القبس/203 {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} القصص: 25 - العفة والحياء يرفعان قيمة المرأة

| |عدد القراءات : 21
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

القبس/203 {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} القصص: 25 - العفة والحياء يرفعان قيمة المرأة

 

قال الله تبارك وتعالى {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ  * وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(القصص: 22-25).

 يقع هذا المقطع ضمن مجموعة من الآيات تتحدث عن فصل من فصول حياة النبي موسى كليم الله (صلوات الله وسلامه عليه) عندما هرب من مصر خائفاً يترقب بعد أن علم بأن فرعون وزبانيته يبحثون عنه لقتله بعد أن ذاع خبر قتله للقبطي المعتدي على مظلوم من بني إسرائيل، ‏فتوجه إلى مدين التي تقع قرب رأس خليج العقبة فراراً من ظلم فرعون لأنها كانت خارج سلطة الفراعنة.

وبعد مسيرة شاقة لعدّة أيام بلا زاد ولا راحلة ولا دليل يرشده إلى الطريق مع الخوف والحذر من ملاحقة جنود فرعون الطاغية وصل (A) إلى مدين وجلس يستريح ‏عند بئر ماء كان الناس يستخرجون منه لسقاية أغنامهم ‏ولحمله إلى دورهم، ولفت انتباهه وجود ‏امرأتين تنحتّا جانباً ويمنعان غنمهما من ورود الماء لكيلا يختلطا بالرجال الأجانب، فسألهما عن سبب عدم ‏تقدمهما لاستقاء الماء وقال {مَا خَطْبُكُمَا} ولم يُزد على ذلك في التكلم مع الأجنبية، والخطب يقال للأمر العظيم، وهذا يعني أنه استعظم في نفسه وهو الغيور الرحيم الحنون خروج المرأتين للسقي وعدم مساعدة الناس لهما خلافاً لما تقتضيه  المبادئ الإنسانية من تكريم المرأة فقالتا: ان طريقتنا عدم مزاحمة الرجال على الماء فننتظر حتى ينتهوا من استخراج الماء وسقي أغنامهم، وعللّتا خروجهما  بأنه ليس لنا من يقوم بهذا العمل وأبونا([1]) شيخ كبير لا يستطيع السقي وليس خروجنا لعين الماء تنزهاً أو عبثاً أو لملئ أوقات الفراغ، ولو لم يكن أبوهما ــ وهو النبي شعيب (A) ــ شيخاً كبيراً لما استنكف عن الخروج للعمل ورعي الأغنام ككثير من الأنبياء غيره.

فأعجب موسى (A) بعفاف المرأتين ‏وثارت غيرته عليهما وغضب من هؤلاء الناس اللذين لا يساعدون الضعيف ‏ولا يراعون الحرمات، فتقدّم نحو البئر و قام وحده باستخراج الماء فسقى أغنام المرأتين وزودهما بالماء وذهبتا، وآوى (A) إلى الظل ليستريح من حرارة الشمس مما يكشف أن هذه الرحلة الشاقة كانت في فصل حار، كما آوى إلى الظل المعنوي وهو فضل الله تعالى وكرمه، ولم ينتظر من المرأتين ولا من غيرهما جزاءاً ولا شكورا وإنما كان يعمل لوجه الله تعالى، {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ(القصص: 24) وأجمل طلبه إلى الخير مطلقاً ولم يذكر حاجته مفصلاً، هل هو الطعام ليسدَّ ([2]) رمقه؟ أم العمل ليضمن رزقاً من حلال وحياة كريمة؟ أم زوجة صالحة ليسعد معها؟ أم مزيد من القوة والقدرة على مساعدة الناس ونصرة المستضعفين؟ أم بسطة في العلم والحكمة؟ لأنه يعلم ان ما يختاره الله تعالى له خير مما يختاره هو لنفسه لأن ربَّه أرحم به وألطف وأشفق عليه من نفسه.

‏وما أسرع ما استجاب الله تبارك وتعالى حيث عادت إحدى البنتين بسرعة ـ بقرينة استعمال ‏الفاء وليس ‏ثم ـ تدعوه للقاء أبيهما الشيخ {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا(القصص: 25) .

مما يعطينا درساً في المسارعة الى مجازّاة المعروف والإحسان وإن تبرع به صاحبه.

وتصف الآية بشكل رائع عفاف المرأة إذ تمشي على استحياء ‏وذكر بصيغة نكرة ليُشعر بأنه أشدّ من الاستحياء المعروف لدى النساء بحسب ما تقتضيه طهارتها وعفتها وتجنبها لمحادثة الرجال الأجانب كما تجنبت ‏مزاحمتهم على الماء من قبل لكنها بنفس الوقت مشية المرأة القوية الواثقة بنفسها غير المضطربة ولا المتلجلجة التي تغري الطرف الآخر بضعفها، وأوصلت دعوة أبيها وليس دعوتها فالنساء لا توجّه الدعوة للرجال ولا العكس، وعبّرت عنها ببيان واضح مختصر ليس فيه فضول ولا خضوع وابتذال وتغنّج، وشعر موسى بصدقها وحسن استجابة الله تعالى له وهو غريب جائع منهك لا حول ولا قوة، وكان في نفسه اعتراض وتحفظ([3]) ـ كما يقال ـ على قولها ‏{لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} لأنه من كرام الخلق الذي لا يريدون من فعلهم الخير والأعمال الصالحة جزاءاً ولا شكورا وإنما يبتغون رضوان الله تعالى، والآية تخبر عن نبله وشهامته اذ تقول {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} (القصص: 24) أي لم ينتظر منهما أي جزاء، لكنه عرف ‏أن الشيخ الكبير رجل صالح فعلاً أبى أن يمر هذا ‏العمل بدون مكافأة جزاء وإن تطوع به صاحبه لتشجيع المجتمع على فعل الإحسان، واستطاعت البنت أن تعطي صورة عن إخلاق والدها ووجدت ‏في ذلك مبرراً لدعوة موسى (A) إلى دارهم.

‏ولأجل التمسك بهذا الشاب القوي الغيور العفيف والأسرة بحاجة إلى مثله للقيام بمسؤولياتها ولأنه لا يمكن أن يبقى ضيفاً إلى الأبد اقترحت البنت على أبيها أن يستأجره، معللة بحكمة استفادتها من أبيها الصالح {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ(القصص: 26) وعرفت قوته من إخراجه دلو الماء الكبير ـ أو رفع الصخرة كما في بعض الروايات ـ لوحده بينما يجتمع عدد من الرجال لإخراجه([4])، وعرفت أمانته من تقدمه في المشي على البنت حينما اخذته إلى والدها ولم يماشيها ولا جعلها تتقدم عليه خشية أن تظهر الريح معالم جسمها([5]).

وهاتان الصفتان أهم عناصر الإدارة الناجحة، فالقوي هو المتمكن من عمله الضابط له المحيط بتفاصيله بمهنية وحرفيّة ويمتلك الخبرة الكافية فيه، والأمين هو المخلص الذي يكون همّه رضا الله تعالى وخدمة الناس وحفظ المصالح العامة، فعلى المتصدين لإدارة أمور الناس أن يتصفوا بهاتين الصفتين، وعلى الأمة أن تتحقق من وجودهما في من ينتخبونه للسلطة والإدارة في جميع مواقعها.

‏فعرض الأب الشيخ الكبير على موسى (A) أن يزوّجه احدى ابنتيه والظاهر أنها المتحدثة وفي هذا درس للآباء أن لا يترددوا في عرض التزويج على الشاب المؤمن المهذب الذي يُكرّم المرأة، وجعل مهر زوجها أن يقوم بمسؤوليات الأسرة ثمان سنين، فإن أتمها عشراً فهو تبرع منه، ووافق موسى (A) وهكذا وجد موسى (A) بركة حركته البسيطة حينما ساعد المرأتين بما يصلح شاهداً للمثل الشعبي (الحركة بركة) ، وتحققت له مطالبه بتوكله المطلق على الله تعالى فهو من أول خروجه كان يقول {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} وببركة العفاف والأمانة والغيرة على حرمات الله تعالى ونصرة المستضعفين ـ ولو بعمل بسيط كسقي دلو ماء ـ حيث وجد الأمان والطمأنينة {لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(القصص: 25) والرزق المضمون (ثماني حجج) أي سنوات، مما يعني ان الحج كان شعيرة عالمية معروفة يومئذٍ، والسعادة والزوجة الصالحة {أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ(القصص: 27) بعد أن كان غريباً مطارداً خائفاً جائعاً وحيداً.

ووجدت البنت ببركة عفافها وحيائها وحكمتها السعادة وراحة البال وزوجاً صالحاً وراعياً أميناً لأسرتها حيث عاشت في ظل رسول كريم من أولي العزم.

وكان في هذا التدبير الإلهي لموسى (A) برعاية الأغنام تدريباً لموسى (A) على سياسة الناس ورعايتهم والحرص عليهم ومداراتهم كما حصل للأنبياء الآخرين (صلوات الله عليهم أجمعين).

وهنا لطيفة قرآنية ينبغي الالتفات إليها وهي تأثير الاتصاف بالخصال الكريمة في سمو مكانة الإنسان وعلّو مقامه وارتفاع قيمته، فإن هذه البنت اكتسبت بالعفة والحياء قيمة كبرى بحيث يكون مهرها أن يخدم النبي العظيم موسى (A) كليم الله أسرتها ثمان سنوات وهو تشريف عظيم بلا شك، وهكذا تزداد منزلة الإنسان عند الله تعالى وعند الناس بمقدار ما يتحلى به من الصفات الكريمة والسلوك الحسن، وقد لخصّ أمير المؤمنين (A) هذه الحقيقة بقوله (قيمة ‏كل امرئ ما يحسنه)([6]).

‏وقد أوضحنا في قبس سابق ان العفة لا تقتصر على السلوك تجاه الجنس الآخر بل تعم كل سلوك الإنسان كعفة اللسان واليد والرجل والعين والبطن بل والقلب أيضاً.

‏وهذه الحقيقة لم يلتفت إليها الأديب المشهور أبو العلاء المعري حين وجّه إشكالاً إلى الشريعة المقدسة بقوله:

يد بخمس مئين عسجد وُدِيَت
تناقض مالنا إلا السكوت له

 

ما بالها قطعت في ربع دينار
ونستعيذ بمولانا من النار

أي ان الشارع المقدس فرض دية اليد اذا قطعت بجناية هي خمسمائة دينار ذهبي يدفعها الجاني، فلماذا جعل الشارع المقدس حكم القطع عليها اذا ارتكبت سرقة لربع دينار من الذهب وهل هذا الا تناقض؟ وكان الجواب:

عز الأمانة أغلاها، وأر خَصَها

 

ذل الخيانة، فأفهم حكمة الباري([1])

وتصرح الأحاديث الشريفة بعظمة صفتي العفة والحياء وأثرهما في سعادة الإنسان وصلاحه ونجاحه في الدنيا والآخرة، وتقرن أحاديث أخرى بينهما كقول النبي (J) (إن الله يحب الحيي ‏المتعفف)([7]) وقول أمير المؤمنين (A) (على قدر الحياء تكون العفّة) وقال أمير المؤمنين (A) (العفة رأس كل خير) وعنه (A) قال (بالعفاف تزكو الأعمال) وقال الإمام الباقر (A) (ما عبد الله بشيء أفضل من عفة بطن وفرج) وقد تناولنا الموضوع مفصلاً في كلمات سابقة وجعلنا يوماً باسم العفاف في ذكرى ميلاد العقيلة زينب (B).

وورد في الحياء مثل ذلك كقول رسول الله (J) (الحياء لا يأتي إلا بخير)([8]) وقول أمير المؤمنين (A) (الحياء مفتاح كل خير) ويوصي الإمام الصادق (A) شيعته بقوله (عليكم بالحياء، والتنزه عما تنزّه عنه الصالحون قبلكم) ويوصي الإمام الكاظم (A) قائلاً (استحيوا من الله في سرائركم كما تستحيون من الناس في علانيتكم) بل عليه أن يستحي من نفسه وإن كان بعيداً عن الناس، قال أمير المؤمنين (A) (أحسن الحياء استحياءك من نفسك)، فقد يكون الانسان في خلوة من الناس ولا يفعل القبيح لأنه يستحيي من نفسه ويُنزهها عن مثله.

ولأهمية هاتين الخصلتين الكريمتين بالنسبة للنساء فقد أعطى الله تبارك وتعالى للنساء تأييداً إضافياً بهما، قال رسول الله (J) (الحياء عشرة أجزاء، فتسعة في النساء وواحد في الرجال) وفي ‏دعاء الإمام الحجة (A) في زمن الغيبة الذي أوّله (اللهم ارزقنا توفيق الطاعة وبُعدَ المعصية) ثم خصَّ فيه كل شريحة بوظيفتها الرئيسية في زمن الغيبة كالعلماء والآمراء والأغنياء والفقراء وبما يصلحها بلسان الطلب من الله تعالى ان يتفضل عليهم بتلك الخصّال إلى أن قال (A) (وعلى النساء بالحياء والعفّة).

نسأل الله تعالى ان يُحسِّنَ خُلُقنا بمحاسن الأخلاق كما حسَّن خَلْقَنا وجعلنا في أحسن تقويم أنه ولي النعم.

 



([1]) ورد في رواية صحيحة عن البزنطي عن الإمام الرضا (A) أنه شعيب النبي (الكافي: 5/414 ح 1) وتؤيده الأجواء الصالحة في الأسرة فلا وجه لتردد بعض المفسرين في ذلك.

([2]) كما في (نهج البلاغة: 2/57 رقم الخطبة:160) عن أمير المؤمنين (A) قال (والله ما سأله الا خبزاً يأكلها لأنه كان يأكل بقلة الأرض).

([3]) روى في (الدر المنثور: 5/125) انه لما دخل موسى (A) على شعيب وكان على العشاء فقال له: كُلّ، قال موسى (A): أعوذ بالله، قال: ولِمَ ألست جائعاً؟ قال: بلى ولكن أخاف أن يكون هذا عوضاً لما سقيت لهما وإنّا من أهل بيت لا نبتغي شيئاً من عمل الآخرة بملئ الأرض ذهبا! قال: لا والله ولكنها عادتي وعادة آبائي نقري الضيف ونطعم الطعام فجلس موسى (A) وأكل.

([4]) في (نور الثقلين: 4/120) عن تفسير القمي رواية عن الامام الباقر (A) وفيها أن الدلو يرفعه عشرة رجال.

([5]) في المجمع عن أمير المؤمنين (A) ان موسى (A) قال للمرأة: (امشي خلفي فأنا أكره أن تصيب الريح ثيابك فتصف لي جسدك) وروى في كتاب كمال الدين وتمام النعمة قريباً منه، وفي رواية أخرى عن الامام الرضا (A) (بحار الأنوار: 13/44).

 ([6]) نهج البلاغة، قصار الحكم: 81.

([7]) تجد هذه الأحاديث وغيرها في ميزان الحكمة للريشهري: 6/72-74

([8]) تجد هذه الأحاديث وغيرها في ميزان الحكمة للريشهري: 2/509