنوار: 22/ 355 عن الأمالي للصدوق: 708، ح 976.
[19] - الخصال: 433، أبواب العشرة.
[20] - بحار الأنوار: 74/ 90 نقلاً عن مكارم الأخلاق للطبرسي.
[21] - بحار الأنوار: 90/ 193.
[22] - الاحتجاج: 1/ 128.
[23] - الكافي: 2/ 339ن ح 1.
[24] - الصحيفة السجادية: ص ١١٠.