{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} - وجوب مودة أهل البيت (ع) على الأمة

| |عدد القراءات : 115
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]

وجوب مودة أهل البيت (عليهم السلام) على الأمة[1]

 

       قال الله تبارك و تعالى: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ* ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} [الشورى : 22-23].

       {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} يوم القيامة حينما تنصب موازين العدل وتعرض صحائف الأعمال تشاهد الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بفعل المعاصي خائفين وجلين من أعمالهم السيئة التي ارتكبوها وأضاعوا عمرهم فيها وسيتألمون[2] بها ومنها بعدما كانوا فرحين بها في الدنيا ويتبجحون بها، لكن هذا الخوف لا ينفعهم ولا يرفع عنهم العذاب لأنه جاء بعد فوات الأوان ولا أثر له فالعذاب واقع بهم لا محالة، ولو خافوا في الدنيا بنحو يردعهم عن فعل المعاصي لانتفعوا منه باكتساب التقوى واجتناب المعاصي.

       {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ} وفي مقابل ذلك تخبر الآية الكريمة عن نعيم عظيم وحياة طيبة هانئة سعيدة في أجمل مواقع الجنة تمنح للمؤمنين الذين يعملون الصالحات وتعرض الصورتان مقترنتين لتكون هذه المقارنة دافعاً للالتزام بالحق وسلوك طريق الصلاح، وهو أسلوب تربوي مؤثر من باب (ازجُر المُسِيءَ بثوابِ المُحسِنِ)[3] قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (فلو رميت ببصر قلبك نحو ما يوصف لك منها لعزفت نفسك عن بدائع ما أُخرج إلى الدنيا من شهواتها ولذاتها وزخارف مناظرها)[4].

       {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الشورى: 22] فلا حاجة إلى أن يقوموا بأية مقدمات أو أسباب للوصول إلى تحقيق رغباتهم كما في الدنيا وقد لا يتحقق لهم، أما في هذه الجنان فإن مجرد إرادتهم لشيء توجب حضوره عندهم وتحققه لهم ويزيدهم هناءً أنهم {عِنْدَ رَبِّهِمْ} {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57] وليس كما في الدنيا حيث كانوا يمتنعون عن بعض ما يشتهون لأنه حرام أو لعجزهم.

{ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} فإن هذا النعيم لا ينال إلا بفضل كبير من الله تعالى فهو الذي هداهم إلى الإيمان والعمل الصالح وحببه إليهم {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 72] بلا شك لأنه دائم طيب لا يكدّره شيء ومحفوف برضوان من الله تعالى، حيث لا يقاس به نعيم الدنيا الزائل المنغّص بعوارضها وأسقامها.

       {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشورى: 23] هذا الإخبار لزّف هذه البشرى إلى الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ووصفهم بأنهم عباده لتشريفهم بهذه الإضافة.

       {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} هذه الهداية العظيمة التي أفاضها الله تعالى على عباده وأوجبت لهم هذه النعم كانت بواسطة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأداءه للرسالة الإلهية، لم يطلب (صلى الله عليه وآله) عليه أجراً، لأن عمله خالص لله تبارك وتعالى، وكل ما يريده هو نفعهم وفوزهم وفلاحهم وسعادتهم رحمة بهم، فأجره (صلى الله عليه وآله) على الرسالة يعود عليهم {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [سبأ: 47] وما قيامه (صلى الله عليه وآله) بهذا العمل المضني إلا ليذكّر جميع الناس بمسؤولياتهم إزاء النعم العظيمة التي من َّ الله تعالى بها عليهم وما فيه كمالهم ورقيّهم {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: 90].

وهذا المبدأ عبَّر عنه جميع الأنبياء (صلوات الله تعالى عليهم) بوضوح، وحكاه الله تعالى في سورة الشعراء عن نوح وهود وصالح ولوط وشعيب فقالوا جميعاً بلسان واحد: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشورى: 109، 127، 145، 164، 180] لأنهم عباد مخلصون لله تعالى، وهكذا كان المعصومون من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً} [الإنسان: 9] وكان الأنبياء (عليهم السلام) بعد كل آية فيها عدم سؤال الأجر يقولون: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء: 108] أي أنهم لا يريدون من الناس شيئاً إلا أن يصبحوا مؤمنين صالحين مطيعين لله ورسوله، كالأستاذ الذي يجعل أجره على الطالب أن يجدّ ويجتهد في درسه.

لذلك يوبخ الله تعالى الذين لم يتّبعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يطيعوه بأنهم مم يخافون؟ وما هو سبب امتناعهم عن اتباع الرسول (صلى الله عليه وآله)؟ إذا كان لا يريد منهم أي جزاء على هدايتهم إلا ما يعود لهم {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} [الطور: 40].

       {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} والمودة هي المحبّة والميل إلى الشيء والملائمة معه والاطمئنان إليه، ومن الأسماء الحسنى {الْوَدُودُ} [البروج: 14] وهي صفة يمكن أن تكون بمعنى اسم الفاعل واسم المفعول لأنه تعالى يحب أولياءه وهم يحبّونه {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54].

       وقيل في الفرق بين الحب والودّ: ((أن الحب يكون فيما يوجبه ميل الطباع والحكمة معاً، والوداد من جهة ميل الطباع فقط، ألا ترى أنك تقول: أحبُّ الصلاة ولا تقول: أودّ الصلاة))[5].

       أقول: فكأن اختيار لفظ المودة من الآية أن الفطرة النقية والطبع السليم يقتضي محبة قربى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والميل إليهم لاجتماع صفات الجمال والكمال فيهم.

       والمودة لكي تكون صادقة لابد أن تكون عن معرفة، وهي لا تنال إلا بتوفيق إلهي {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم: 96].

       والمراد بالقربى: قربى الرسول (صلى الله عليه وآله) ولكن ليسوا كلهم كما فهم الصحابة وإنما مجموعة خاصة من قربى النبي (صلى الله عليه وآله) لقوله تعالى: {فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] الدالة على الظرفية لا أزيد فكأنها بمعنى (من التبعيضية) أي أن المودة فيهم وليس لهم جميعاً، إذ لم يقل: للقربى حتى يمكن إفادتها العموم، كما أن قوله (صلى الله عليه وآله): (الأئمة في قريش) لا تعني أن كل قريش أئمة بل إن الإمامة فيهم لا في غيرهم، بل قيل أن هيئة (فُعلى) تفيد وجود المبدأ فيكون معناها القرابة القريبة، كما أن النبي (صلى الله عليه وآله) لا يتحدث بصفته الشخصية حتى يراد بهم كل أقربائه النسبيين، وإنما بصفته نبياً مرسلاً بدين قيّم خالد، فقرباه هم المؤهلون لحمل الرسالة من بعده، وقد فهم الصحابة هذا المعنى لذا سألوا النبي (صلى الله عليه وآله) عنهم في الرواية الآتية إن شاء الله تعالى.

       ولعل اشتراط المودة لأن الحب هو المحرِّك لطاعة المحبوب ((إن المحب لمن أحبَّ مطيعُ))، وإلا فإن المطلوب ليس هو مجرد الحب، وإنما طاعة من أمر الله تعالى بمودتهم باعتبارهم السبيل إلى الله تبارك وتعالى.

       فاختصَّ النبي (صلى الله عليه وآله) من بين الأنبياء بهذا الاستثناء المتصل أو المنقطع، وهو طلب اشترطه على الأمة وهو المودة في القربى.

وهؤلاء القربى مخصوصون اختارهم الله تعالى لحمل الرسالة ومواصلتها واستمرار هداية الناس إلى الله تبارك وتعالى، فهذا الطلب ليس عاطفياً بهدف إثارة الشفقة نحو القربى لرعايتهم، وبه يُردّ الإشكال على هذا التفسير بأن طلب مودة القربى مما يوجب التهمة، فإنه لم يطلبه لنفسه وإنما أمره الله تعالى أن يقول ذلك {قُلْ}، فهو تخطيط إلهي لاستمرار القيادة الربانية بأقرب الناس إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) طهراً وسمواً ومكانة وعملاً ومنهجاً لحفظ الرسالة وديمومتها وإتقان أدائها.

وهذا الأجر يعود عليهم بالنفع {مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ: 47] وليس عوضاً حقيقياً على أداء الرسالة؛ لأن فيه ضماناً لاستمرار هدايتهم وصلاحهم وبه كمال الدين وتمام نعمة الإسلام كما في آية المائدة، لذا لا تتم الرسالة إلا به والتفريق بين النبي (صلى الله عليه وآله) وخلفائه الذين أمر بمودّتهم يؤدي إلى الضياع.

وقد وضحت آية الفرقان ذلك {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} [الفرقان: 57]، وكلا الآيتين تفيدان الحصر فلا بد أن يكون المراد واحداً وإلا حصل تناقض، فالقربى الذين أمر الله تعالى بمودتهم واتباعهم هم السبيل الموصل إلى الله تعالى.

       وقد استفاضت الروايات بل تواترت[6] من طرق الفريقين وهي تدل على أن المراد بالقربى في الآية الكريمة هم أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) الذين غطّاهم بكسائه وقرأ عليهم آية التطهير ولم يسمح حتى لزوجته الفاضلة العارفة أم سلمة أن تدخل معهم، وهم علي وفاطمة والحسن والحسين (صلوات الله عليهم أجمعين).

 منها ما رواه في الدر المنثور عن جمع والمحب الطبري وأحمد في مسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (لمّا نزلت {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قالوا: يا رسول الله، مَن قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال (صلى الله عليه وآله): علي وفاطمة وابناهما (صلوات الله عليهم أجمعين)[7].

وروى المحب الطبري أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (إن الله جعل أجري عليكم المودة في أهل بيتي وإني سائلكم غداً عنهم)[8].

وفي صحيحي مسلم والبخاري أن ابن عباس سُئل عن القربى في الآية فقال: (قربى آل محمد صلوات الله تعالى عليهم)[9].

وفي الدر المنثور: أخرج البخاري عن أبي بكر قال: راقبوا محمداً (صلى الله عليه وآله) في أهل بيته[10]، وأخرج عن أبي سعيد أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (من أبغضنا أهل البيت فهو منافق)[11] وأخرج أحمد وابن حبان والحاكم عن أبي سعيد قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا يبغضنا أحد ولا يحسدنا أحد إلا ذيد عن الحوض يوم القيامة بسياط من نار)[12].

أقول: لوضوح هذا المعنى وحقانيته فقد نظمه الشافعي في أبيات:

 

يَـا رَاكِـباً قِـفْ بِالْمُحَصَّبِ مِنْ مِنًى

 

واهْـتِـفْ بِـقَـاعِـدِ خَيْفِهَا وَالنَّاهِضِ

سَحَراً إِذَا فَاضَ الْحَجِيجُ إِلَى مِنىً

 

فَـيْـضـاً كملتطمِ الْفُرَاتِ الْفَائِضِ

إِنْ كَــانَ رَفْــضـاً حُـبُّ آلِ مُـحَـمَّـدٍ

 

فَـلْـيَـشْـهَـدِ الـثَّـقَـلَانِ أَنِّـي رَافِضِي[13]

       وقال الكميت الأسدي:

     وجدنا لكم في آل حاميم[14] آيةً

 

تأوّلها منّا تقيٌّ ومُعرِبُ[15].

       ومن جملة ما ورد عن طريقهم ما أخرجه محمد بن جرير بسنده في كتاب المناقب: (إن النبي (صلى الله عليه وآله) قال لعلي (عليه السلام): اخرج فناد : ألا من ظلم أجيراً أجرته فعليه لعنة الله، ألا ومن تولّى غير مواليه فعليه لعنة الله، ألا ومن سب أبويه فعليه لعنة الله، فنادى بذلك فدخل عمر وجماعة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقالوا: هل من تفسير لما نادى؟، قال: نعم إن الله يقول: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فمن ظلمنا فعليه لعنة الله، ويقول: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} ومن كنت مولاه فعلي مولاه، فمن والى غيره وغير ذريته فعليه لعنة الله، وأشهدكم أنا وعلي أبوا المؤمنين، فمن سبّ أحدنا فعليه لعنة الله، فلما خرجوا قال عمر: يا أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما أكد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي بغدير خم ولا غيره أشد من تأكيده في يومنا هذا، قال خبّاب بن الأرتّ: كان ذلك قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتسعة عشر يوماً)[16].

       أما الإمامية فقد اتفقوا على أن المراد بالقربى الذين تجب مودتهم هم أهل البيت (عليهم السلام) الذين طهرّهم الله تعالى ولهم في ذلك روايات كثيرة، روى البرقي في المحاسن بسنده عن محمد بن مسلم قال: (سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن الرجل يحب الرجل ويبغض ولده فأبى الله عز وجل إلا أن يجعل حبنا مفترضاً أخذه من أخذه، وتركه من تركه واجباً فقال: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}).[17]

ومما ورد في الزيارة الجامعة الكبيرة (وَبِمُوالاتِكُمْ تَمَّتِ الْكَلِمَةُ، وَعَظُمَتِ النِّعْمَةُ، وَائْتَلَفَتِ الْفُرْقَةُ، وَبِمُوالاتِكُمْ تُقْبَلُ الطّاعَةُ الْمُفْتَرَضَةُ، وَلَكُمُ الْمَوَدَّةُ الْواجِبَةُ، وَالدَّرَجاتُ الرَّفيعَةُ).

       أقول: يظهر من هذه الروايات أن أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) فهموا من الآية عدة دلالات:

أ‌-             وجوب مودة القربى حيث جعلت أجراً على الرسالة، فإن ثبوت الأجر يلزم منه وجوب الوفاء به، لذا قال الصحابة: ((مَن قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟)).

ب‌-      أن المراد ليس جميع أقرباء النبي (صلى الله عليه وآله) وإنما مخصوصون منه يكون لهم من المنزلة العظيمة ما تصلح مودتهم أن تكون أجراً للرسالة، وهم بذلك أفضل الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأكملهم وأحق بولاية الأمر بعده.

ت‌-      إن هذه المودّة من أعظم الواجبات الإلهية لكونها معادِلة للرسالة وقد عبّر حديث الثقلين عن هذه التوأمة والاقتران بحيث لا يصل الناس إلى الله تعالى إلا بالأخذ بهما معاً.

      ومما تقدم نعلم ضعف الأقوال الأخرى التي أوردها مفسرو العامة[18] وربما رووا عن ابن عباس معاني غير ما تقدم فنسبوا إليه قوله: ((كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله) قرابة من جميع قريش فلما كذبوه وأبوا أن يبايعوه، قال: يا قوم: إذا أبيتم أن تبايعوني فاحفظوا قرابتي منكم ولا يكون غيركم من العرب أولى بحفظي ونصرتي منكم))[19].

      وفيه: أن قريشاً كذّبت برسول الله (صلى الله عليه وآله) فكيف يطلب منهم أجراً وإنما يصح ذلك ممن آمن به، والدعوة الإسلامية ليست عصبية جاهلية ولا عشائرية ولا قومية ثم إن هذا المعنى مخالف لما عُرِف عن ابن عباس مما نقلناه وقد ردّ مفسرو العامة قبل الخاصة على هذه الأقوال، وذكر الرازي في تفسيره وجوهاً لكون المقصودين بالقربى هم أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) خاصة، ونقل عن صاحب الكشاف قول النبي (صلى الله عليه وآله): (مَن مات على حب آل محمد مات شهيداً، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفوراً له، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائباً، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمناً مستكمل الإيمان، ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ثم منكر ونكير، ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تُزَفُّ العروس إلى بيت زوجها، ألا ومن مات على حب آل محمد صلى الله عليه وآله فتح له في قبره بابان إلى الجنة، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة، ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله، ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافراً، ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة)[20].

      وقد عمل أعداء أهل البيت (عليهم السلام) والأمويون والعباسيون وغيرهم على تضليل الناس وصرفهم عن أهل البيت (عليهم السلام) وإنكار مناقبهم ومنها توسيع المراد إلى كل قربى الرسول (صلى الله عليه وآله) من قريش لإعطاء شرعية وقدسية لملكهم فتصدى الأئمة (عليهم السلام) لتكذيبهم، روى الشيخ الكليني بسنده عن إسماعيل بن عبد الخالق قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول لأبي جعفر الأحول وأنا أسمع: أتيتَ البصرة؟ فقال: نعم، قال: كيف رأيت مسارعة الناس إلى هذا الأمر ودخولهم فيه؟ قال: والله إنهم لقليل ولقد فعلوا وإن ذلك لقليل، فقال: عليك بالأحداث فإنهم أسرع إلى كل خير، ثم قال: ما يقول أهل البصرة في هذه الآية: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}؟ قلت: جعلت فداك إنهم يقولون: إنها لأقارب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال: كذبوا إنما نزلت فينا خاصة في أهل البيت في علي وفاطمة والحسن والحسين أصحاب الكساء عليهم السلام)[21].

      وروى البرقي في محاسنه بسنده عن حجاج الخشاب قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول لأبي جعفر الأحول ما يقول من عندكم في قول الله تبارك وتعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}؟ فقال: كان الحسن البصري يقول: في القربى من العرب، فقال أبو عبد الله عليه السلام لكني أقول لقريش الذين عندنا هاهنا خاصة، فيقولون: هي لنا ولكم عامة، فأقول: خبروني عن النبي صلى الله عليه وآله إذا نزلت به شديدة من خصّ بها؟ أليس إيانا خص بها حين أراد أن يلاعن أهل نجران أخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، ويوم بدر قال لعلي وحمزة وعبيدة بن الحارث، قال: فأبوا يقرون لي، أفلكم الحلو ولنا المرّ؟)[22]

      وفي ضوء هذا نفهم تفسير الإمام (عليه السلام) للجزء الأول من الآية 22 {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ}  [الشورى: 22] أنهم من ظلموا آل محمد (صلى الله عليه وآله) حقهم فهم خائفون مما ارتكبوا وعملوا من السيئات لكن ذلك الخوف لا يدفع عنهم العذاب فإن ما يخافونه واقع بهم[23] فإن الظالمين هم من أعرضوا عن دين الله تعالى وتركوا طاعة نبيه (صلى الله عليه وآله) وقد ورد في الحديث الشريف عن الإمام أبي جعفر (عليه السلام): (بني الإسلام على خمس: على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية)[24].

      فمن ضيّع الولاية فإنه لم يوفق إلى السبيل الموصل إلى الله تبارك وتعالى لأن أهل البيت (عليهم السلام) هم السبيل، وفي دعاء الندبة (ثُمَّ جَعَلْتَ اَجْرَ مُحَمَّدٍ صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ مَوَدَّتَهُمْ في كِتابِكَ فَقُلْتَ: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} وَقُلْتَ {ما سَألْتُكُمْ مِنْ أجْر فَهُوَلَكُمْ} وَقُلْتَ: {ما أَسْاَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أجْر إلاّ مَنْ شاءَ أنْ يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبيلاً}، فَكانُوا هُمُ السَّبيلَ إِلَيْكَ وَالْمَسْلَكَ إلى رِضْوانِكَ).

      وسوف يندم من لم يمضِ على منهج أهل البيت (عليهم السلام) حيث ورد في تفسير قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان: 27-29] أن السبيل مع الرسول هو علي بن أبي طالب[25] (عليه السلام)، فمن لم يتولاه يعضّ على يديه من الندامة لأنه تخلّف عن دخول الباب إلى مدينة علم رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب)[26].

{وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً} والاقتراف: الاكتساب، فمن يكتسب حسنة بفعل يرضي الله تبارك وتعالى فإن الله تعالى سيجزيه بأحسن منها بأن يجعل ثوابها دائماً طيباً جالباً للسعادة وسالماً من النقائص والمكدّرات {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 38]، روي أن الإمام الحسن السبط المجتبى (عليه السلام) خطب الناس حين قُتِل أبوه أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى أن قال: (وإنّا أهل بيت افترض الله مودتهم على كل مسلم حيث يقول: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرَاً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً} فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت)[27] وقد روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسيره قال: (الاقتراف: التسليم لنا، والصدق علينا وألّا يكذب علينا)[28]، وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (لا تستصغروا مودتنا فإنها من الباقيات الصالحات)[29].

      {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} يمحو السيئات ويشكر الفعل الحسن لصاحبه فيثيبه بأحسن منه، ومن مظاهر هذه الأحسنية محو السيئات وتبديلها إلى حسنات حتى لا يبقى ما ينغّص حياته الطيبة الهنيئة {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الأعراف: 43].

      ويعبّر الإمام الرضا (عليه السلام) عن ألمه من عدم وفاء الأمة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) بأجره، روى الشيخ الصدوق بسنده عن الريّان بن الصلت أن الإمام الرضا (عليه السلام) قال في إحدى مناظراته في مجلس المأمون بمرو: (فأنزل الله تعالى هذه الآية على نبيه {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أيها الناس (إن الله عز وجل قد فرض لي عليكم فرضاً فهل أنتم مؤدُّوه؟ فلم يجبه أحد، فقال: يا أيها الناس: إنه ليس بذهب ولا فضة ولا مأكول ولا مشروب، فقالوا: هاتِ إذن، فتلا عليهم هذه الآية، فقالوا: أما هذا فنعم، فما وفى فيها أكثرهم)[30].

      وفي مقابل هؤلاء فقد جاد الزمان بمؤمنين موالين ملئت قلوبهم بحبِّ أهل البيت (عليهم السلام) والاندفاع في مودتهم وطاعتهم والتضحية من أجل ترسيخ وجودهم ونشر مبادئهم وقدّموا التضحيات الجسيمة وفاءً لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وأداءً لأجره، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (لو أحبني جبل لتهافت)[31] وقال (عليه السلام): (من أحبَّنا أهل البيت فليعد للبلاء جلباباً)[32] وتوجد أمثلة سامية من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) والحسين (عليه السلام) حتى قال فيهم الشاعر:

لبسوا القلوب على الدروع وأقبلوا

يتهافتون على ذهاب الأنفس

       وهذا لا يتحقق إلا لدى المحبّين الولهين.

      وهكذا إلى زماننا المعاصر حيث بلغ عدد الشهداء والسجناء والمهجرين والمعذّبين الملايين من الرساليين والرساليات لا يسعنا إلا أن نقف لهم إجلالاً فبوركوا من ثابتين على العهد و {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد: 29].

      إن مما نظهر به مودتنا لأهل البيت (عليهم السلام) إقامة مجالس ذكرهم قال الإمام أبو عبد الله (عليه السلام): (إن ذكرنا من ذكر الله)[33] وإحياء شعائرهم ومن أهمها زيارة أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم الغدير عيد الله الأكبر ففي ذلك نصرة لحق أمير المؤمنين (عليه السلام) وخيبة لأعدائه وتثبيتاً على الصراط المستقيم.



[1] - الخطبة الأولى لصلاة عيد الأضحى المبارك للعام 1445 الموافق 17/6/2024.

[2] - لذلك استدل بالآية الكريمة على حضور الأعمال يوم القيامة –وعلى تعبير مؤيدي الفكرة كالسيد الطباطبائي: تجسّم الأعمال- وأنها بنفسها تكون جزاءً لصاحبها إذ لا حاجة إلى تقدير مضاف جزاء أو عقاب أو وبال ما كسبوا لأن الأصل عدم التقدير، وقد يقال بأننا لا نحتاج إلى التقدير لأن الآية ذكرت {مَّا كَسَبُوا} والكسب ليس نفس العمل وإنما ما يترتب عليه من جزاء وآثار ولعله الأنسب لقوله تعالى: {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِم} لا نفس العمل.

[3] - نهج البلاغة: الحكمة 174.

[4] - نهج البلاغة: خطبة 165.

[5] - الفروق اللغوية، لأبي هلال العسكري: 174، ط. مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة.

[6] - أحصى في (غاية المرام: 3/ 230 -244) في الباب الخامس سبعة عشر حديثاً من طرق العامة وفي الباب السادس اثنين وعشرين حديثاً من طرق الخاصة، وفي (تفسير الفرقان: 25/ 250) قائمة طويلة بمصادر العامة التي روت الحديث.

[7] - فضائل الصحابة لابن حنبل: 2/ 883، ح1141، ذخائر العقبى: 25، وفي تفسير الرازي وابن كثير والدر المنثور عند تفسير الآية ومجمع الزوائد لابن حجر :7/ 103 عند تفسير الآية و9/ 168 في كتاب المناقب، نور الأبصار للشبلنجي: 101، وشواهد التنزيل للحسكاني وغيرهم.

[8] - ذخائر العقبى: 25.

[9] - صحيح البخاري: 6/ 231، صحيح مسلم: ج5 عند تفسير الآية.

[10] - الدر المنثور: 7/ 349. وفي البخاري: (ارقبوا محمداً في أهل بيته).

[11] - الدر المنثور: 7/ 349.

[12] - الدر المنثور: 7/ 349.

[13] - الصواعق لابن حجر العسقلاني: ص79، حليه الأولياء لابي نعيم:9/ 152.

[14] - هي الآية {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23) والحواميم هي السور التي ابتدأت بقوله تعالى: {حم}.

[15] - التقي من عمل بالتقية، والمعرب من أظهر مذهبه علانية.

[16] - غاية المرام: ص 306، عن المناقب لأبن جرير: حاشية شواهد التنزيل للحسكاني: 2/ 196، ذيل الرقم 828.

[17] - المحاسن: ج ١ - ص ١٤٤.

[18] - عرضها وناقشها السيد الطباطبائي (رضوان الله تعالى عليه) في الميزان: 18/ 43-48.

[19] - الدر المنثور: 7/ 346.

[20] - الكشاف: 4/ 220-221، تفسير الرازي: 27/ 165-166، تفسير القرطبي: 8/ 5843، تفسير الثعلبي.

[21] - الكافي: 8/ 93 ح66، قرب الإسناد: 128 ح450.

[22] - تفسير نور الثقلين:4/ 571 ح63، محاسن البرقي: ج1/ ص144.

[23] - تفسير القمي: 2/ 274، البرهان: 8/ 299.

[24] - شرح أصول الكافي: - ج ٨ - ص ٦١.

[25] - راجع مجموعة الأحاديث في البرهان: 7/ 95.

[26] - بحار الأنوار: ج ٤٠ / ص ٢٠٣.

[27] - البرهان: 8/ 302 عن مجمع البيان: 9/ 44، مسترك الحاكم: 3/ 172، الصواعق المحرقة: 170، المحب الطبري في ذخائر العقبى: 138.

[28] - الكافي: 1/ 321، ح4.

[29] - بحار الأنوار: 47/ 340، نقلاً عن الاختصاص: 86.

[30] - البرهان: 8/ 303 عن عيون أخبار الرضا: 1/ 233 ح1 وعن قرب الإسناد 28.

[31] - نهج البلاغة: ج ٤ - ص ٢٦.

[32] - غرر الحكم: ٩٠٣٧.

[33] - الكافي: ج ٢ - ص ١٨٦.