{إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً* وَنَرَاهُ قَرِيباً} - السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء (ع) والوعد بالفتح
{إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً* وَنَرَاهُ قَرِيباً} [المعارج: 6-7]
السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء ($) والوعد بالفتح[1]
قال الله تبارك وتعالى: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً* إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً*وَنَرَاهُ قَرِيباً} [المعارج: 5-7].
الآية الكريمة فيها تسلية ومواساة للنبي (J) وتطييب لقلبه وتخفيف لآلامه التي كان يتجرّعها من مشركي قريش، وكذلك فإنها تحمل معنى التهديد والوعيد لأعداء الإسلام من نهايتهم المخزية والبائسة في الدنيا والآخرة {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 175]، وتقول للنبي (J): إن يوم القيامة الذي نقتصّ فيه من أعداء الله تعالى ورسوله (J) والإنسانية يرونه بعيداً، أي يعتقدون بأنه بعيدٌ عن الواقع وغير ممكن بحكم عقولهم القاصرة وأنه لا وجود له واستغراقهم في الماديات، فيتساءلون مستنكرين: إذ كيف يبعث الإنسان من قبره بعد أن يتلاشى جسده في القبر {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الصافات: 16]، وهم يرونه بعيداً زماناً أيضاً {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق: 3] فهو عندهم بحكم العدم، لكنهم في قرارة أنفسهم يعترفون به، ولا يستطيعون نفيه وهذا ظاهر من زعمهم أن آلهتهم ستشفع لهم {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18].
فيُطَمئِنُّ الله تعالى نبيه الكريم (J) من خلال الآيات الكريمة بأننا نرى يوم القيامة واقعاً حتماً بلا ريب، وأن وقوعه قريبٌ لحكم العقل والفطرة السليمة، لأنه مقتضى العدالة وإنصاف المظلوم من الظالم، وتقتضيه الحكمة وإلا كان خلق الناس عبثاً، وهو قريب زماناً أيضاً عند مَن تكون رؤيته خارج الزمان، فالحوادث والأمور الزمانية السابقة واللاحقة كلها حاضرة عنده كشريط من الصور والأحداث، ولأن عمر الدنيا مقابل الخلود في الآخرة لا شيء، ولأن يوم القيامة آتٍ، ((وكل آتٍ قريب))[2] {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} [الأحزاب: 63] ومهما طال عمر الكفار والمعاندين في الدنيا فإنهم ميتون، وستنكشف الحقيقة جلية أمامهم، وروي عن رسول الله (J) قوله: (إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته)[3]، فما أقربهم من يوم الجزاء، وحينئذٍ لا يبقى لهم شيء مما حرصوا عليه من متاع الدنيا مهما طالت مدته ولا يدفع عنهم العذاب {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ* ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ* مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء: 205-207].
وسرعان ما تحقق وعد الله تعالى فيهم، فقد قتل الله تعالى صناديد قريش وطغاتها في معركة بدر، بل إنهم يتعذّبون بالنار التي أجّجوها بظلمهم ومعاصيهم وهم في دار الدنيا {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة: 49]، أي الآن وليس أنها ستحيط بهم يوم القيامة فقط {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81] فأيَّ بُعدٍ يتشبثون به ويخدعون به أنفسهم؟
وإلى أن تتحقق هذه النهاية الشقيّة للكافرين والسعيدة للمؤمنين تأمر الآية الكريمة السابقة بالصبر الجميل {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} وهو الصبر الذي يكون لوجه الله تعالى ورضاً بقضائه وتسليماً لأمره وثقة بوعده، ليس فيه شكوى ولا اعتراض ولا ضجر ولا كسل، على النحو الذي سلّى به النبي يعقوب (A) نفسه عند فقد ولده يوسف النبي (A) {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] قال الإمام الصادق (A) في تفسير الصبر الجميل: أنه (بلا شكوى)[4]، ومثل هذا الصبر يكون حافزاً على العمل والتقدم وليس مثبّطاً أو محبطاً، والله تعالى قادر على أن يحقق المطلوب فوراً من دون انتظار، لكنه تعالى أراد للأمور أن تجري بأسبابها ليتميز الصابر المحتسب العامل عن غيره فيثيب المحسن على إحسانه.
وما على المؤمنين إلا التربص والانتظار والثقة التامة بوعد الله تعالى ليروا ما يحلّ بالكافرين {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة: 52] {قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [يونس: 102].
وإذا لاحظنا الآية الكريمة ضمن سياق الآيات السابقة عليها[5] {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج: 1] التي دلّت الروايات على أنها نزلت في المعترضين على تنصيب النبي (J) علياً (A) خليفةً من بعده وولياً لأمر الأمة في يوم الغدير[6]، وقالوا {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]، وعلى هذا فالآيات الكريمة تتوعد الذين أنكروا ولاية أمير المؤمنين (A) بالعذاب القريب.
أيّها الأخوة والاخوات:
وللآية الكريمة معنى أوسع من هذا يقوّي إيماننا، ويربط على قلوبنا، ويعيننا على تحمّل كل ما نلاقيه في حياتنا ويكون بلسماً لجراحنا، وهو أن كل مشكلة تحصل لنا، أو أزمة تمرُّ بنا، أو أمر يتعسّر علينا أو ابتلاء سواء في البدن أو الرزق أو الأمن أو المصائب والابتلاءات في الأهل والأقرباء والأحبّة أو الكوارث العامة التي تعاني منها الأمة، والتحديات المعقّدة التي تواجهها، وترى أنها مستعصية على الحل وأن الخروج منها بعيد المنال وقد يحصل اليأس منه، فعليك أن تتذكر حينئذٍ هذه الآية الكريمة وتستحضرها في وجدانك لتعيد إليك الأمل والاطمئنان وتزيد في إيمانك، وتقّوي عزيمتك، وترفع درجتك عند الله تعالى، فإنها تعدك بأنَّ العقدة ستحلّ، والخطر سيزول، ويتحوّل الفشل إلى نجاح وسيأتي الفرج بأقرب ما يكون ومن حيث لا تحتسب، (فكم يا الهي من كربة قد فرجتها، وهموم قد كشفتها، وعثرة قد أقلتها) (فكم من موهبة هنيئة قد أعطاني، وعظيمة مخوفة قد كفاني، وبهجة مونقة قد أراني)[7] وما عليك إلا حسن الظن بالله تعالى والاستعانة بالصبر الجميل المحرك نحو العمل الصالح قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] من دون أن تذكر الآية أن الاستعانة بالصبر على ماذا؟ ليبقى مطلقاً ومفتوحاً، فإن الاستعانة بالصبر والصلاة يكون على كل شيء، فبالصبر ينال الظفر والدرجات الرفيعة، روي عن الإمام الصادق (A) قوله: ((إن العبد ليكون له عند الله الدرجة لا يبلغها بعمله فيبتليه الله في جسده أو يصاب بماله أو يصاب في ولده فإن هو صبر بلّغه الله إياها))[8]، قال أمير المؤمنين (A): (عند تناهي الشدة تكون الفرجة، وعند تضايق حلق البلاء يكون الرخاء)[9] وعليكم أن تحسنوا الظن بالله تعالى {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110].
وعلى هذا الفهم فإن ضمير (هم) في {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ} يعود إلى المؤمنين، وبذلك تؤسس الآية الكريمة قاعدة عامة توجّه سلوك المؤمن، وتجعل قلبه مفعماً بالأمل والانشراح، وتجعله مندفعاً نحو العمل الإيجابي المثمر المبارك، فلنستفد منها في كل شؤون حياتنا.
أيها الموالون المجتمعون على محبّة السيدة الزهراء ($):
لقد وعت السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء ($) هذه الحقيقة القرآنية وكانت على ثقة تامة بوعد الله تعالى، لذا وقفت متحدية طغيان القوم لتحذرهم من مغبّة ظلمهم وعدوانهم وانقلابهم على تعاليم الدين ووصية رسول الله (J)، وأن هذه النهاية التي يرونها بعيدة هي قريبة منهم وتراها السيدة الزهراء ($) رأي العين، ومما قالت (فدونكموها فاحتقبوها باقية العار، موسومة بغضب الجبار، وشنار الأبد، موصولة بنار الله الموقدة، التي تطّلع على الأفئدة، فبعين الله ما تفعلون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد فاعملوا إنا عاملون، وانتظروا إنا منتظرون)[10].
وقالت ($): (أمَا لعمري لقد لقحتْ، فنظرة ريثما تُنتج، هنالك يخسر المبطلون، ويعرف التالون غبّ -أي عاقبة - ما أسّس الأولون، وأبشروا بسيف صارم، وسطوة معتد غاشم، وبِهَرج شامل، واستبداد من الظالمين يدع فيئكم زهيداً، وجمعكم حصيداً، فيا حسرة لكم! وأنى بكم وقد عميت عليكم! {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود: 28])[11].
وسرعان ما حلّ بهم ذلك، وكانت البداية ضياع دينهم وآخرتهم وانحرافهم عن شريعة الله تبارك وتعالى، روى البخاري بسنده عن الزهري قال: ((دخلت على أنس بن مالك – الصحابي – بدمشق وهو يبكي فقلت: ما يبكيك؟ فقال: ما أعرف شيئاً مما كان على عهد النبي (J) إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيّعت))[12] يحصل ذلك وأصحاب النبي (J) لا زالوا موجودين.
أيها الأحبّة: -
إن الباطل والظلم والعدوان مهما تفرعن وتجبّر وطغى، وظنّ بعدم وجود من يردعه فإن نهايته قريبة وغير متوقعة، فمن كان يتصور أن نجاة النبي موسى (A) والذين آمنوا معه تكون بتلك الطريقة وهي إغراق فرعون وجيشه العظيم في الماء في اللحظة التي يئس المؤمنون فيها من النجاة {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ* قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 61-62]؟ وهل كان أصحاب الكهف يتوقعون أن نجاتهم تكون بالنوم ثلاثمائة وتسعة أعوام حتى انتشر التوحيد وأضمحلّ الكفر؟ ومن كان يصدّق أن النمرود الطاغية المتجبّر تنهي حياته حشرة، والأمثلة لا تعد ولا تحصى.
وهكذا يوم الظهور الميمون لإمامنا المهدي (A) مهما رأوه بعيداً عن التصور ومستحيلاً، فإنه قريب وسينعم برؤيته واتّباعه المؤمنون، وسيشرق نوره على الأرض كلها، وهو ما ورد في دعاء العهد (اللهُمَّ اكشِف هذِهِ الغُمَّةَ عَن هذِهِ الأُمَّةِ بِحُضُورِهِ وَعَجِّل لَنا ظُهُورَهُ إنَّهُم يَرَونَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) وورد عن الإمام الكاظم (A) قوله: (إن الشيعة تربى بالأماني منذ مائتي سنة)[13] أقول: ولا زالت الأمة تُرّبى بالأمل بعد ألف ومئتي عام.
فإن الفتح يشرق من داخل النفس ثم يتحقق في الخارج {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، وما زال الأمل يحدونا بقرب الفرج والنصر، وظهور دين الإسلام المحمدي الأصيل على الدين كله ولو كره الكافرون والمستكبرون جعلنا الله تعالى وإياكم من أنصاره والممهدين له والممكَنّين في دولته المباركة إنه نعم المولى ونعم النصير.
[1] - الخطاب الفاطمي السنوي العشرون بفضل الله تعالى ألقاه سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على حشود الزوار المعزّين في ساحة ثورة العشرين في النجف الأشرف يوم الخميس 3/جمادي الآخرة/ 1446 الموافق 5/12/2024.
[2] - نهج البلاغة: ج ١ - ص ١٩٧.
[3] - ميزان الحكمة: ج ٤ - ص ٢٩٥٤ عن كنز العمال: ٤٢٧٤٨، ٤٢١٢٣.
[4] - أمالي الشيخ الطوسي: 1/300، البرهان: 5/134 ح33.
[5] - تناولناها في قبس مستقل، راجع تفسير من نور القرآن: قبس 212/ج6 /ص287.
[6] - نقل العلامة الأميني (قدس سره) في كتاب (الغدير: 1/ 460-471) الواقعة عن 29 محدثاً ومفسراً، ونقله من العامة الحسكاني في شواهد التنزيل: 2/381، والحافظ أبو عبيد بن سلام في تفسيره (غريب القرآن:86).
[7] - من دعاء الافتتاح الذي يستحب في ليالي شهر رمضان المبارك.
[8] - التمحيص لابن همام الاسكافي: 58.
[9] - نهج البلاغة: ج ٤ - ص ٨٢.
[10] - الاحتجاج للطبرسي: 1/134.
[11] - الاحتجاج: 1/139.
[12] - صحيح البخاري: 67/ كتاب 9 مواقيت الصلاة، باب 7 ح 529، 630.
[13] - بحار الأنوار: - ج ٥٢ - ص ١٠٢.