{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ} - معالم التكامل في التشريع الإسلامي للمواريث

| |عدد القراءات : 112
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ} [النساء: 7]

معالم التكامل في التشريع الإسلامي للمواريث[1]

 

قال الله تبارك وتعالى {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} [النساء: 7].

        يراد بالرجال مطلق الذكر وإن كان صغيراً، وكذا النساء، والنصيب هو السهم والحصة، وما ترك: عامة لا تختص بأعيان المال فيشمل المنافع والحقوق المتعلقة بالمال كحق الخيار، أو بغيره كالقصاص، ومنه اشتق لفظ (التركة)، وفي ذكر الأقربين إيحاء بأن القرابة مناط الاستحقاق، أما التبنّي وأمثاله فلا يوجب استحقاقاً على عكس ما كان يفعله أهل الجاهلية.

والآية الكريمة تضع الإطار العام لاستحقاق الميراث وتنبّه إلى ظلم كان يقع على النساء في قوانين أهل الجاهلية بحرمانهن من الميراث وتقول بأن للنساء نصيباً كما للرجال، وقد وصفته الآية الكريمة بكونه {نصيباً مفروضاً} من الله تعالى والفريضة يجب الالتزام بها فأعطى أحكام الميراث قوة الفرائض الأخرى كالصلاة والصيام.

وقد تضمّنت سورة النساء التي تكفّلت ببناء المجتمع الإسلامي الصالح آيات عديدة تبيّن أحكام الإرث بأدق التفاصيل على غير المتعارف في أحكام الشريعة الأخرى كالصلاة والصوم والزكاة حيث اكتفت الآيات القرآنية غالباً ببيان الخطوط العريضة والحدود العامة، أما الإرث فقد تكفّل الله تعالى ببيان الاستحقاقات بالتفصيل مما يكشف عن اهتمام الشريعة العظيم بهذه الفريضة، روى العلامة الطبرسي عن ابن عباس أنه لما أنزل الله تعالى آية المواريث قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن الله لم يرض بملك مقرّب ولا نبي مرسل حتى تولّى قسم التركات وأعطى كل ذي حق حقّه)[2].

وهدّد تعالى في ذيل تلك الآيات من يتجاوز على أحكام الشريعة بالعذاب العظيم، قال تعالى {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء:13-14]، فليحذر القضاة في المحاكم الوضعية الذين يحكمون بما يخالف الشريعة، وكذا رؤساء العشائر الذين يلتزمون بما يعرف بينهم بالسنينة من دون الالتفات إلى الحكم الشرعي.

ولم يَكتفِ الشارع المقدس بتشريع القانون فقط وإنما حرص على تطبيقه والعمل به بكل الوسائل لضمان وصول الحقوق إلى أهلها خصوصاً الذين لا حول لهم ولا قوة، ففي صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا يستقيم أمر الناس على الفرائض والطلاق إلا بالسيف)[3]. والمواريث والطلاق من أهم أبواب قانون الأحوال الشخصية التي تقع فيها الخصومات ويكثر الاختلاف بين الحكم الشرعي والقانون الوضعي.

        وفي رواية يزيد الصائغ قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن النساء هل يرثن الرباع؟ فقال عليه السلام: لا ولكن يرثن قيمة البناء، قال: فقلت: فإن الناس لا يرضون بهذا، قال: فقال: إذا ولينا فلم يرض الناس بذلك ضربناهم بالسوط، فإن لم يستقيموا ضربناهم بالسيف)3.

أقول: في هذه الروايات وأمثالها إشعار بضرورة أن يكون لفقهاء الإسلام نفوذ وتأثير على السلطات الحاكمة بنحوٍ ما[4]؛ لإلزام تلك الحكومات بتمكين الناس من العمل بهذه التشريعات فإنها لم تنزل عبثاً ولا ليكتفى بتدريسها في الحوزات العلمية فقط، ولا لتعطّل وتوضع في زوايا النسيان إلى حين قيام دولة الإمام المهدي الموعود (عجل الله فرجه الشريف)، فلا بد من العمل على توفير فرصة تطبيق الحكم الشرعي لمن أراد مثل تأسيس المحاكم الشرعية إلى جنب المحاكم الوضعية أو تعيين قضاة شرعيين يرجع إليهم الناس وسنّ مواد في قانون الأحوال الشخصية موافقة للشريعة إلى جنب مواد القانون الوضعي ويترك الخيار للشخص في اختيار ما يشاء فكما أن الحرية مكفولة لمن أراد التحاكم إلى القانون الوضعي كذلك يجب أن تتوفر لمن يريد الالتزام بالحكم الشرعي {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42].

        وقد ذكرنا في مقدمة البحث الفقهي روايات عديدة تحثّ على تعلّم مسائل الميراث وأحكامه.

إن توريث المال ونحوه من تركة الميت إلى القريبين إليه بنسب أو سبب غريزة فطرية، لأن الإنسان يعتبرهم امتداداً لوجوده، وأنه باقٍ ببقائهم، والإيراث لغةً يعني بقاء الشيء كما في العين وقد ورد في النبوي الشريف (إنكم على إرث من أبيكم إبراهيم)[5] أي على بقية من شريعته الحنيفية، وفي الدعاء (ومتعني بسمعي وبصري واجعلهما الوارثين مني) أي الباقيين إلى حين وفاتي، فليس الميراث أكلاً بلا مقابل كما يزعم بعض المشككين.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) مشيراً إلى هذه الفطرة في كتابه إلى ولده الإمام الحسن (عليه السلام): (أما بعد فإني وجدتك بعضي بل وجدتك كلي حتى كأن شيئاً إذا أصابك أصابني وكأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي)[6] حتى أن من لا عقب له ولا قرابة يشعر أحياناً بعبثية كسب المال والتوسع في ملكيته لأنه لا يجد من يستحق الجهد والعناء ويحفظ له ذكره، وقد عالج الإسلام هذه الثقافة بمبدأ الباقيات الصالحات وليس هذا محل التفصيل.

وهذا التوريث بين الأقرباء مما يقتضيه العدل والإنصاف، لأنهم يتوارثون تكويناً الصفات الإيجابية والسلبية من خلال الجينات الموجودة في الكروموسومات فمقتضى الإنصاف توارثهم شرعاً وقانوناً سائر ما يتركه الميت على أساس القاعدة العقلائية (من كان له الغُنم فعليه الغُرم).

وقضية التوريث أيضاً ضرورة اجتماعية لأنها تتعلق بتوزيع المال على مستحقيه وهو من أعظم موارد النزاع والتخاصم لميل النفوس إليه وحرصهم عليه قال تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} [الفجر: 20] وقال تعالى {وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128] فلا بد من وضع القوانين التفصيلية التي تعطي لكل ذي حقٍ حقه، لهذا نجد قضية الميراث وتوزيع تركة الميت حاضرة في ثقافة وتشريعات المجتمع البشري خصوصاً الأمم المتمدنة فيه منذ فجر التاريخ كالسومريين والآشوريين والبابليين، كما ينقل المؤرخون عن ((قانون (أور-نمو) وقانون (لبت-عشتار) و (آشنونا) وقانون (حمورابي))[7].

وهكذا تجدها في قوانين المصريين والرومان والإغريق والفرس وهي وإن اختلفت في التفاصيل ألا أنها تكاد تجمع على أن مستحق الميراث هو (أولى الناس به) لكنهم اختلفوا في مصاديقه وجعلوا ضوابط مختلفة للأولوية بحسب ثقافتهم واهتمامهم بالأمور والتحديات التي تواجههم، وأوكلها بعضهم إلى رغبة صاحب المال نفسه، ففي القوانين القديمة[8]:- إذا مات رب الأسرة فله أن يفضّل أحد أبنائه على الباقين بنصيب إضافي، ويبدو منهم أنّهم يفضّلون الأولاد الذكور بحظّ أوفر على الإناث، والزوجة تشارك الأولاد ولها حظّ مساوي معهم. وإذا كان أحد أولاد الميّت لم يتزوّج بعد يضاف إلى حصّته ما يقابل المهر ليساوي بقيّة إخوته، وكذا إذا لم تتزوّج إحدى بناته فعلى إخوتها أن يقدّموا لها ما يعادل حصّتها ويزوّجوها حتى تتساوى مع بقية أخواتها.

أما الرومان فلما كان لرب الأسرة عندهم ولاية مطلقة على أفراد وأموال الأسرة ولا يملك غيره من أفراد الأسرة إلا بإذنه وإرادته فإنه إذا مات يرثه أحد أبنائه أو إخوانه ممن كان وارثاً لربوبيته، وأما النساء كالزوجة والبنت والأخت والأم فلم يكن يرثن لئلا ينتقل مال الأسرة بانتقالهن إلى أسرة أخرى بالزواج، ثم طرأت إصلاحات على هذا النظام باتخاذ القرابة قاعدة للميراث على ترتيب الطبقات.

أما اليونان فكانوا لانشغالهم بالحروب المستمرة يعتبرون أموال الأسرة جزءاً من الثروة العامة ورب العائلة المتصرف بهذه الأموال كوكيل عن الحكومة في إدارة الأموال، وكان للرجل حق اختيار من يخلفه في ماله ويقوم مقامه في رئاسة أسرته وأولاده، ولا بد أن يتماشى هذا الاستخلاف مع مصلحة الوطن وتوافقه القبيلة وترضى عنه، وله أن يؤثر بعض أبنائه على بعض في الميراث وليس له أن يحرم أحداً منهم حرماناً تاماً، وإذا لم يكن له وصية فإن القانون يقضي بمساواة جميع أبنائه في الميراث.

أما الفرس فكانت قوانينهم تراعي ثقافتهم في نظام الأسرة وحفظ أملاكها وشرف نسبها، وديانة الآباء والأجداد ونظام الإقطاع وتعدد الزوجات ونكاح المحارم وسيادة الزوجة الممتازة في البيت، فإذا لم يترك رب الأسرة ولداً رشيداً له هذه القدرة، فإن الزوجة الممتازة تتصرف في التركة بما يناسب هذه الاعتبارات، وكانوا يساوون بين الابن والبنت ما لم تتزوج، وكان من موانع الإرث عندهم خروج رب الأسرة عن دين آبائه، وعدم برّ الولد أباه.

        أما قدماء المصريين فقد كانوا مجتمعاً زراعياً والفراعنة هم مُلّاك الأراضي، والناس شركاء في منافع الأرض فإذا مات ربّ الأسرة حلّ محلّه أكبر الذكور في إدارة زراعة الأرض والانتفاع بها أما بقية الأموال من تركة ربّ الأسرة فجميع الأولاد ذكوراً وإناثاً فيها سواء عندهم، وكذا الزوج والزوجة يرث بعضهم بعضاً.

        أما اليهود فكانوا يعيشون كأقليات داخل المجتمعات ويتخذون من الأموال الضخمة سلاحاً لتحقيق طموحاتهم الاستكبارية فلذا كانوا يحرصون على جمعه وصيانته من التشتت، فكان لصاحب المال الحرية الكاملة في التصرف بالمال كيف يشاء بالهبة أو الوصية فله أن يوصي بماله كله لمن يشاء حتى لو كان أجنبياً ويحرم ذريته وأقاربه منه، واليهودي يرث الوثنيين ولا يرثونه، ويُحرَم من الإرث إذا ارتدّ عن دينه، وكذا من يضرب أباه أو أمه ضرباً دامياً فإنه لا يرثهما.

        أما العرب قبيل الإسلام فقد كان نظام القبيلة متحكماً فيهم وتنتشر فيهم الصراعات والحروب فكانوا يورثون على أساس النسب والولاء للعشيرة والتبنّي ويخصّون به الذكر البالغ القادر على حمل السلاح دفاعاً عن العشيرة ومصالحها وأما الصغار والنساء والضعاف فليس لهم حق في الميراث وإن كانوا أولاداً، ويعامل الابن بالتبني معاملة الابن النسبي ويقدّم عليه إذا توفرت فيه الشروط المذكورة دون الآخر.

        وفي ظل هذه الأنظمة التي فيها كثير من الاستئثار والظلم والحرمان والحيف منَّ الله تعالى على الناس بالبعثة النبوية المباركة ونزل القرآن الكريم ليبني الإنسان والمجتمع الصالحين ويؤسس لحياة كريمة مبنية على أساس العدالة الاجتماعية {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25].

        ولسان الآية الكريمة محل البحث ظاهر في الرد على هذه المظالم، ونقل العلامة الطبرسي ذلك عن جملة من المفسرين، وروي في سبب نزول الآية أن امرأة من الأنصار (قالت: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) توفي زوجي وتركني وابنته فلم نورث من ماله، فقال عم ولدها: يا رسول الله لا تركب فرساً ولا تنكأ عدواً ويكسب عليها ولا تكتسب، فنزلت {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} [النساء: 7])[9].

        ورووا عن ابن عباس قال: (لما نزلت آية الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين كرهها الناس أو بعضهم وقالوا: نعطي المرأة الربع أو الثمن، ونعطي الابنة النصف ونعطي الغلام الصغير وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ولا يحوز الغنيمة؟! وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية لا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم، ويعطونه الأكبر فالأكبر)[10]

        وهذا يكشف عن رسوخ هذه القيم الجاهلية في نفوس الصحابة حتى بعد نزول القرآن ومرور مدة طويلة على البعثة النبوية المباركة؛ لأن سورة النساء مدنية وآيات الميراث نزلت بعد معركة أُحُد في السنة الثالثة من الهجرة كما تشهد بعض الحوادث التي وردت الإشارة إليها في السورة، وقال السيوطي في تفسير آية ميراث الأولاد: أخرج أحمد وأبو داوود والترمذي وابن ماجة والحاكم والبيهقي وآخرون عن جابر قال: ((جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم فقالت يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في أحد شهيداً وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالاً ولا ينكحان إلا ولهما مال، فقال: يقضي الله في ذلك، فنزلت آية الميراث يوصيكم الله في أولادكم.. الآية، فأرسل رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم إلى عمهما فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي[11] فهو لك))[12].

        فالدين الإسلامي بما إنه تشريع من الله تعالى خالق الإنسان والعالم بما يصلحه في دنياه وآخرته لم يهمل هذه الغريزة الفطرية والضرورة الاجتماعية، ولم يترك الأمر إلى البشر ذوي العقول القاصرة والذين تتحكم فيهم الأهواء والمطامع والمصالح فسنّ قانوناً إلهياً متكاملاً لمصير ما يتركه الإنسان.

        ومن ملامح هذا التكامل:

1-            قيام القانون على مبدأ وعقيدة أن الله تعالى هو الوارث الحقيقي لكل المخلوقات لأنها تموت وتفنى وهو الباقي {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم: 40] وقال تعالى: {وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} [الحجر: 23] فلا بد أن يرجع الى الله تعالى في تحديد مصير مال الإنسان بعد وفاته، وهذا الأساس العقائدي من أهم ما يميّز التشريعات الإلهية عن الوضعية المستندة إلى أهواء البشر وتفكيرهم القاصر.

2-            إنه لم يبخس حق الميت واحترم إرادته في إنفاق ماله في أمور كان يحب أن يضع ماله فيها فجعل له حق الوصية بما لا يزيد عن ثلث التركة وتخرج قبل توزيع الميراث، وأبقى الثلثين لذويه استمراراً لمسؤوليته عن إعالتهم وتوفير مؤونتهم ولو سمح بالوصية بكل المال لضاع هؤلاء، نقل في الدر المنثور عن البخاري وأحمد ومسلم وأبي داوود والترمذي والنسائي وغيرهم عن سعد بن أبي وقاص (أنه مرض مرضاً أشفي منه، فأتاه النبي صلى الله عليه وآله يعوده، فقال: يا رسول الله إن لي مالاً كثيراً وليس يرثني إلا ابنة لي، أفأتصدّق بالثلثين؟ قال: لا، قال: فالشطر؟ قال: لا، قال: فالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير؟ إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)[13].

3-            مراعاة النزعة الفطرية والعدالة الاجتماعية فلاحظ في الاستحقاقات درجة القرابة والمسؤوليات المنوطة بكل وارث والمصالح العامة في تحريك عجلة الاقتصاد لما ذكرناه من أن منع الشخص من التصرف في ثروته بعد الموت يثبط عزيمته في العمل ولا يبقي له أملاً للمستقبل[14]، كما أن قانون الإرث يراعي توزيع الثروة بنحو عادل ومنع الاستئثار والاستبداد على نحو قوله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] فكفّل حق الفرد وحق الجماعة خلافاً للمبدأين الوضعيين المعمول بهما من العمل بأحدهما على حساب الآخر، والغرض هو تحقيق العدالة وليس من الضروري أن تتحقق العدالة بالمساواة إذ قد يلزم منها الظلم وفق العناصر الآنفة.

4-            تثبيت السهام بدقّة حتى لا يحصل خلاف وتنازع.

5-            حفظ حقوق الضعفاء كالنساء والأيتام، وقد أشرنا إلى حرمانهم في القوانين المعمول بها لدى الأمم يومئذٍ.

        وقد تعرض قانون الميراث في الإسلام إلى شبهات وشكوك أجاب بعضها الأئمة الطاهرون (عليهم السلام) كما أسهب المفسرون والمفكرون في ردّها لسنا بصدد الدخول في تفاصيلها، وأذكر رواية واحدة عن الإمام الرضا (عليه السلام) في علة إعطاء سهمين للولد وسهم للبنت بالرغم من أن هذا التفاضل في القسمة ليس مطّرداً إذ أن الرجال والنساء قد يأخذون بالسوية كالوالدين مع الولد لهما السدسان وككلالة الأم، بل إن الأنثى قد تأخذ أكثر من الذكر كأبوين مع الزوج فإن للأم الثلث وللأب السدس، قال (عليه السلام): (لأن المرأة إذا تزوجت أخذت والرجل يعطي فلذلك وفر على الرجال وعلة أخرى في إعطاء الذكر مثلي ما تعطى الأنثى لأن الأنثى في عيال الذكر إن احتاجت وعليه أن يعولها وعليه نفقتها، وليس على المرأة أن تعول الرجل ولا تؤخذ بنفقته إن احتاج، فوفر على الرجال لذلك وذلك قول الله عز وجل: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34])[15].

        قال السيد الطباطبائي (قدس سره) في توضيح هذه النكتة: ((إن الإسلام يرى اقتسام الثروة الموجودة في الدنيا بالثلث والثلثين، فللأنثى ثلث، وللذكر ثلثان، هذا من حيث التملك لكنه لا يرى نظير هذا الرأي في الصرف للحاجة، فإنه يرى نفقة الزوجة على الزوج ويأمر بالعدل المقتضي للتساوي في المصرف، ويعطي للمرأة استقلال الإرادة والعمل فيما تملكه من المال لا مداخلة للرجل فيه، وهذه الجهات الثلاث تنتج أن للمرأة أن تتصرف في ثلثي ثروة الدنيا (الثلث الذي تملكها ونصف الثلثين اللذين يملكهما الرجل) وليس في قبال تصرف الرجل إلا الثلث))[16].

 

 

 

 

 



[1] - قبس من نور القرآن ألقاه سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) في درس الأربعاء الأسبوعي يوم 15/شوال/1445 الموافق 24/4/2024.

[2] - مجمع البيان: ج 3، ص 18.

[3] و3 - وسائل الشيعة: ج 26، 69-70، أبواب موجبات الإرث، باب 3، ح 1، 2، 3، ط. أهل البيت (عليهم السلام).

[4]- شرحنا ذلك بالتفصيل في كتاب (فقه المشاركة في السلطة) والمجلد الثاني من كتاب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ضمن موسوعة فقه الخلاف: الجزء التاسع.

[5] - المهذب البارع، لابن فهد الحلي: ج 4، ص 325، ط. جماعة المدرسين، وروي في صحاح العامة عن يزيد بن شيبان قال: كنا وقوفاً بعرفة مكاناً بعيداً من الموقف فأتانا ابن مربع الأنصاري فقال: إني رسول رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم إليكم يقول: كونوا على مشاعركم فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم عليه السلام) (سنن النسائي: ج 5 باب رفع اليدين في الدعاء بعرفة ص 255).

[6] - مناقب آل أبي طالب: ج 3، ص 199.

[7]- موسوعة الفقه الإسلامي: ج 9، ص 14 عن المصادر المذكورة فيه.

[8] - تجد تفصيلاً أكثر عن هذه التشريعات في الميزان: ج 4، ص 229- 243، وفي موسوعة الفقه الإسلامي: ج9، ص 13-19.

[9] - الدر المنثور: ج ٢، ص 439، طبعة دار الفكر.

[10] - الدر المنثور: ج2، ص 445.

[11] - هذا مبني على ما يذهب إليه العامة من التعصيب فيمنحون الباقي إلى العصبة وهو باطل عندنا نحن الإمامية وأن الباقي يردّ على البنتين لدخول النقص عليهما حين العول.

[12]- الدر المنثور: ج ٢، ص 445.

[13] - الدر المنثور: ج 2، ص 452.

[14] - نقل في تفسير (الأمثل: ج 3، ص47) أن البرلمان الفرنسي ألغى قانون الإرث في فترة وقرّر نقل أموال الناس بعد موتهم إلى الخزينة العامة وعلى أثره شخّصوا تراجعاً كبيراً في الحركة الاقتصادية مما دفع الحكومة إلى إعادة النظر في القرار.

[15] - وسائل الشيعة: ج ٢٦، ص ٩٥. طبعة آل البيت عليهم السلام.

[16] - الميزان في تفسير القرآن: ج 4، 234-235)، ط. الأعلمي - بيروت.