القبس/214 (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً) النبأ: 9
القبس/214 (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً) النبأ: 9
كثيرة هي نعم الله تبارك وتعالى على العباد جلّت عن العد والإحصاء Pوَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَاO (إبراهيم: 34) (النحل: 18) وإن كثيراً منها مغفول عنها، يتنعّم بها الناس من دون التفات إليها؛ للجهل بها أو لاعتيادها، وقد يعرفونها ويدركون قيمتها لكنهم يجحدون المنعم والمسبب الحقيقي ويتشبثون بالأسباب المادية الظاهرة، ومنها نعمة([1]) النوم Pوَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراًO (الفرقان: 47) حيث تتعطل الكثير من الحواسّ والأعضاء عن وظائفها ويدخل الإنسان في حالة سبات أي حالة انقطاع عن العمل وتعطيل الحركة من أجل الراحة والاستجمام ويحصل بسببه تجديد النشاط، مما يعني أن حركةً ما تحصل خلال النوم حتى أن المريض يجد تحسّناً في حالته، وقد أفادت بعض المصادر العلمية بأن (الإنسان لا يستطيع الإدمان في الشغل وترك النوم لأكثر من عشرة أيام، ثم الموت قطعاً)([2]).
والآية الكريمة تقع ضمن سلسلة من الآيات تبدأ بقوله تعالى: Pأَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً، وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً، وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً، وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاًO (النبأ: 6-9) إلى آخر الآيات، فالسؤال ليس فقط لمجرد إلفات النظر إلى هذه النعم حتى يؤدي الإنسان حق شكرها، وإنما للاستدلال بهذه الآيات الكونية والأنفسية Pسَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌO (فصلت: 53) على عظمة الله وسعة رحمته وحكمته وقدرته على البعث والنشور بهذا الخلق في الحياة الدنيا Pفَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍO (الإسراء: 51) Pكَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَO (الأنبياء: 104) Pوَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌO (يس: 78-79)، ولِنَقلِ الإنسان إلى عوالم معنوية لا يدركها إلا من خلال هذا التأمل والتدبّر في آيات الله تعالى.
فالآية الكريمة تستنطق الفطرة وتستثير الضمير بهذه التساؤلات Pأَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً.. O وتُشهد العقل ليكون الإيمان بالله تعالى راسخاً لأنه عن وعي ومعرفة وتأمل، فإن هذه الآيات كافية للوصول إلى العقائد الحقة، Pوَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَO (الروم: 23) فكما أن الحركة والنشاط والسعي في الأرض من آيات الله تعالى، فإن السبات آية أخرى.
وإن في النوم والاستيقاظ بعده مثالاً يقرّب حالة الموت والبعث بعده لأن النوم موت مصغّر، قال تعالى: Pاللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَO (الزمر: 42) Pوَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَO (الأنعام: 60).
لذلك يذكّرنا أمير المؤمنين (A) بهذه النعمة وهو يدعو في كل صباح: (يا من أرقدني في مهاد أمنه وأمانه، وأيقظني إلى ما منحني به من مننه وإحسانه، وكفّ أكفّ السوء عني بيده وسلطانه)([3]).
ويدرك قيمة هذه النعمة المحتاج إليها أكثر من غيره كالذي حصل في معركة أحد للمسلمين المهزومين المثقلين بالقتل والجراح وتأنيب الضمير Pثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْO (آل عمران: 154)، وكذا قبيل معركة بدر حينما أرعبهم جيش المشركين بتفوقه في العدة والعدد قال تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُO (الأنفال: 11).
وقد لا يعرف الإنسان قيمة هذه النعمة حتى مع تذكيره بها لكنه إذا تصوَّر أنه كم مريض قضى ليلته وهو يتقلّب على فراشه من الألم، وكم من مسجون طال ليله وهو يعاني قسوة التعذيب بأيدي الجلادين، وكم من مهجّر أو مسافر زاده الليل اضطراباً وهو في وحشة الطريق ومفارقة الأهل والأوطان، وكم من خائف فاقدٍ للأمن والاستقرار يُرعبه الليل الثقيل حتى ظن أنه لا ينقضي، وكم من جندي يقاتل الأعداء لا يستطيع أن يطبق جفونه خوفاً من مباغتة العدو، وكم من شخص قضى ليلته هذه في قبره وحيداً فريداً تخلّى عنه الأهل والأحباب وبقي مرتهناً بعمله، وأنت معافى من ذلك كله تتمتع بنومة هادئة هنيئة، وتستيقظ معافى.
هذه الحالة التي يصفها دعاء الجوشن الصغير المروي عن الإمام الكاظم (A) وفيه قوله: (إلهي، وَكَم مِنْ عَبْدٍ أَمْسى وَأَصْبَحَ خائِفاً مَرْعُوباً مُشْفِقاً وَجِلاً هارِباً طَرِيداً مُنْجَحِراً فِي مَضِيقٍ وَمَخْبَأَةٍ مِنَ المَخابِيِ قَدْ ضاقَتْ عَلَيْهِ الأَرْضُ بِرُحْبِها، لا يَجِدُ حِيلَةً وَلا مَنْجى، وَلا مَأْوى، وَأَنا فِي أَمْنٍ وَطَمْأَنِينَةٍ وَعافِيَةٍ مِنْ ذلِكَ كُلِّهِ، فَلَكَ الحَمْدُ يا رَبِّ مِنْ مُقْتَدِرٍ لا يُغْلَبُ، وَذِي أَناةٍ لا يَعْجَلُ، صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَاجْعَلْنِي لِنَعْمائِكَ مِنَ الشَّاكِرِينَ، وَلآلآئِكَ مِنَ الذَّاكِرِينَ)([4])، وفي هذا الدعاء فقرات كثيرة تنتهي كلها بهذه الصلوات والشكر.
ويرتبط النوم بالليل Pأَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَO (النمل: 86)، وقد توصّل العلم الحديث إلى حقيقة أن النوم في الليل هو الذي يحقق الغرض التام من النوم للأعصاب وسائر الأعضاء الأخرى كتعزيز الجهاز المناعي وتنظيم السكّر وزيادة التركيز والحيوية والمحافظة على الوزن. لذلك فإن الذين يسهرون في الليل وينامون في النهار كالحراس الليليين أو العابثين([5]) بالأجهزة الإلكترونية لا يحصلون على نفس النتائج بغضّ النظر عن أهل المقام المحمود الذين Pكَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَO (الذاريات: 17) فإن لهم عالمهم الخاص، لذا يذكّرنا الله بهذه النعمة: Pقُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَO (القصص: 72).
فهل يحتاج المشككون في الخالق العظيم إلى أزيد من هذا؟
Pأَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَO (النحل: 72).
([1]) ونذكر هنا باختصار من فوائد النوم بحسب ما ورد في عدة مصادر علمية متخصصة فقالوا: إن الحصول على القدر الكافي من النوم له أهمية في المحافظة على قوة الجهاز المناعي، إذ وجدت الدراسات أن قلة النوم تجعل الإنسان أكثر عرضة للإصابة بالأمراض المختلفة كالانفلوانزا. وأنه يقلل خطر الإصابة بأمراض السكر والقلب والضغط والسمنة. وأنه يحسّن من إنتاجية الشخص وتركيزه في عمله. ويحافظ على كفاءة التواصل بين الخلايا العصبية ويطرد السموم المتراكمة في الدماغ خلال اليوم. ويقلل من التوتر العصبي ويقوّي الذاكرة ومراكز صنع القرار. يحسّن المزاج ويحافظ على التوازن العاطفي تجاه الحوادث.
([2]) الفرقان في تفسير القرآن: 29/ 296. النوم والإنامة (هيبنوتيزم: 12).
([3]) مفاتيح الجنان: 126، دعاء الصباح. بحار الأنوار: 84/ 339، عن كتاب الاختيار.
([4]) مفاتيح الجنان: 202، دعاء الجوشن الصغير. بحار الأنوار: 91/ 322-323.
([5]) ذكرت المصادر العلمية أن من أضرار السهر: تعب العقل فلا تعمل بكفاءةٍ، وتصبح الأخطاء في الأداء والدراسة والعمل أكثر شيوعاً. والشعور بالنعاس طوال النهار وفقدان النشاط والحيوية، العصبية والانفعال والعدوانية في التصرفات. والصداع المؤلم والمزعج. ونسيان المعلومات، حيث يعمل النوم على حفظ المعلومات التي يتلقاها الإنسان خلال يومه. والتأثير على عمل ونشاط القلب، فيؤدي السهر المتكرر إلى تقليل نشاطه.