{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ}
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ}[1] [البقرة: 125]
{البَيْتَ} هو المسجد الحرام {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] ويطلق على الكعبة الشريفة أيضاً {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة: 127] {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96] فهو إطلاق حقيقي، أو من باب إطلاق الكل على الجزء، أو من باب أن الكعبة هي منشأ تعظيم المسجد الحرام.
و{الناس} عام يشمل كل الناس، فجعلُ البيت الحرام مثابةً نعمةٌ عظمى منَّ الله تعالى بها على جميع الناس ليحصلوا على المكاسب التي سنشير إليها إن شاء الله تعالى.
والـ{مَثَابَةً} مصدر ميمي وأصلها (مَثْوَبة) على وزن مفعلة وقلبت الواو ألفاً، وهو الرجوع، من ثاب يثوب إذا رجع، ويسمى المنزل مثابة لأن صاحبه يعود إليه كلما خرج لعمل أو قضاء حاجة، ويقال ثاب إليه عقله أو أنه ثاب إلى رشده، والثواب: الجزاء الذي يرجع على المحسن من إحسانه، وعلى المسيء من إساءته، قال تعالى: {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين: 36] قال في المفردات ((لكن الأكثر المتعارف في الخير)).
قال الخليل: ((المثابة: الذي يثوب إليه الناس، كالبيت جعله الله تعالى مثابة، أي مجتمعاً بعد التفرق، وإن لم يكونوا تفرقوا من هناك فقد كانوا متفرقين))[2].
وقال الأزهري: ((وإن فلان لمثابة، أي يأتيه الناس للرغبة، ويرجعون إليه مرة بعد أخرى وفي حديث أم سلمة أنها قالت لعائشة حين أرادت الخروج إلى البصرة: إن عمود الدين لا يثاب بالنساء إن مال، أي لا يعاد إلى استوائه ونقل عن ابن الإعرابي قوله: المثاب: طيّ الحجارة يثوب بعضها على بعض من أعلاه إلى أسفله، يقال لأساس البيت: مثابات))[3].
وقال الجوهري: ((ثاب الناس: اجتمعوا وجاؤوا، وكذلك الماء إذا اجتمع في الحوض، ومثاب الحوض وسطه الذي يثوب إليه الماء إذا استفرغ، والهاء عوض عن الواو الذاهبة من عين الفعل، كما عوضوا في قولهم: أقام إقامة وأصله: إقواماً والمثابة: الموضع الذي يثاب إليه، أي يُرجَع إليه مرة بعد أخرى، ومنه قوله تعالى {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} [البقرة: 125]))[4].
وذكر الأخفش وجهاً آخر لإلحاق الهاء قال فيه: ((ألحقت الهاء في المثابة لما كثر من يثوب إليه كما يقول نسّابةً وسيارةً لمن يكثر ذلك منه))[5] وكأنه للمبالغة.
قال الصاحب: ((الإثابة: الإصلاح والتقويم، ومنه قول أم سلمة لعائشة: إن عمود الدين لا يثاب بالنساء))[6].
قال الراغب: ((قوله عز وجل {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً} قيل معناه مكاناً يكتب فيه الثواب)).
ومن هذه الأقوال والأنظار المختلفة يمكن تحصيل عدة معانٍ لجعل البيت الحرام مثابة للناس:
1- الرجوع إليه كلما صدروا عنه قال في تفسير القمي: ((المثابة: العود إليه)) وروى الشيخ الطوسي عن أبن عباس قوله: ((معناه أنه لا ينصرف عنه أحد وهو يرى أنه قد قضى منه وطراً، فهم يعودون إليه وهذا مروي عن الإمام الباقر عليه السلام))[7].
وهنا يثار سؤال عن وجه نسبة الفعل إلى الله تعالى مع أن الرجوع من فعل العبد، وجوابه لأن الله تعالى أمر به وألزم بالحج إليه كل عام، وقد دلّت بعض الروايات على حرمة خلو البيت من الناسكين ويجب إلزام الناس بقصده، حيث روى الكليني والصدوق في الكافي والفقيه بالإسناد عن الإمام الباقر (عليه السلام) في البيت الحرام قال (لو عطلوه سنة واحدة لم يناظروا)[8] ويصل الإلزام إلى حد إجبار عدد يتحقق بهم النُسُك، فقد روى المشايخ الثلاثة بأسانيد صحيحة عن الإمام الصادق قوله: (لو أنَّ الناس تركوا الحج لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك وعلى المقام عنده، ولو تركوا زيارة النبي (صلى الله عليه وآله) لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك وعلى المقام عنده، فإن لم يكن لهم أموال أنفق عليهم من بيت مال المسلمين)[9] ووردت عدة روايات في استحباب نية العود وكراهة نية عدم الرجوع[10].
وهذا الجواب على مستوى التشريع ويمكن فهم المثابة بمعنى الرجوع على مستوى التكوين بأن الله تعالى ألقى في قلوب المؤمنين ولهاً لزيارة بيته المعظم يكون دافعاً لهم ليقصدوه مرة بعد أخرى وقد ورد هذا المعنى في كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (وفرض عليكم حج بيته الحرام، الذي جعله قبلة للأنام، يرِدُونَه ورود الإنعام، ويألهون إليه ولوه الحَمَام)[11] مصداقاً لقوله تعالى {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37] الشاملة لديارهم ومحل نسكهم {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، روى المشايخ الثلاثة في أصولهم بالإسناد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث قال: (وإنما تؤتى مواضع آثارهم ويبلغوّنهم من بعيد السلام ويسمعونهم في مواضع آثارهم من قريب)[12].
2- إن المثابة من الرجوع أيضاً لكن بمعنى أنه محل رجوع الناس إلى الله تعالى وتوبتهم وتخلّصهم من ذنوبهم وقد ورد في تفسير قوله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}[13] (الذاريات: 50) أنه الحج، وروى في الكافي بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (قال علي بن الحسين (عليه السلام): الحاج مغفور له، وموجوب له الجنة، ومستأنف له العمل، ومحفوظ في أهله وماله)[14] وفي موثقة أبن فضال عن الإمام الرضا (عليه السلام) عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (ما يقف أحد على تلك الجبال بر ولا فاجر إلا استجاب الله له، فأما البر فيستجاب له في آخرته ودنياه، وأما الفاجر فيستجاب له في دنياه)[15].
3- ولا نغفل عن تأويل الآية الكريمة فإنها تعني الرجوع إلى أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) لما تقدم من أن رجل الذي يرجع إليه الناس ويترددون عليه يسمى مثابة، وقد أمر الخلق كلهم بالرجوع إلى أهل البيت (عليهم السلام) كما أمروا بالرجوع إلى القرآن في حديث الثقلين المشهور.
وقد ورد النص بهذا المعنى في كتاب الاحتجاج عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في احتجاجه على الخوارج إلى أن قال: (ولو ترك الناس الحج لم يكن البيت ليكفر بتركهم إياه، ولكن كانوا يكفرون بتركهم أياه، لأن الله قد نصبه لكم علماً، وكذلك نصبني علماً حيث قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ياعلي: أنت مني بمنزلة الكعبة تؤتى ولا تأتي)[16].
وقد دلت الروايات على أن من تمام الحج، زيارة مراقد النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة الأطهار (عليهم السلام) وملاقاة إمام الوقت والأخذ منه، روى الشيخ الصدوق بسند صحيح عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (إنما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها، ثم يأتونا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرهم)[17].
ورى الكليني والصدوق عن أبي جعفر (عليه السلام) قوله: (أبدأوا بمكة وأختموا بنا)[18].
وتقدّم في رواية سابقة أن الناس إذا تركوا زيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله) فإن من وظائف الوالي إجبارهم على ذلك والإنفاق من بيت المال لمؤونتهم.
4- إن الله تعالى جعله محلاً لتحصيل الثواب والقرب من الله تعالى، ولا شك أن قصد البيت الحرام في الحج والعمرة من أعظم الطاعات، ففي صحيحة عمر بن يزيد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في الحج قال: (ما يعدله شيء، والدرهم في الحج أفضل من ألفي ألف فيما سواه في سبيل الله)[19] وفي صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: (ودّ من في القبور لو أنَّ له حجة واحدة بالدنيا وما فيها)[20].
5- أنه محل اجتماع الناس في الحج والعمرة بعد تفرقهم في البلدان وتعدد طوائفهم وأيديولوجياتهم، ولا شك أن من أهم أغراض الحج هو توحيد المسلمين وتلاقيهم وتحاورهم وتذويب خلافاتهم، وأن هذه الوحدة بين المسلمين تتحقق في الحج بنحو لا يرتقي إليه أي سبب آخر {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [الحج: 28].
6- على القول بأن المثابة بمعنى الأساس، فإن البيت الحرام هو أساس الدين وبه يحفظ التوحيد، وهذا المعنى صحيح، ولذا أحيط البيت الحرام بقدسية وتعظيم لأن به تحفظ بيضة الدين روى الكليني في الكافي والصدوق في الفقيه بالإسناد عن الصادق (عليه السلام) قال: (لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة)[21]، ولذلك تجد أعداء الإسلام المحمدي الأصيل من نفس المتسمين بالإسلام أو من خصومه يدأبون على انتهاك حرمته وتدنيس قدسيته والحط من كرامته لأنه الباب الذي يلجؤون منه للقضاء على الدين من لدن الأمويين بأفعالهم المنكرة[22] إلى يومنا هذا.
7- إن المثابة من الإصلاح والتقويم وهذه إحدى وظائف البيت الحرام فإن المسلمين مهما ابتعدوا عن إسلامهم وغرّتهم الدنيا وشغلتهم، فإن الحج يرجعهم إلى الله تعالى ويصلحهم ويقِّوم سلوكهم، وإن البيت الحرام يوقظهم ويعيدهم إلى رشدهم، وينبههم من غفلتهم، ويثير فيهم الشعور بمسؤولياتهم أمام الله تعالى وأنفسهم والناس أجمعين.
8- أنه محل للاستقرار والسكينة والأمن كما أن ذلك يتحقق في المنزل الذي قلنا إنه يسمى مثابة، وقد صرحت الآية الكريمة بذلك {مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125]، فإليه يلجأ الناس ليبددوا مخاوفهم ويعالجوا قلقهم وتحصيل مرادهم.
9- إنه محل امتلائهم عزة وكرامة واستقائهم من معين الله تعالى الصافي، فإن الدعوة الإسلامية انطلقت من البيت الحرام وكان مهبط الوحي والتنزيل، وإليه يرجع الناس في كل ما يهمهم من أمر الدنيا والآخرة كما تقدم تطبيقه على الحوض، وهذا المعنى محرز وإن المسلم ليمتلئ نشوةً وشموخاً بمنظر الحج ومناسكه خصوصاً مع حضور إمامهم وحجة الله على الخلق أجمعين، حيث روى الشيخ الصدوق في إكمال الدين بسنده عن عبيد بن زراره، قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: يفقد الناس إمامهم فيشهد الموسم فيراهم ولا يرونه)[23] وروى مثله عن السفير الثاني محمد بن عثمان العمري (عليه السلام) وفيه أنه (عليه السلام) يحضر في كل سنة.
10- إنه الجهة التي يرجعون إليها في صلواتهم ويستقبلونها في سائر عباداتهم وجوباً واستحباباً حتى في حال احتضارهم ودفنهم فإن التوجه إلى الكعبة حاضر في أحكامهم، كما يستحب هذا الاستقبال في شؤون حياتهم الأخرى.
[1] - قبس قرآني من دروس التفسير الأسبوعية، ألقي يوم الأربعاء 29/شوال/1445 الموافق 8/5/2024.
[2] - العين:8/246.
[3] - تهذيب اللغة:15/152.
[4] - الصحاح: 1/94.
[5] - المعجم السابق: 8/699 عن معاني القرآن للأخفش: 1/335.
[6]- المعجم في فقه لغة القرآن وسر بلاغته: 8/691 تأليف وتحقيق مجمع البحوث الإسلامية عن المحيط في اللغة للصاحب: 10/188.
[7] - التبيان:1/451.
[8] - وسائل الشيعة: 11/21 أبواب وجوب الحج وشرائطه باب 4 ح3.
[9] - الوسائل:11/24 ح2.
[10] - الوسائل: 11/150 باب 57.
[11] - نهج البلاغة: الخطبة الأولى، يألهون إليه أي يلوذون به ويعكفون عليه.
[12] - وسائل الشيعة:14/323، عن الفقيه والكافي والتهذيب.
[13] - راجع هذا القبس في تفسير (من نور القرآن: 5 / 14- 21).
[14] - الكافي:4/252 ح1، وسائل الشيعة:11/9 باب1 ح7.
[15] - الكافي:4/262 ح38، وسائل الشيعة:11/160 باب 62.
[16] - وسائل الشيعة: 11/32 عن الاحتجاج:188.
[17] - وسائل الشيعة:14/321، ح1.
[18] - وسائل الشيعة:14/321، ح2.
[19] - الوسائل:11/111 باب 43 ح3.
[20] - الوسائل: 11/110 باب 41 ح1.
[21] - وسائل الشيعة: 11/21 أبواب وجوب الحج وشرائطه باب4، ح5.
[22] - كنشر الفسوق والمجون في أرجاء مكة وضرب المسجد الحرام بالمنجنيق وحرق الكعبة.
[23] - إكمال الدين:44 ح7.