{يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} - التعري أبرز سمات المجتمع الجاهلي والمطرودين من الجنة
بسمه تعالى
{يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27]
التعري أبرز سمات المجتمع الجاهلي والمطرودين من الجنة 1
قال الله تبارك وتعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27].
كرّر القرآن الكريم التحذير الشديد من الافتنان بخدع الشيطان ومكره وإغرائه وخططه التي تخفى حتى على الفطن الحاذق، وغرضه اخراجكم من جنة طاعة الله تبارك وتعالى وسعادتها، وذلك بأن يجعلكم تتخلّون عن لباسكم الظاهري بنشر التعري ولباسكم الباطني بتجريدكم من التقوى والعفاف حيث ورد في الآية السابقة {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26].
واقترنت بعض هذه التحذيرات بشواهد من الوقائع والأحداث لتكون أبلغ في الحجة وأوضح في الوعظ والإرشاد، ومنها هذه الآية الكريمة التي أوردت حادثة غواية إبليس لآدم (عليه السلام) وزوجه، وقد تعرض القرآن لهذه الواقعة في عدة مواضع [البقرة: 36-37] [الأعراف: 19 - 27] [طه: 115- 123].
وخلاصتها بحسب السرد القرآني بضم الآيات الكريمة بعضها إلى بعض: أن الله تبارك وتعالى خلق آدم (عليه السلام) من طين ونفخ فيه من روحه وأمر ملائكته بالسجود له {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29] فأطاعوا، إلا إبليس الذي كان في زمرة الملائكة فإنه استكبر وعصى الأمر {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34] فطُرِد من الجنة.
وخلق الله تعالى لآدم امرأة وزوّجه إياها، وأسكنهما الجنة وأباح لهما نعيمها {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا} [الأعراف: 19] {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة: 35]، وتعهد الله تعالى لآدم وزوجه بتوفير كل أسباب السعادة في الجنة {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى*وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 118- 119].
وانتقاماً لنفسه واستمراراً على استكباره وتمردّه، فقد أقسم إبليس حينئذٍ على أنه سيفعل كل ما يستطيع لغواية آدم (عليه السلام) وإضلال ذريته وصدّهم عن طاعة الله تعالى، لحرمانهم من الجنة كما حُرِم هو لعنه الله.
ومنع الله تعالى آدم وزوجه من الاقتراب من شجرةٍ أشار إليها لأن ذلك يسبّب لهما الشقاء والعناء، {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 19- البقرة: 35] وحذّرهما من غواية الشيطان فإنه عدو لهما ويريد إخراجهما من الجنة ونعيمها، والابتلاء بالأرض وشقائها {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه: 117] وبذلك فإنكما تظلمان نفسيكما بحرمانها من الخير.
وعلم إبليس أن مفتاح نجاحه هو بإقناعهما بالأكل من الشجرة حتى تبدو لهما سوأتهما التي كانت خافية عنهما وحينئذ سيخرجان من الجنة، لأن الجنة ليست مكاناً لمن كشف عن سوأته وأبداها {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} [الأعراف: 20].
وحرك إبليس أدواته لغوايتهما وإقناعهما بالأكل من الشجرة ولم ييأس من النجاح، فدخل إليهما من باب النزعة الغريزية الجامحة للخلود، والتسلط على الأشياء والقدرة الخارقة والاطلاع على الغيب كالملائكة، وحب الاستطلاع الذي يدفع نحو الفضول والتطفل، ومنبعها الحرص الذي هو أساس التعلق بكل الأمور الدنيوية {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120] وبرّر مخالفة النهي بأنه لم يكن لضرر عليهما ولا لمعرّةٍ تصيبهما وإنما هو فقط لكي لا تكونا من الخالدين فلا مانع من ارتكابه {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20].
وعزّز اللعين مساعيه بأن أقسم بالله تعالى على ذلك، ولم يَدُر في خَلَد آدم وزوجه أن يقسم أحد بالله تعالى كاذباً {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21] واستعمل أساليب الإغراء {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 22] وخديعة وإيهام بإثارة الميول الغريزية والقسم على الصدق، وفي التعبير إشارة رائعة لاستسلامهما له بحيث أصبحا آلة سهلة بيده كالدلو الذي يرسله صاحبه في البئر العميقة، وقد فعل إبليس ذلك حيث أهبط آدم (عليه السلام) وزوجه من الجنة إلى الأرض ليكابد الشقاء والابتلاء، وهكذا من يستسلم لوساوس الشيطان فإنه كمن يتدلى في بئر عميقة ويتثبت بحبل ضعيف.
وبعد عدة محاولات تذكرها الروايات 2 نجح إبليس في غوايتهما {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} [البقرة: 36] بسبب استسلامهما لوعود إبليس وتسويلاته، والغفلة عن المعرفة الحقيقية بأن الله تعالى هو من يهب الحياة الخالدة والملك الدائم وليس الأكل من الشجرة، وما الأشياء الأخرى إلا أسبابُ بتدبيره سبحانه وعدم الالتفات إلى تحذيرهما من إبليس وأنه عدّو مبين لهما فكيف يكون من الناصحين؟ وكيف يصدقان قوله؟ وتزلزل عزم آدم على الصدق والثبات على العهد مع الله تبارك وتعالى {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115].
وحينئذٍ وقع المحذور فقد ارتكب آدم (عليه السلام) ما كان ينبغي له تركه رحمة بنفسه وتحرّياً لسعادتها {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] وتفاجئا ببدوّ سوآتهما الظاهرية التي كانت مستورة عنهما، والباطنية وهو النقص والاستسلام للهوى والشعور الكاذب بالعصمة من الخطأ حين أسجد الله تعالى له ملائكته، وشعرا بالخجل وحاولا سترهما لأن غريزة الإنسان {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 22] لستر عورتهما الظاهرية وجاءهما العتاب من الله تبارك وتعالى {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف: 22] وبظهور سوأتهما لم يعودا مؤهلين للبقاء في الجنة، فجاءهما الأمر من الله تعالى بالخروج من الجنة وتحوّل القرب إلى بُعد لقوله تعالى {وَنَادَاهُمَا} والنداء هو للبعد، ولأنه قبل المخالفة فيها قيل لهما {هَذِهِ الشَّجَرَةَ} وبعد المخالفة {تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} وأُمِرا بالنزول إلى الأرض {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} [البقرة: 36] {وَقُلْنَا اهْبِطُوا} [البقرة: 36] بكل ما تعني الحياة في الأرض من تحاسد وتنافس وتزاحم يؤدي إلى الصراع والعدوان والظلم {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة: 36-الأعراف: 24].
وأدرك آدم (عليه السلام) وزوجه الخذلان الذي أصابهما واعترفا بخطأهما، وطلبا من الله تعالى بصدق العفو والمغفرة والرحمة لستر عورتهما الباطنية {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].
فاستجاب الله التواب الرحيم الشفيق دعاءهما ولم يخذلهما ويتركهما لنفسيهما، بل علّم آدم أسماءً 3 يتوسل بها إلى الله تبارك وتعالى ليقبل توبته، ففعل بصدق وإخلاص وتوسل آدم لربه بتلك الأسماء العزيزة على الله تعالى فتاب الله عليه {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37] واصطفاه وجعله نبياً {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 122]، وكتب الله تعالى عليهما وذريتهما التكليف المبني على الحرية والاختيار {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 38- 39] {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف: 25].
ونبيّن هنا بعض الأمور:
1- ثبت بالأدلة النقلية والعقلية أن الأنبياء (صلوات الله عليهم أجمعين) معصومون لا تصدر منهم الصغائر فضلاً عن الكبائر، ولا يصدر منهم الزلل سهواً ولا غفلة ولا جهلاً فضلاً عن العمد في كل أفعالهم وحالاتهم، لذا حمل مشهور العلماء قوله تعالى (وعصى)، (فأزلهما) على ترك الأولى والأرشد والأفضل له، وأنّ النهي في الآيات الكريمة محمول على التنزيه والإرشاد لما فيه مصلحة آدم وزوجه، وعليه فالمعصية هنا ليست بمعناها الاصطلاحي أي الذنب، وتكون توبة آدم من فعل المرجوح والمفضول وترك الراجح والأفضل.
2- لم تبيّن الآيات الكريمة ما هي هذه الشجرة التي نهى الله تعالى عنها لعدم مدخليتها في الغرض المراد من الآيات الكريمة، فلا داعي لإيراد الروايات التي تحدّدها خصوصاً وأن أكثرها ضعيفة السند.
وقيل: إنها كانت رمزاً ومظهراً للدنيا كما كانت تظهر الدنيا للمعصومين (عليهم السلام) على صورة امرأة حسناء في الحوادث المرويّة عن النبي (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام)، فالميل إليها والأكل منها من التعلق بالدنيا، الذي يوجب الشقاء والتعب والنكد (فتشقى) وهو ممنوع على خلفاء الله تعالى في أرضه.
وورد في بعض روايات التأويل عن الإمام العسكري (عليه السلام) أن المراد بها (شجرة العلم، فإنها لمحمد وآله خاصة دون غيرهم ولا يتناول منها بأمر الله إلا هم، قال تعالى {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35] تلتمسان بذلك درجة محمد وآل محمد (صلوات الله تعالى عليهم أجمعين) وفضلهم فإن الله تعالى خصّهم بهذه الدرجة دون غيرهم، وهي الشجرة التي من تناول منها بإذن الله أُلهِم علم الأولين والآخرين من غير تعلم، ومن تناول منها بغير إذن خاب عن مراده وعصى ربه) 4 وظلم نفسه لأنه حمّلها ما لا تطيق وادعى منزلة بغير حق وانكشفت له سوأته أي نقصه وعجزه عن بلوغ درجة أكمل الخلق (صلوات الله تعالى عليهم أجمعين).
3- ورد في أكثر من رواية في الكافي أن الله تعالى (نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة وشاء ذلك، ولو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت مشيئتهما مشيئة الله، وأمر أبراهيم أن يذبح إسماعيل ولم يشأ أن يذبحه، ولو شاء ذبحه لما غلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله تعالى) 5 فتعلقت مشيئة الله تعالى بهبوط آدم (عليه السلام) إلى الأرض، لأن دار الدنيا مع ما فيها من المشقة والعناء والألم إلا أنها دار التكامل والارتقاء، ولم ينل آدم مقام الاجتباء والاصطفاء إلا بعد هبوطه إلى الأرض، فالإنسان خلق ليمارس وظيفته في خلافة الله تعالى على الأرض، لكن عبر مراحل بدأت ببيان فضله ومنزلته بأمر السجود لآدم وإسكانه الجنة، ثم النهي عن الاقتراب من الشجرة والأكل منها حتى تبدو سوأتهما إذا ارتكبا المخالفة فيهبطا إلى الأرض، فمصلحة النهي في الجعل وليس المجعول كما يقال في المصطلح نظير الأمر بذبح إسماعيل (عليه السلام)، وفي رواية تفسير القمي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (فلمّا أسكنه اللّه الجنّة و أباحها له إلاّ الشّجرة لأنّ الله تعالى خلق خلقةً لا تبقى إلاّ بالأمر و النّهي و الغذاء و اللّباس و الإسكان و التّناكح. ولا يدرك ما ينفعه ممّا يضرّه إلاّ بالتّوقيف) 6 أي بالنص الشرعي والتعبد به والوقوف عليه.
4- في معنى (السوأة) قال الخليل: ((السوء: نعت لكل شيء رديء، وأساء فلان أي قبح صنعه، والسوأة كل عمل وأمر شائن، والسوأة فرج الرجل والمرأة)) وقال في وجه جمع (سوءات) في الآية ((لأن العرب إذا أرادوا شيئين من شيئين من خلقةٍ في نفس الشيء نحو القلب واليد، قالوا: قلوبهما – في قوله تعالى {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم : 4] - وأيديهما ونحو ذلك)) وقال الصاحب: ((السوء الاسم الجامع للآفات والداء)) وقال الراغب: ((السوء كل ما يغمّ الإنسان من الأمور الدنيوية والأخروية ومن الأحوال النفسية والبدنية والخارجية من فوات مال وجاه وفقد حميم)) وقال أبو هلال: ((الفرق بين السوء والقبيح: أن السوء مأخوذ من أنه يسوء النفس بما قربّه لها وقد يلتذ بالقبيح صاحبه كالزنا وشرب الخمر والغصب)) وقال ابن الأثير: ((السوأة في الأصل: الفرج، ثم نقل إلى كل ما يستحيا منه إذا ظهر من قول أو فعل)) وقال المصطفوي: ((السيء ما يكون غير مستحسن في ذاته، سواء كان في عمل أو موضوع أو حكم أو أمر قلبي أو معنوي أو غيرها))7 .
والخلاصة: أن إطلاق السوأة على الفرج لأنه مما يقبح إظهاره، وتوجب الهم والغم إذا أطلع عليها الناس.
وفي الآيات الكريمة دلالات وعبر:
1- أن فتنة الشيطان عظيمة فلا بد أن يكون الحذر والترقب بمستواها، وأن قدراته على الإغواء والإضلال ضخمة، فهو من أول لحظة لممارسته تهديده بإغواء بني آدم كان يمتلك كل هذه المعلومات عن طبيعة الإنسان وغرائزه وميوله وطرق إغوائه، قال تعالى {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27] والعدو غير المرئي تكون مواجهته صعبة جداً مع امتلاكه العدد والعدّة اللازمة لعمله، قال تعالى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} [الإسراء: 64] وفي الحديث الشريف (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)8 وقد نجح في إغراء أبينا آدم (عليه السلام) مع الإمكانيات العظيمة التي هيّأها الله تعالى له والتحذيرات الشديدة، فكيف بالناس اليوم وقد ازدادت خبرة إبليس وشياطينه وكثرت عدّتهم وعددهم وتعرفوا على مداخل الإنسان أكثر أعوذ بالله تعالى منه ومن شياطينه، لكن الذي يهوّن الخطب أنه ليس له سلطان إلا بالوسوسة وحديث النفس ولا يغتّر به إلا الذين دخلوا في ولايته ({إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27]، أما المؤمنون فهم داخلون في ولاية الله تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11].
2- بناءً على أن المنهي عنه أولاً وبالذات هو الأكل من الشجرة لذا ترتبت النتيجة وهي الهبوط إلى الأرض عليه، لكن النهي تعلق بالاقتراب من الشجرة، وهذا يعني أن المطلوب ليس تجنب نفس المعصية فقط بل كل ما يؤدي إليها ويغري بها من المقدمات وإن كانت جائزة، ولا يخدع الإنسان نفسه بأنه بعيد عن المعصية وأنه يستطيع مسك زمام نفسه ولا يقع فيها، فإن الشيطان سيجرّه إليها بعد ذلك، كمن يزعم أن محادثته على (الخاص) مع امرأة أجنبية هو لتعليمها المسائل الشرعية، أو مباحثة الدروس العلمية في الجامعة، أو مناقشة شؤون العمل، ولا يلبث أن يجدا نفسيهما قد وقعا في العلاقة المحرّمة وغيرها من الأمثلة التي ذكرناها في قبس سابق 9.
لذا حذّر المعصومون (عليهم السلام) من الاقتراب من المعصية كما ورد في الحديث الشريف: (إن لكل ملك حمى، وحمى الله محارمه، فمن رتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه) 10 ..
3- أن الله تعالى يريد بأوامره ونواهيه تحقيق السعادة والخير للإنسان، ولكن الإنسان يظلم نفسه فيختار حياة العناء والمشقة بمخالفته لما يريده الله تعالى وعدم التزامه بما عاهد الله تعالى عليه وإنه تبارك وتعالى لم ينهه عن شيء – كالأكل من الشجرة – إلا بعد أن أمّن حاجاته كلها من الحلال {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} [طه: 118] فارتكاب الأشياء المحرمة حينئذٍ فيه ظلم كبير {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}.
4- إن الله تعالى لم يتدخل لمنع إبليس من غواية آدم (عليه السلام) وجبره على عدم الوقوع في المخالفة لعدة فوائد:
أ- ليعرف آدم (عليه السلام) عدوه الحقيقي وليتعرف على طريقته في الخداع والمكر وأدوات عمله قبل النزول إلى الأرض ودخول ساحة الصراع الفعلية معه.
ب- ليتعلم ما يجب وما لا يجوز، وما ينبغي وما لا ينبغي عند نزوله إلى الأرض أما الجنة فهي ليست دار التكليف.
ت- ليرى بعين اليقين العاقبة الوخيمة لمعصية الله تعالى والخروج عن زي العبودية حيث يطرد من الجنة ويحرم السعادة ويبتلى بالشقاء.
ث- لتثبيت سنة الاختيار وأن الإنسان يقرر مصيره بإرادته لذلك فهو مسؤول عنه، وإن النهي عن الشجرة كان لاختبار الطاعة.
ج- عدم الاتكال على النفس والثقة المطلقة بحصانتها من الخطأ، والتجرد من العُجُب والكبر، ولا بدية الاعتصام بالله تعالى والتوكل عليه وطلب تأييده.
5- إن الأرض وما عليها من الحياة الدنيا هي دار التكامل ومزرعة الآخرة، فلا بد لمن يريد الكمال والمقام الرفيع عند الله تعالى أن يخوض التجربة فيها، وإن كان فيها مشقة وعناء فليصبر الإنسان على ما يلاقيه لهذا الغرض، أما الجنة فهي دار التنعّم بكرامة الله تعالى وليس فيها تكليف، لذا كانت الدنيا بما تتضمنه من طاعة الله تبارك وتعالى أحبَّ إلى أولياء الله من الجنة، روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: (الجلسة في الجامع خير لي من الجلسة في الجنة فان الجنة فيها رضا نفسي، والجامع فيه رضا ربي)11 .
6- على الإنسان أن لا يثق بوعود إبليس وتسويلاته التي تلائم شهوات النفس الأمارة بالسوء ولا يسترخي للأحلام الوردية التي يصورها له {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ} [الحديد: 14] {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [الأنفال: 48] بل لا بد أن ينظر في الأمور بالحكمة ودراسة العواقب.
7- إن إبليس وشياطينه من الجن والإنس ركزّوا في إغوائهم للناس على نزع لباس الستر والعفاف والحياء المادي بالتعري والكشف عمّا أوجب الله تعالى ستره، والمعنوي بارتكاب المعاصي وهتك لباس العفاف والحياء والورع {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26] ليحرمهم من جنة النّعيم والسعادة التي تتحقق بطاعة الله تعالى والحياة في رعايته ليسقط إنسانيتهم ويحوّلهم إلى حيوانات همها إشباع الغرائز وتلبية الشهوات التي لا تقف عند حد {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: 27].
إن أبرز سمات الفرد العاصي لله تعالى والمجتمع الجاهلي البعيد عن شريعة الله تعالى هو انكشاف السوأة بكل معانيها وفقدان العفّة، وقد بالغت المجتمعات الفاسقة في هذا المجال وتتسابق في كشف العورات ولم يتبقَّ لها ذرة من عفةٍ أو حياءٍ، وامتهنوا هذا الانحطاط وجعلوه سلعة لتمرير مشاريعهم الشيطانية، فهي حاضرة في الإعلانات التجارية وفي المسابقات الرياضية والفعاليات الفنية بل في سائر مظاهر الحياة.
وهم يتهمون المؤمنين بالتخلف وهم في الحقيقة أهل التخلف لأن العري كان سمة الأجيال الأولى من البشر غير المتحضّر قبل أن يتعلم أي شيء ثم لما رشد الإنسان اعتنى بالملابس للستر والتجمل والوقاية من الأضرار المتنوعة {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [النحل: 81].
وإذا أردنا أن نتقدم خطوة باتجاه تأويل الآية الذي أوردناه في الروايات، وأنَّ الأكل من الشجرة الموجب لانكشاف السوأة هو عدم مراعاة فروض الولاية لأهل البيت (عليهم السلام) الذين منهم يؤخذ الإسلام المحمدي الأصيل، فإن الولاية تؤدي إلى العفّة، والعفّة تؤدي إلى الولاية، وإن الشخص يحرم من نعمة الولاية بمقدار نقص العفاف عنده وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يدعو الناس إلى الالتزام بالعفاف ليلحقوا به قال (عليه السلام): (فأعينوني بورع واجتهاد وعفةٍ وسداد) 12 وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (إنما شيعة علي من عف بطنه وفرجه، واشتد جهاده، وعمل لخالقه، ورجا ثوابه، وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك فأولئك شيعة جعفر)13 وركّز دعاء الإمام الحجة (عليه السلام) في زمن الغيبة الكبرى على اتصاف النساء بها (وعلى النساء بالحياء والعفة)14 .
وأن مبغض أمير المؤمنين (عليه السلام) وناصب العداوة له متهم في طهارة مولده وبعيد عن السلوك العفيف، وتنطبق هذه النتيجة على ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (يا علي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا ثلاثة، ولد زنا ومنافق ومن حملت به أمه وهي حائض)15 وأحوال الذين أسسّوا النصب والعداء لأمير المؤمنين (عليه السلام) تثبت ذلك، وسعوا إلى غلق أبواب العفّة كالمنع من الزواج المؤقت ليقع الناس في الزنا، وليكثر المعادون لأمير المؤمنين (عليه السلام)، وهكذا كان قتلة16 الأنبياء (صلوات الله تعالى عليهم أجمعين).
وعندما وقف الإمام السجاد (عليه السلام) في مجلس يزيد وهو يعرَّف نفسه ومما قال (عليه السلام): (أنا ابن قليلات العيوب، نقيات الجيوب) 17 فإنه (عليه السلام) كان يعرّض بأعداء أهل البيت (عليهم السلام) الذين عُرِفوا بالفضائح والموبقات.
__________________________
1 - من درس التفسير الأسبوعي الذي يلقيه سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على طلبة البحث الخارج في مكتبة في النجف الأشرف يوم الأربعاء 3/جمادي الأولى/1446 الموافق 6/11/2024.
2- التفسير المنسوب للإمام العسكري: 221، البرهان: 1/142-143.
3- ورد في عدة روايات أنها أسماء النبي محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين (صلوات الله تعالى عليهم أجمعين) (البرهان: 1/153-158 11،10،6،5،2- 17 عن الكافي: 8/305 ذيل الحديث 472 وروى نحوه ابن المغازلي في المناقب: 63 ح89، الدر المنثور: 1/147، ينابيع المودة: 67 والعياشي: 1/41 ح28,27 والتفسير المنسوب للعسكري (عليه السلام): 224 ح105/ 106 وفي بعضها أن الكلمات (لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي وأنت خير الغافرين، لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سواء وظلمت نفسي فاغفر لي وارحمني وأنت أرحم الراحمين، لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم) (روضة الكافي: 304 ح472).
4- تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): 221، البرهان: 1/142 ح1.
5- الكافي: 1/117، ح3-4.
6- تفسير القمي: 1/43.
7- نقلناها عن مصادرها بواسطة (المعجم في فقه لغة القرآن: 36/356 وما بعدها).
8- بحار الأنوار: 6/18، الكافي: ج ٢ - ص ٤٤٠ بلفظ آخر: (عن أبي جعفر (عليهما السلام) قال: إن آدم (عليه السلام) قال: يا رب سلطت علي الشيطان وأجريته مني مجرى الدم).
9- راجع القبس 202 من نور القرآن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور: 21]: 6/181.
10- وسائل الشيعة: 27/167 ح33507 عن تفسير جوامع الجامع: 35.
11- بحار الأنوار: ج ٨٠ - ص ٣٦٢.
12- نهج البلاغة: ج ٣ - ص ٧٠ ، بحار الأنوار: ج ٤٠ - ص٣٤٠.
13- الكافي: 2/233 ح9.
14- مصابيح الجنان: 171 عن مصباح الكفعمي.
15- علل الشرائع: 58.
16- خذ مثلاً عاقر ناقة صالح، وقاتل النبي يحيى بن زكريا (صلوات الله عليهما) وعبد الرحمن بن ملجم قاتل أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد علاقة خائنة مع (قطام).
17- بحار الأنوار: ج ٤٣ - ص ٣٥٦.