{مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} - اعملوا لما عند الله تعالى

| |عدد القراءات : 308
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

{مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96]

أعملوا لما عند الله تعالى[1]

 

        قال الله تبارك وتعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 96].

        النفاد يعني الفناء وانتهاء الشيء، قال تعالى {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف: 109] {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27].

        فالآية الكريمة تقرّر حقيقة أساسية مهمة يجب الالتفات إليها واستحضارها دائماً والعمل على أساسها، وهي أن كل ما عندكم من أمور الدنيا وما تتعلقون به وتعملون من أجله وتتفاخرون به وتحرصون عليه وتتصارعون فيما بينكم للاستئثار به سواء كان مالاً أو سلطةً أو أعواناً أو جاهاً أو لقباً علمياً أو مقاماً اجتماعياً أو عشيرةً أو أبناءً أو غير ذلك فإنها تزول وتفنى وتبقى تبعاتها إن لم يوظّفها في الموضع الصحيح لها، روى علي بن إبراهيم في تفسير الآية ((أي ما عندكم من الأموال والنعمة يزول، وما عند الله مما تقدمونه من خير أو شر فهو باقٍ))[2] ورواه في الدر المنثور عن سعيد بن جبير[3].

        وفيها معنىً آخر أدقّ وهو: أن أي عمل لم يبتغِ وجه الله تعالى به وإنما عمله لنفسه رياءً أو طلباً للسمعة والجاه أو مجاملةً وتملقاً لأحدٍ بغير حق أو لأي غرض دنيوي فإنه داخل في عنوان {مَا عِنْدَكُمْ} وهو لا قيمة له ولا ينتفع به صاحبه وقد يضره {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23] أما الباقي الذي ينفع في الآخرة فهو ما ابتغى به وجه الله تعالى قال سبحانه {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى: 36] {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 17]، ويشير أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الفرق الشاسع بين ما عندكم وما عند الله في قوله: (شتان ما بين عملين: عمل تذهب لذّته وتبقى تبِعَته، وعمل تذهب مؤونته ويبقى أجره)[4].

        وينبغي الالتفات إلى شرط الوصول إلى ما عند الله تعالى وهي ولاية أهل البيت (عليهم السلام) فهم (باب الله الذي لا يؤتى إلا منه) وفي زيارة الجامعة الكبيرة (بكم تقبل الطاعة المفترضة، ولكم المودّة الواجبة) وهم المعين الذي لا نفاد له لاتصاله بالله تبارك وتعالى، فقد ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام): أنه سئل عن قوله تعالى {إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك: 30] فقال: (" ماؤكم " أبوابكم الأئمة (عليهم السلام)، والأئمة أبواب الله، " فمن يأتيكم بماء معين " أي يأتيكم بعلم الإمام) [5]، وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله عن المفضل: (قال لي ذات يوم وكان لا يكنيني قبل ذلك: يا أبا عبد الله قال: قلت: لبيك، قال: إن لنا في كل ليلة جمعة سرورا قلت زادك الله وما ذاك؟ قال: إذا كان ليلة الجمعة وافى رسول الله صلى الله عليه وآله العرش ووافى الأئمة عليهم السلام معه ووافينا معهم، فلا ترد أرواحنا إلى أبداننا إلا بعلم مستفاد، ولولا ذلك لأنفدنا)[6].

        وقد نهت الآية الكريمة السابقة على هذه عن ابتغاء غير الله تعالى فإنه قليل زائل مهما عظم في أعينكم، قال تعالى: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِندَ اللّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [النحل: 95]، ومجيء الآية محل البحث بعدها كالتعليل لها.

        وللآية تأثير عجيب في ردع النفس الأمّارة بالسوء، روى العلامة الطبرسي في سبب نزولها عن ابن عباس (أن رجلاً من حضرموت يقال له عبدان - الأشرع قال: يا رسول الله إن امرئ القيس الكندي جاورني في أرضى فاقتطع من أرضي فذهب بها مني والقوم يعلمون أني لصادق لكنه أكرم عليهم مني، فسأل رسول الله صلى الله عليه وآله امرئ القيس عنه، فقال: لا أدري ما يقول، فأمره أن يحلف، فقال عبدان: إنه فاجر لا يبالي أن يحلف، فقال: إن لم يكن لك شهود فخذ يمينه، فلما قام ليحلف أنظره فانصرفا فنزل قوله: ولا تشتروا بعهد الله الآيتان فلما قرأهما رسول الله صلى الله عليه وآله قال امرئ القيس: أمّا ما عندي فينفد وهو صادق فيما يقول، لقد اقتطعت أرضه ولم أدر كم هي فليأخذ من أرضي ما شاء ومثلها معها بما أكلت من ثمرها، فنزل فيه: من عمل صالحا الآية)[7].

 {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 96]: ترغيب في الأعمال الصالحة بالوعد الصادق المؤكّد بأن الله تعالى سيجزيهم على عملهم بأحسنه، ووصفهم بالذين صبروا لأن العمل لما عند الله تعالى والثبات عليه ومنع النفس من شهواتها واتباع أهوائها يتطلب صبراً طويلاً ومجاهدة مستمرة للنفس.

 وقد قسَّم الحديث الشريف الصبر إلى مراتب ثلاث وأعطى للصبر على الطاعة مرتبة سامية، ففي الحديث عن علي (عليه السلام) قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: الصبر ثلاثة: صبر عند المصيبة وصبر على الطاعة وصبر عن المعصية، فمن صبر على المصيبة حتى يردّها بحسن عزائها كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض، ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش، ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش)[8].

وتركيز الآية على وصف الصبر يؤكد محورية الصبر في الأعمال الصالحة والجزاء عليها {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، وهذا يعني أن كبح جماح النفس وضبط تصرفاتها في إطار ما يرضي الله تعالى ليس حرماناً ولا كبتاً كما يصوّر مروجو الفسق للمرأة بأن الحجاب تقييد وأن عدم إشباع الغرائز حرمان وكبت، بل إن هذا الانضباط متاجرة مع الله تعالى لنيل أحسن الجزاء.

وذكرنا في قبس سابق[9] عدة وجوه للأحسنية، إذ قد يراد بالأحسن الحسن فيجزي على الحسن الذي فعله دون السيئ، وقد تكون بمعنى أنه يكافئه على أساس أحسن الصور التي أتى بها عندما تكون أعماله متفاوتة الجودة فمنها حسن ومنها أحسن، كالأستاذ الذي يحتسب لطلابه الدرجة الأعلى في الامتحانات التي أدوّها، ويستفاد من بعض الأدعية المباركة معنى آخر وهو أن الجزاء على عمل ٍما قد يكون على طبق أفضل حالة للعمل صدرت من عباد الله الصالحين وهذا كرم لا يتصوره أحد.

وتضيف هذه الآية معنى آخر للأحسنية يستفاد من مقتضى المقابلة مع النفاد، وهو الخلود والأبدية كما في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص: 54]، فهنا الأحسن بمعنى دوام العطاء وبقائه، ولا شك أن العطاء يكون أهنأ عندما يدوم، ففرق بين من تعطيه مكافئة على خدمةٍ قدّمها لك، وبين من تخصّص له عطاءً شهرياً مستمراً جزاءً على تلك الخدمة، فمثل هذا الجزاء أحسن من الحسن.

والباء للمقابلة كقولك: (بعتُ هذا بهذا) فأحسن الجزاء عوض عن العمل الصالح الذي صبر على الإتيان به.

فالآية الكريمة ترشدنا إلى لابدية الإخلاص في العمل وقصد ما عند الله تعالى ليكون الجزاء حسناً هنيئاً دائماً لا يفنى، وبمقدار الإخلاص يكتسب العمل قيمته، وقد أكّدت آيات كريمة هذه الحقيقة الراسخة وكذا الأحاديث الشريفة، روى البرقي في المحاسن بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إن ربكم لرحيم، يشكر القليل، إن العبد ليصلي ركعتين يريد بهما وجه الله عز وجل، فيدخله الله بهما الجنة)[10] ورُوي عنه (عليه السلام) في التحذير من قصد غير الله تعالى في العمل قال: (قال الله عز وجل: أنا خير شريك، من أشرك معي غيري في عمله لم أقبله إلا ما كان لي خالصاً)[11].

ومضافاً إلى هذه العمومات فقد أشارت إليه الأحاديث في كل طاعة أيضاً كالجهاد مثلاً أو الهجرة فقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) قوله: (يا أيها الناس إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه)[12].

وجَاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: (يا رَسولَ اللَّهِ، ما القِتَالُ في سَبيلِ اللَّهِ؟ فإنَّ أحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَباً، ويُقَاتِلُ حَمِيَّةً، فَرَفَعَ إلَيْهِ رَأْسَهُ، قالَ: وما رَفَعَ إلَيْهِ رَأْسَهُ إلَّا أنَّه كانَ قَائِمًا، فَقالَ: مَن قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هي العُلْيَا، فَهو في سَبيلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ)[13].

وفي خصوص الحج - بمناسبة حلول موسمه - روى الشيخ الصدوق في ثواب الأعمال بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (الحج حجان: حجّ لله وحج للناس فمن حجَّ لله كان ثوابه على الله الجنة، ومن حجَّ للناس كان ثوابه على الناس يوم القيامة)[14] أي حجَّ رياءً أو للمباهاة أو تنافساً أو للسياحة والتنزه ونحو ذلك، وفيه أيضاً عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (من حجَّ يريد الله عز وجل لا يريد بها رياءً ولا سمعةً غفر الله له البتة)[15].

والإخلاص في العمل ليس دعوى مجردة وإنما يكتشفه الشخص بتعريض مشاعره ودوافعه للامتحان، مثلاً إذا امتعض لأنه بنى مسجداً ولم يكتب على بابه شيّده فلان، أو إذا رأى أنه لم يجلسوه في صدر المجلس وهو يرى أن له شأناً اجتماعياً، أو إذا خوطب بدون لفظ الجمع ولا أوصاف التعظيم نحو (سماحتكم)، أو إذا حسد زميلاً له في حلقة الدرس لأنه تفوق عليه وتحوَّل حسده إلى تسقيط وانتقاص وافتراء ونحو ذلك، فهذه كلها مظاهر عدم الإخلاص؛ لأن هذه المشاعر تعني أنه كان يريد بعلمه وعمله أن يكون له جاه وشأنية وتقدم وثناء ونحو ذلك، ولو كان عمله لله تعالى فإن الله يعلم بحقائق الأمور وأنه يفرح لكل عمل فيه نصرة للدين وإعلاء كلمة الله تعالى سواء صدر منه أو من غيره.

فمن الضروري أن يلتفت الإنسان إلى دوافعه ويختبر نيته في أي عمل يقوم به بأن يكون مبتغياً ما عند الله تعالى، وألّا يغفل فإن الغفلة تعطي الفرصة للنفس أن تتبع هواها فيكون عمله لمصالح دنيوية زائلة كاشتهار عنوانه الخاص أو بناء مجده أو رياءً أو مجاملةً، قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103-104].

ومن مظاهر إخلاص النية: -

1-  الهمة والنشاط في العمل الصالح والمبادرة إلى الخير وعدم الاكتفاء بإسقاط الفرض.

2-  سروره بوقوع العمل الصالح والإنجاز المثمر خارجاً على يد أي أحد ويثني عليه، ولا يرى الخير حكراً عليه فإما أن يقترن باسمه وإلا فلا.

3-  نكران الذات وإنصاف الناس من نفسه والتواضع وقول الحق وإن كان مخالفاً لهواه ونحو ذلك.



[1] - قبس قرآني من حديث سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) مع مرشدي قوافل الحج يوم الجمعة 1/ذي القعدة/1445 الموافق 10/5/2024 ومن درس التفسير الأسبوعي يوم الأربعاء 6/ذو القعدة/1445 الموافق 15/5/2024.

[2] - تفسير البرهان: 5/ 365 عن تفسير القمي: 1/ 389.

[3] - الدر المنثور: 5/ 163.

[4] - نهج البلاغة: قصار الكلمات، رقم (121).

[5] - تفسير القمي: ج ٢، ص ٣٧٩، س ١١، والتفصيل في كتاب من نور القرآن قبس 166: ج5/ص139.

[6] - الكافي: ج ١ / ص ٢٥٤.

[7] - مجمع البيان: 6/ 108.

[8] - الكافي: 2/ 91.

[9] - من نور القرآن: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] القبس 198 الجزء 6 ص 134.

[10] - وسائل الشيعة: 1 /61، أبواب مقدمة العبادات، باب 8، ح 8، عن المحاسن، للبرقي: 1/ 253، وفي من لا يحضره الفقيه، للشيخ الصدوق: 1/ 209) عنه (عليه السلام): (إياكم والكسل فإن ربكم رحيم، يشكر القليل، إن الرجل ليصلي الركعتين يريد.. الحديث).

[11] - وسائل الشيعة: 1/ 61، أبواب مقدمة العبادات، باب 8، ح 9.

[12] - ميزان الحكمة: ج ٤ / ص ٣٤١٤ عن كنز العمال: ح 7272.

[13] - صحيح البخاري: ص123.

[14] - وسائل الشيعة: 11/109، باب 40، ح1.

[15] - وسائل الشيعة: 11/109، باب 40، ح2.