{وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ} - سورة الفجر والإمام الحسين (ع)
{وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1-2]
سورة الفجر والإمام الحسين (عليه السلام)[1]
روى الشيخ الطبرسي في فضل سورة الفجر عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (ومن قرأها في ليالٍ عشر، غفر الله له، ومن قرأها سائر الأيام، كانت له نوراً يوم القيامة)[2].
الفجر لغةّ ((شق الشيء شقاً واسعاً)) كما في المفردات وأضاف إليه في التحقيق: ((انشقاق مع ظهور شيء)) وهو أقرب قال تعالى: {وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا} [القمر: 12] أي شققنا الأرض عن عيون ماء وقوله تعالى: {فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} [البقرة: 60]، ولذا سُمّي الوقت الذي يسبق طلوع الشمس بالفجر لأن ضياءها الأول المعروف عند العرب بعمود الصبح يشق ظلمة الليل ويتسع النور حتى يملأ السماء، وإن كان التوصيف بالعمود يشير إلى الفجر الكاذب الذي لا يكون معتبراً شرعاً فإنه يبرز كالعمود ويشبهونه بذنب السرحان أي الذئب، وإنما الفجر الصادق الذي يليه هو المعتبر وهو ضوءٌ مستعرض يزحف نحو السماء كالغطاء، وأُطلِق الفجور على فعل القبائح كما في قوله تعالى: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 14] وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين: 7] وذلك لأن فاعلها يشق ستر العفاف والحياء والدين والحكمة والاعتدال ويخرج بما يخالف ذلك كله.
وقال في مجمع البحرين: أن ((أصله المفارقة، ومنه تفجير الأنهار وهو مفارقة أحد الجانبين الآخر)) ولعله من لوازم ما ذكرناه.
فتبدأ السورة بالقسم بالفجر، والقسم يشد الانتباه ويستحضر القلب ويفرّغ الذهن لما يقسم به، وقد ورد القسم بأوقات أخرى في القرآن الكريم كقوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر: 34]، {وَالضُّحَى} [الضحى: 1]، {وَالنَّهَارِ} [الشمس: 3]، {وَالْعَصْرِ} [العصر: 1]، {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17] لخصوصيات في هذه الأزمنة تقتضي تعظيمها وتشريفها تُذكَر في مواضعها أو لنكتة عامة وهي التأكيد على عظمة الوقت وضرورة استثماره في ما ينفع، وقد تكرر القسم بالفجر ومرادفه وهو الصبح كما في قوله تعالى {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 18] وكأن الليل كان جاثماً على صدره حتى إذا أرسلت الشمس أول ضوء لها عند الفجر تنفس الصبح، وقوله تعالى {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر: 34] فمع أول ضياء للشمس يسفر الصبح عن كيانه الجميل بعد أن كان محجوباً بالليل.
وتكرار القسم بالفجر والصبح لعظمة الفجر في كونه بداية يوم جديد ينهض فيه الإنسان نشيطاً بعد أن استراح بالنوم ليضيف إلى رصيده أعمالاً توجب السعادة والفلاح، وإن فترة ما بين الطلوعين لها تأثير كبير في جلب البركة والرحمة والتوفيق لذا أكّد الشارع المقدس على ذكر الله تعالى وأوجب صلاة الصبح فيها قال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} [ق : 39] [طه: 130] وقال تعالى {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه: 130] وقال تعالى {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] كما تكرر القسم بالليل أيضاً ولعله لأثر القيام فيه في تحصيل الكمالات الروحية قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء: 79]، وروى الشيخ الطوسي بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إن الله تعالى يقول: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء: 78] يعني صلاة الفجر تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، فإذا صلّى العبد صلاة الصبح مع طلوع الفجر أثبتت له مرتين، تثبته ملائكة الليل وملائكة النهار)[3].
والظاهر أن المراد بالفجر الظاهرة التكوينية المعروفة الممتدة من ظهور الفجر الصادق الذي تجب فيه الصلاة والإمساك للصائمين وهو ابتداء اليوم عند جمع من العلماء إلى شروق الشمس وهي من آيات الله تعالى التي تجري بدقة متناهية لكننا لا نلتفت إليها لاعتيادها، كما يراد بالليل الظاهرة الكونية المعروفة.
وقد يراد بالفجر والليل الأمور المعنوية مادام معناهما محفوظاً فيها، فيوم المبعث النبوي الشريف وابتداء نزول القرآن هو أعظم فجر بزغ على البشرية حيث انجلت بصبحه ظلمات الجاهلية، ويوم عاشوراء فجرٌ عظيم آخر أعاد الحياة للبعثة النبوية من جديد، وفجر يوم العاشر من ذي الحجة بداية لحياة نورانية سامية، وهكذا. وفي مقابلها فإن الليل كل ظلام يحجب نور الإيمان والسعادة والكرامة والسمو والفضيلة كالجهل والشرك والكفر والعصبية والأنانية والفقر والتخلف ونحو ذلك.
كما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: (الفجر هو القائم والليالي العشر الأئمة من الحسن إلى الحسن ...، والليل إذا يسر هي دولة حبتر التي تسري إلى دولة القائم)[4] فالليل كناية عن قضاء الأئمة العشرة بعد أمير المؤمنين (عليه السلام) حياتهم تحت وطأة دول الظَلَمَة التي ملأت الأرض ظلماً وجوراً وفساداً وضلالاً وانحرافاً، والفجر هو انفلاق نور التوحيد والاستقامة والكرامة والحكم العادل والدولة الكريمة.
والليالي العشر مباركة ذات أهمية استحقت القسم بها، وهي قد تكون معينة في علم الله تعالى لكن المولى أبهمها، لتتعدد الاحتمالات في أذهان المتلقّين ويتوسعوا في المصاديق فيزدادوا من الطاعات، وفق مصطلح (الإيهام الإثباتي) الذي ابتكره السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) بحسب ما أعلم، وقد تكون عشرات متعددة، وقد تعددت التفاسير[5] للّيالي العشرة بين العشرة الأولى من ذي الحجة التي تتضمن فجر العاشر، أو العشرة الأولى من محرم إلى يوم عاشوراء، أو العشر الأواخر من شهر رمضان التي تتضمن ليلة القدر، وكلها مقبولة بقرينة تنكير {لَيَالٍ} لإفادة التعميم والتعظيم معاً؛ لذا كان أهل المعرفة يعظمون هذه العشرات والليال المخصوصة فيها، فكل واحدة من هذه العشرات تنفجر عن صبح جديد يُزيل ظلمات النفس الأمّارة بالسوء ويُطهر القلب من أدرانه ويبعث الحياة في النفوس التي أماتتها الشهوات، وهكذا تتكثر مصاديق الفجر والليل ويتحقق الفجر الأعظم بقيام المهدي الموعود (عجل الله تعالى فرجه) ليتمم النور الذي انبلج ببعثة جده المصطفى (صلى الله عليه وآله) كما وعد الله تعالى.
وتدل الروايات على أنَّ لسورة الفجر اختصاصاً بالإمام الحسين (عليه السلام) لأن ما قدمه الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء كان سبباً لانتشار نور الإيمان في أصقاع الأرض واستمرار رسالة الإسلام وخلودها بعد أن بذل الأمويون ومَن والاهم كل جهد للقضاء على هذا الدين، روى الشيخ الصدوق بسنده عن داوود بن فرقد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (أقرأوا سورة الفجر في فرائضكم ونوافلكم فإنها سورة الحسين بن علي عليهما السلام، من أدمن قراءة الفجر كان مع الحسين عليه السلام يوم القيامة في درجته من الجنة إن الله عزيز حكيم)[6]، وروى علي بن إبراهيم في تفسير الآية الأخيرة من السورة بسنده عن أبي بصير عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام): ({يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} قال (عليه السلام) يعني (الحسين بن علي عليهما السلام))[7] وهكذا تبدأ السورة بذكر الإمام الحسين (عليه السلام) وتنتهي به.
وقد فهم المشهور من الليالي العشر أنها زمنية متتابعة كالعشرات المتقدمة لكن السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) قدّم أطروحتين في مقابلها:
1- إنها عشرة زمانية لكنها غير متتالية بل متفرقة كليلة القدر والنصف من شعبان والعيدين وعرفة والأول من رجب وهكذا، وهو معنى لا يوجد ما يمنع منه.
2- إنها عشرة مجتمعة في زمان واحد أي متداخلة نظير قوله تعالى: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ}[8] (الزمر: 6)، قال (قدس سره): ((وعلى تقدير الأهمية المعنوية وعدم التتابع، فهي إشارة إلى أنواع البلاء الذي تمرّ به البشرية أو الجيل أو الفرد، نظير قوله: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} وتشبيه البلاء بالليل مجاز وارد، أو أن المراد بها حجب الظلمة، إلى غير ذلك، أو المراد عشر مراحل في التكامل))[9] ثم قال (قدس سره): ((وعليه يمكن أن تكون مجتمعة كلها دفعه واحدة، فمثلاً أنا الآن فعلاً في عشر ليال[10]، كما يقال عن الجنين: إنه في ظلماتٍ ثلاثٍ، أي: دفعة واحدة، فكذلك الإنسان قد يكون في ليالٍ عشرٍ أو أقل أو أكثر، وخاصة فيما إذا لم نفهم من العشرة التحديد، بل العدد الإجمالي، كما في السبعين {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً}.
والمهم الآن أني سأذكر مثالاً جمعت فيه عشرة أنواع من البلاء لإنسانٍ مسكينٍ يمكن أن يكون نموذجاً موجوداً، وقد تكون أشكال البلاء على الآخرين أيضاً متعددة، لكنها بشكل آخر. فيعيش هذا الإنسان في عشر ليالٍ مجتمعة في ليلٍ واحدٍ أو حالٍ واحدٍ، فنتصور شخصاً في حال المرض والفقر وبيته بعيدٌ، وفي أسرةٍ مشاكسة، ثم تتعدد ابتلاءاته، فهو في ليل الزمان، وليل الوحدة، وليل الفقر، وليل الجوع، وليل المرض، وليل عدم الطبيب، وليل عدم الدواء، وليل بُعد المسافة، وليل الحرّ أو البرد، وليل همّ أسرته اقتصادياً، وليل صعوبة زوجته أخلاقياً وهكذا، فيمكن أن يكون الإنسان هكذا، ويمكن أن توجد نماذج كثيرةٌ من أعلى أنواع البشر إلى أدناها))[11].
أقول: كان السيد الشهيد الصدر الثاني (قده) يولي اهتماماً أكبر بإشراق فجر النقاء والإخلاص والفضيلة من داخل النفس والقلب أكثر من طلوع فجر الحرية والتخلّص من الظلمة انطلاقاً من الحديث النبوي الشريف الذي سمى الأول بالجهاد الأكبر والثاني بالجهاد الأصغر، ولا قيمة للثاني مهما عظمت تضحياته إلا بمقدار النجاح في الأول، لذا كان يدعوا إلى فهم الفجر على هذه المعاني لأنه أكثر تأثيراً في تهذيب النفس وسعيها نحو الكمالات، وقد أكّد السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) على هذا المعنى في رسائله التي جمعتُها في كتاب (الشهيد الصدر الثاني كما أعرفه) وكتاب (قناديل العارفين) ومما قال: ((وأمّا الفجر الذي تشير إليه في رسالتك والذي أود أن أفهم منه المعنى المعنوي فهو الفجر الذي يشرق في النفس والضمير قبل أن يشرق على المجتمع، والله سبحانه أخبرُ بعباده، ومن المؤكد أن التربية الإيمانية في ظلمات الدنيا وصعوباتها أقوى وأوكد وأرسخ من التربية مع الدلال والترفيه وهل تطبيق الأحكام الاجتماعية العامة بين الناس إلا لطاعة الله، فاذا توفّرت طاعته تحت ظروف الظلمات، بل بشكل ألطف وأوكد فذلك هو المطلوب))[12].
كما كان يعبّر (قدس سره) عن حكم صدام الجائر بالليل وعن زواله بطلوع الفجر حيث كنا لا نستطيع استعمال الألفاظ الصريحة والنظام في أوج طغيانه وشراسته في ثمانينات القرن الماضي.
[1] - قبس من نور القرآن ألقاه سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) يوم الأربعاء 3/شعبان/1445 الموافق 14/2/2024 حيث صادف ذكرى ميلاد الإمام الحسين (عليه السلام) وقرب حلول ذكرى استشهاد السيد الصدر الثاني (قده) يوم 19/2/1999.
[2] - مجمع البيان:10/190.
[3] - التهذيب: 2/ 37، ح 116، وسائل الشيعة: 4/ 213.
[4] - البرهان: 10/54.
[5] - راجع الأقوال في مجمع البيان والدر المنثور وغيرهما.
[6] - ثواب الأعمال: 123: البرهان:10/161 ح5.
[7] - تفسير القمي: 2/422، البرهان:10/160.
[8] - روى القمي في تفسيره (2/246) والطبرسي في مجمع البيان عن أبي جعفر (عليه السلام) أنها (ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة) ويمكن أن نورد قوله تعالى {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} [النور: 40].
[9] - منة المنان، للسيد الشهيد محمد الصدر: 2/ 228.
[10] - لا أظن أن كلمته هذه مجرد مثال وإنما كان يعني ما قال حيث كان يعاني من ظلمات متعددة منها ظلمة النظام الصدامي الوحشي لكنه (قده) لم يكن يستطيع التصريح فجاء بالمثال.
[11] - منة المنان: 2/ 230.
[12] - الشهيد الصدر الثاني كما أعرفه: ص 31، جهاد واجتهاد:42.