{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}
{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}[1] [الانشراح: 5-6]
سُنّةٌ من السُنّن الإلهية الثابتة والقوانين الجارية في عباده، فيها وعدٌ صادقٌ من الله تبارك وتعالى مؤكّد بـ(إنّ)، وهو يتضمن بشرى لعباده بأن ما يتعرض له الإنسان من ابتلاءات ومِحن يصعب عليه تحملّها والاستمرار بها فأن أمرها سيتيسّر ويهون ويتبدّل العسر إلى يُسر، وقد ذكر الله تعالى هذ القانون الإلهي في آيةِ أخرى قال تعالى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7]، ويتضمن معنى اليُسر لغةً: السهولة والتوسعة والمساعدة والرخاء والرفاه، ويقابله العُسر متضمناً المشقة والضيق والصعوبة والشدة.
وقد أكدت آيةٌ أخرى أن الله تعالى لا يريدُ لعباده إلا اليُسر قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، فلا عسر من قبل الله تعالى، وأن العُسر حالة طارئة غير متجذرة ناتجة من فعل العباد، قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 8-10]، أي أنه بفعله واختياره توجّه نحو العسر.
وقد تقدّمت على الآية عدّة مصاديق لليسر بعد العسر من حياة النبي (صلى الله عليه وآله) قال تعالى:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الانشراح: 1 - 4] وفي سورة الضحى {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى: 6 - 8] فقد ولِد النبي (صلى الله عليه وآله) يتيم الأب ثم تُوفيت أمه وهو رضيع فكفله جدّه عبد المطلب ولمّا تُوفي كفله عمه أبو طالب وكانت قريش تُسميه يتيم أبي طالب، فعاش اليُتم والفقر في مجتمع جاهلي غارق في الموبِقات والرذائل كالشِرك بالله تعالى وعبادة الأصنام والزِنا وشُرب الخمر وقَتل البنات وظلم الضعيف واستعباد الناس وغيرها فكان قلبه يتألم لهذا الواقع الفاسد ويضيق صدره وهو النقي الطاهر فكان يصعب عليه ما يراه من قومه، فمنّ الله تعالى عليه أن شَرَحَ صدره بالإيمان وعَصَمه من الذنوب وزوّجه بسيدةٍ طاهرةٍ كريمةٍ وأغناه وحماه من كيدِ الأعداء إلى أن بعثه بالنبوّة وحمّله أعظم الرسالات فكان سيدَ المرسلين وأفضلَ الخلقِ أجمعين، فيكون بيان هذه النِعم تمهيداً لذكرِ هذه السُنّة الإلهية {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} وتأكيداً لها، وارتباطها بالفاء يجعلها كالتعليل لسبوغ تلك النِعم.
وقد نزلت سورة الانشراح في مكة والنبي (صلى الله عليه وآله) والمسلمون يُعانون من ظُلم قريش واضطهادهم وحصارهم وتجويعهم وتعذيبهم بأقسى العقوبات فكان من أغراضها تسلية النبي (صلى الله عليه وآله) وتخفيف معاناته وهو يحمل أعباء أثقل مسؤولية {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 5] ويتعرض لأبشع أنواع الأذى (ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت)[2] وهكذا حملت السور القرآنية صوراً من العُسر والمشقة والشدة التي تعرّض لها الأنبياء السابقون كنوح وإبراهيم ويوسف وموسى وعيسى (صلوات الله عليهم أجمعين) ثم أتاهم الفرج والنصر واليسر وفي ذلك تسليه لرسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث وصلت بعض معاناة الرسل إلى حد اليأس وفقدان الأمل {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110].
وتحمل الآية الكريمة أيضاً بشارةً للمسلمين وتثبيتاً لقلوبهم بأن هذا العُسر الذي تئنون من وطأته سيبدّله الله تعالى يُسراً ويزول عنكم هذا العَنَت والمشقة وهو ما حصل بالهجرة إلى المدينة المنورة.
والدرس المستفاد من الآية الكريمة: أن على المؤمنين أن لا يضعفوا أو ييأسوا أو يشعروا بالإحباط، وأن يكون شعارهم دائماً قوله تعالى: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} [يوسف: 87] وقوله تعالى: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53]، فالأمل بانفراج الأزمات وزوال المعاناة موجود دائماً {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} وإن نفس هذا الأمل هو يُسر كاشف للعُسر، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) :(توقّع الفرج إحدى الراحتين)[3].
وعليهم أن يشكروا الله تعالى على حسن صنيعه بهم إذ أبدل خوفهم أمناً وفقرهم يساراً وضيقهم انشراحاً وضلالهم إيماناً وجهلهم علماً وبعدهم قرباً وتفرّقهم وحدة، وهكذا.. ولا أريد الإطالة في ذكر المصاديق من حياة كل فردٍ منا وهو ما اختصره دعاء الافتتاح (فكم يا إلهي من كربةٍ قد فرّجتها وهمومٍ قد كشفتها وعثرة قد أقلتها ورحمةٍ قد نشرتها وحلقةِ بلاءٍ قد فككتها) وفي موضع آخر منه (فكم من موهبة هنيئة قد أعطاني وعظيمة مَخوفةٍ قد كفاني وبهجةٍ مونقةٍ قد أراني فأثني عليه حامداً وأذكره مسبِّحاً)[4].
وقد كرّر الله تعالى اليُسر بعد العُسر مرتين تأكيداً، فالعُسر واحد لأنه مُعرَّف واليُسر متعدد ومطلق أي أنه مفتوح بجميع الاتجاهات، وفي ذلك أمل كبير بالله تعالى لا نفاد له، وواسع لا حدود له لكل من يمرّ بضيقِ أو شدةِ او مُعاناةِ ماديةِ أو معنويةِ، روى في مجمع البيان خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوماً مسروراً فرحاً، وهو يضحك، ويقول: (لن يغلب عسرٌ يُسرين): (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا*إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)[5].
وعنه (صلى الله عليه وآله): (لو جاء العُسر فدخل هذا الجحر، لجاء اليُسر فدخل عليه فأخرجه)[6].
ومن شعر الموعظة:
إذا ضاقت بك الدنيا |
تفكَّر في ألم نشرح |
تجد يسرين بعد العُسِر |
إن فكرتّه تنجـح |
وقد ذكرت الآية {مَعَ الْعُسْرِ} وليس بعد العُسر، وإن كانت دالة على ذلك كما فُهِمَ منها، ولعل النكتة فيها أن حالة العُسر تَستبطن معها حالة اليُسر وتكون سبباً لها لما تتضمنه من الانكسار وتقطّع الأسباب والحاجةِ إلى الله تعالى وهي من موجبات استجابة الدعاء ورفع البلاء {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} [يونس: 12] حيث ينقطع العبد إلى ربِّه {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62].
وقد علمّنا اللهُ تعالى طريقَ استجلاب اليُسر قال تعالى {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى*فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 5-7] وعلّمنا وسيلة دفع العُسر والشدّة والضيق، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر : 97-98]، وقال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] ولم يُذكر مورد الاستعانة على ماذا لتكون مطلقةً سواء لطلبِ الرزقِ أو العافية أو الولد أو التوفيق أو حلِّ مشكلةٍ معينةٍ أو إصلاح حال خاص أو عام أو خروج من مأزقٍ وغير ذلك.
وقد دلّت الروايات الشريفة على أن العُسر والضيق كلما يشتد فإنه يكون أقرب لليُسر والفرج قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (أضيق ما يكون الحرج أقرب ما يكون الفرج)[7] وقال (عليه السلام): (عند تناهي الشدة تكون الفُرجة وعند تضايق حَلَق البلاء يكون الرخاء)[8] وقال (عليه السلام): (ما أشتدَّ ضيق إلا قرّب الله فرجه)[9]
روي أن امرأة جاءت إلى الإمام الصادق (عليه السلام) تشكو له سجن ولدها فأمرها بالصبر والدعاء ولما لم يُطلق ولدها رجعت إلى الإمام بنفس الطلب وهكذا عدة مرات إلى أن قالت له: ليس لدي طاقة على الصبر فلقد ضِقت بما نزل بي فقال لها الإمام (عليه السلام): ارجعي إلى الدار ستجدين ولدك، وهكذا كان، فسألته عن كيفية معرفته فقال (عليه السلام): لأن الفرج يجيء عند الشدة.
وأذكرُ لكم شاهداً على العُسر بعد اليُسر من سيرة النبي (صلى الله عليه وآله):
وقّع النبي (صلى الله عليه وآله) صلح الحديبية مع المشركين وكان من بنوده أن من يأتي للنبي (صلى الله عليه وآله) مسلماً على النبي (صلى الله عليه وآله) أن يرجعه إلى قومه أما من يترك النبي (صلى الله عليه وآله) من المسلمين ويعود إلى المشركين فلا يرجعوه إلى المدينة، وسبّب هذا الشرط تشكيكاً لدى بعض المسلمين[10] بصواب ما فعله رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ففرَّ أحد المسلمين المستضعفين من حبسه في مكة يدعى أبو بصير عتبة بن أسيد وقصد النبي (صلى الله عليه وآله) فلما وصل المدينة كتب رؤساء المشركين إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يطالبونه به وبعثوا لجلبه رَجُلاً مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَمَعَهُ مَوْلىً لَهُمْ، فَقَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ (آله) وسَلَّمَ بِكِتَابِ الأَزْهَرِ وَالأَخْنَسِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ(آله) وسَلَّمَ: يَا أَبَا بِصَيْرِ إنَّا قَدْ أَعْطَيْنَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ مَا قَدْ عَلِمْتَ، وَلَا يَصْلُحُ لَنَا فِي دِينِنَا الْغَدْرُ، وَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرْجاً وَمَخْرَجاً، فَانْطَلِقْ إلَى قَوْمِكَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَرُدُّنِي إلَى الْمُشْرِكِينَ يَفْتِنُونَنِي فِي دِينِي؟ قَالَ: يَا أَبَا بِصَيْرِ، انْطَلِقْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيَجْعَلُ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرْجاً وَمَخْرَجاً.
فَانْطَلَقَ مَعَهُمَا، حَتَّى إذَا كَانَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، جَلَسَ إلَى جِدَارٍ، وَجَلَسَ مَعَهُ صَاحِبَاهُ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ: أَصَارِمٌ سَيْفُكَ هَذَا يَا أَخَا بَنِي عَامِرٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَنَظَرَ إلَيْهِ؟ قَالَ: اُنْظُرْ، إنْ شِئْتُ. قَالَ: فَاسْتَلَّهُ أَبُو بَصِيرٍ، ثُمَّ عَلَاهُ بِهِ حَتَّى قَتَلَهُ، وَخَرَجَ الْمَوْلَى سَرِيعاً حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ (آله) وسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ(آله) وسَلَّمَ طَالِعاً، قَالَ: إنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ رَأَى فَزعاً، فَلَمَّا انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ (آله) وسَلَّمَ، قَالَ: وَيحك! مَالك؟ قَالَ: قَتَلَ صَاحبكُم صَاحِبي. فو الله مَا بَرِحَ حَتَّى طَلَعَ أَبُو بَصِيرٍ مُتَوَشِّحاً بِالسَّيْفِ، حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ (آله) وسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَفَتْ ذِمَّتُكَ، وَأَدَّى اللَّهُ عَنْكَ، أَسْلَمْتنِي بِيَدِ الْقَوْمِ وَقَدْ امْتَنَعْتُ بِدِينِي أَنْ أُفْتَنَ فِيهِ، أَوْ يُعْبَثَ بِي. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ (آله) وسَلَّمَ: وَيْلُ أُمِّهِ مِحَشَّ[11] حَرْبٍ لَوْ كَانَ مَعَه رجال!.
ثُمَّ خَرَجَ أَبُو بَصِيرٍ حَتَّى نَزَلَ الْعِيصَ، مِنْ نَاحِيَةِ ذِي الْمَرْوَةِ، عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، بِطَرِيقِ قُرَيْشٍ الَّتِي كَانُوا يَأْخُذُونَ عَلَيْهَا إلَى الشَّامِ، وَبَلَغَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا اُحْتُبِسُوا بِمَكَّةَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بِصَيْرِ: (وَيْلُ أُمِّهِ مِحَشَّ حَرْبٍ لَوْ كَانَ مَعَهُ رِجَالٌ)!، فَخَرَجُوا إلَى أَبِي بِصَيْرِ بِالْعِيصِ، فَاجْتَمَعَ إلَيْهِ مِنْهُمْ قَرِيبٌ مِنْ سَبْعِينَ رَجُلاً، وَكَانُوا قَدْ ضَيَّقُوا عَلَى قُرَيْشٍ، لَا يَظْفَرُونَ بِأَحَدِ مِنْهُمْ إلَّا قَتَلُوهُ، وَلَا تَمُرُّ بِهِمْ عِيرٌ إلَّا اقْتَطَعُوهَا، حَتَّى كَتَبَتْ قُرَيْشٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ (آله) وسَلَّمَ تَسْأَلُ بِأَرْحَامِهَا إلَّا آوَاهُمْ، فَلَا حَاجَةَ لَهُمْ بِهِمْ، فَآوَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ (آله) وسَلَّمَ، فَقَدِمُوا عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ[12].
حكي أن ملكاً أصبح ذات يوم كئيباً حزيناً ضيّقَ الصدرِ فأستدعى ندماءه ليؤنسوه ويزيلوا غمّه فقدّموا كل ما لديهم من أحاديث طريفة وحركات مثيرة فلم يفلحوا وأخيراً نصحوه بأن يقوم بسفرةٍ في البحر عسى أن تنجلي همومه برؤية المناظر المدهشة، وهناك في عرض البحر سمع صوت شخص ينادي (يا غياث المستغيثين أغثني) فطلب من رجاله النزول إلى البحر بسرعة ومعرفة مصدر الصوت فوجدوا رجلاً مشرفاً على الهلاك ينازع أمواج البحر المتلاطمة فأنقذوه وجاؤوا به إلى ظهر السفينة وبعد معالجته واستقرار حالته سأله الملك عن حاله فقال: إنهم كانوا في سفينة فتعرضت لحادث وغرقت وجميع الركاب فبقي يصارع الأموات وفقد كل أمل إلا بالله تعالى فأخذ يكرّر نداء الاستغاثة، فعرف الملك سرَّ ما جرى له وكيف دفعه الله تعالى بهذه الطريقة لإنقاذ الغريق.
ولا بد من الالتفات إلى أن العُسر قد يكون مادياً كالفقر والمرض والسجن والغربة والحرمان من الأهل والولد وقد يكون معنوياً كضيقِ الصدرِ والقلق والاكتئاب والوسوسة والحرمان من الهداية والتوفيق والتورط بالذنوب وفي مقابلها يكون اليُسر، كما أن اليُسر الموعود قد لا يكون من جنس العُسر كأن يعطي مالاً للفقير أو صحةً للمريض بل يعطيه شيئاً آخر كالهدايةِ والتوفيق وغفران الذنوب والصبر على المصيبة وربما الشكر وراحة البال وقرّة العين في الأهل والولد والعلم والبصيرة وتأسّي الآخرين وتأثرّهم به، مضافاً إلى كل ذلك الفوز بالجنة والنجاة من النار وحسن الجزاء في الآخرة، ولعل في تكرار اليُسر مع العُسر في الآية للإشارة إلى أنه قد يكون من جنسه وقد يكون من غيره أو هما معاً.
نسأل الله تعالى ان ييسّرنا للحسنى والصلاح والسعادة والرضا في الدنيا والآخرة.
[1] - قبس من نور القرآن ألقاه سماحة الشيخ اليعقوبي في درس التفسير الأسبوعي يوم الأربعاء 31/1/2024 الموافق 19 رجب 1445.
[2] - مناقب آل أبي طالب: 3/247، باب النكت واللطائف، كشف الغمة:2/537، بحار الانوار:39/55 باب 73.
[3] - غرر الحكم: 4578.
[4] - مصابيح الجنان: 539-540.
[5] - تفسير مجمع البيان - الشيخ الطبرسي - ج ١٠ - الصفحة 217.
[6] - كنز العمال: 2947.
[7] - غرر الحكم: رقم 3035، بحار الانوار: 68/ 75.
[8] - نهج البلاغة: 2/ 227، بحار الأنوار: 68/ 96.
[9] - غرر الحكم:9566.
[10] - راجع قبس {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} في تفسير من (نور القرآن).
[11] - لعل الصحيح (مسعّر) أو هي بمعناها.
[12] - سيرة أبن هشام:3/207-208 ط.دار الجيل.