خطاب المرحلة (597) جعفر الطـيار (ع) فتى النقاء والعفاف والجهاد

| |عدد القراءات : 135
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

جعفر الطـيار (A)

فتى النقاء والعفاف والجهاد ([1])

بمناسبة يوم الفتوة نستذكر جوانب من السيرة العطرة لقمّة من قمم الفتوة في الإسلام قلّما يذكر في المجالس، لنستلهم منه دروس العفاف والاستقامة والجهاد في سبيل الله تعالى ونصرة قادة الإسلام ولندخل السرور على قلب رسول الله (9) وأمير المؤمنين وفاطمة الزهراء (^) لحبهم إياه وبقدر حزنهم عليه.

إنه جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم فهو وإخوته أول من اجتمعت لهم ولادة هاشم من جهة الأم والأب، وكان (جعفر أكبر من علي (A) بعشر سنين وكان عقيل - والد سفير الحسين مسلم - أكبر من جعفر بعشر سنين وكان طالب أكبر من عقيل بعشر سنين)([2]). وروى البلاذري بسنده عن الإمام جعفر الصادق (A) رواية تذكر فروقاً في العمر بينهم أقل من ذلك([3])، ولم تذكر بعضها ولداً باسم طالب ولا ذكر له في التاريخ، وربما توهّمه بعضهم من جهة كنيته أبي طالب.

 نشأته الطاهرة:

ولد ونشأ في بيت طهر وعفاف وإيمان وتوحيد قبل الإسلام وهو بيت أبي طالب سيد قريش وحامي رسول الله (9) وكافله وناصره، وفاطمة بنت أسد المضحّية المجاهدة([4])، لذلك عفّت نفسه منذ صباه عما كان يمارسه أهل الجاهلية من فواحش وعبادة للأوثان وهي حالة نادرة في ذلك المجتمع الجاهلي الغارق في الفسق والفجور، وقد أشاد النبي (9) بهذه الفضيلة لجعفر بعد ذلك وأراد إشهارها بين المسلمين ليعرفوا فضله وسمو بيته الطاهر حتى لا ينافسهم من لا يدانيهم في هذه المرتبة، فقد روي عن أبي جعفر الباقر (A) (قال: أوحى الله تعالى إلى رسول الله (9) إني شكرت لجعفر بن أبي طالب أربع خصال، فدعاه النبي (9) فأخبره، فقال: لولا أن الله تبارك وتعالى أخبرك ما أخبرتُك، ما شربت خمراً قط، لأني علمت أني إن شربتها زال عقلي، وما كذبت قط، لأن الكذب ينقص المروة، وما زنيت قط لأني خفت أني إذا عملت عُمل بي، وما عبدت صنماً قط لأني علمت أنه لا يضر ولا ينفع، قال: فضرب النبي (9) على عاتقه وقال: حق لله تعالى أن يجعل لك جناحين تطير بهما مع الملائكة في الجنة)([5]).

فالخصال الحميدة الراسخة في قلب الانسان ونفسه يحبّها الله تعالى ويشكرها لعبده ويجازيه عليها.

إسلامه:

ولذا كان من الطبيعي أن يسارع إلى الإيمان بالنبي (9) حينما بعث بالنبوة لم يسبقه إلا علي وخديجة صلوات الله عليهما في الأيام الأولى من دعوته السرية قبل الصدع بها، وكان جعفر يومئذ في العشرين من عمره، روى في البحار عن علي بن إبراهيم صاحب التفسير عن بدء بعث النبي (9) إلى أن قال: (فلما أتى لذلك – أي البعثة والتحاق علي وخديجة – أيام دخل أبو طالب إلى منزل رسول الله (9) ومعه جعفر، فنظر إلى رسول الله (9) وعلي بجنبه يصليان، فقال لجعفر: يا جعفر صِلْ جناح ابن عمك([6])، فوقف جعفر بن أبي طالب من الجانب الآخر)([7]).

ورواه الشيخ الصدوق في الأمالي بسنده عن الإمام الصادق (A) وفيه (فلما أحسَّه – أي التحاق جعفر به – تقدمهما وانصرف أبو طالب مسروراً وهو يقول:

إن عـلـياً وجـعفـــــراً ثقــــتـي          عند ملم الزمان والكــربِ

والله لا أخـــــــــذل النبي ولا     يخذله من بنيَّ ذو حـــسبِ

لا تخذلا وانصرا ابن عمكمـا            أخي لأمي من بينهم وأبي

قال: فكانت أول جماعة جمعت ذلك اليوم)([8]).

فليس صحيحاً ما ذكره ابن هشام في سيرته([9]) وابن حجر في الإصابة عن ابن إسحاق أنه (أسلم بعد خمسة وعشرين رجلاً وقيل بعد واحد وثلاثين)([10]) وذكر ابن هشام أسماءهم.

هجرته إلى الحبشة وإسلام ملكها على يديه:

كان على رأس المسلمين الأوائل في هجرتهم إلى الحبشة ومعه امرأته أسماء بنت عميس الخثعمية. روى ابن هشام عن ابن إسحاق قال: (فلما رأى رسول الله (9) ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، لمكانه من الله ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه. فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله (9) إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفراراً إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة كانت في الإسلام)([11]).

وقال: (فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله (9) قد آمنوا واطمأنوا بأرض الحبشة، وأنهم قد أصابوا بها داراً وقراراً، ائتمروا بينهم أن يبعثوا فيهم منهم رجلين من قريش جلدين إلى النجاشي، فيردهم عليهم، ليفتنوهم في دينهم، ويخرجوهم من دارهم التي اطمأنوا بها وأمنوا فيها، فبعثوا عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص بن وائل، وجمعوا لهما هدايا للنجاشي ولبطارقته، ثم بعثوها إليه فيهم)([12]).

ونفّذ الرجلان ما أرسلا به وطلبا من النجاشي رد المهاجرين إلى بلدهم وتسليمهم إلى قريش، وروت لنا أم المؤمنين أم سلمة ما جرت من أحداث وكانت مع زوجها أبي سلمة في المهاجرين، قالت (فأرسل النجاشيّ إلى أصحاب رسول الله (9) فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟

قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائناً في ذلك ما هو كائن. فلما جاؤوا - وقد دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله - سألهم فقال لهم: ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في ديني، ولا في دين أحد من هذه الملل؟ قالت: فكان الذي كلّمه جعفر بن أبي طالب (رضوان الله عليه)، فقال له: أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام - قالت -أي أم سلمة- فعدّد عليه أمور الإسلام – فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً، وحرّمنا ما حرّم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن إلا نظلم عندك أيها الملك.

قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأه عليّ، قالت: فقرأ عليه صدراً من (كهيعص) -أي سورة مريم-. قالت: فبكى والله النجاشي حتى أخضلّت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال (لهم) النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون)([13]).

ومن هذه الكلمات نعلم أن جعفراً قد أُشرِب بالإيمان في قلبه ووعى أحكام الإسلام فاستحق أن يكون سفيراً للنبي (9) وداعياً إلى الإسلام، وقد أجرى الله تعالى الخير على يديه حيث أسلم النجاشي ملك الحبشة ببركة جهوده([14]).

بقي في الحبشة سنين طويلة ولم يحضر وفاة والده أبي طالب سيد البطحاء وناصر رسول الله وحاميه في مكة قبل الهجرة بثلاث سنين بعد محنة الحصار في الشِعب بين الجبال، ولا وفاة أمه فاطمة بنت أسد التي قال فيها رسول الله (9) لمّا أبلغه ولدها علي (A) بوفاتها: (رحم الله أمك يا علي، أما إنها إن كانت لك أماً فقد كانت لي أماً)([15]) وصلى عليها صلاة لم يصلها على أحد قبلها، وقد توفيت في المدينة بعد الهجرة.

عودته إلى المدينة وسرور النبي البالغ به:

ورجع إلى المدينة في أوائل السنة السابعة من الهجرة واختط له النبي (9) داراً إلى جنب المسجد([16])، وكان قدومه متزامناً مع انتصار النبي (9) على اليهود في خيبر وفتح حصونهم على يدي أخيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (A)، وفرح النبي (9) بقدومه أشد الفرح فقد روى زرارة عن الإمام الباقر (A) قال: (ولما افتتح رسول (9) خيبر أتاه البشير بقدوم جعفر بن أبي طالب وأصحابه من الحبشة إلى المدينة، فقال (9): ما أدري بأيهما أنا أسَرّ، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر)([17]).

وعن سفيان الثوري، عن أبي الزبير، عن جابر قال: (لما قدم جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة تلقاه رسول الله (9)، فلما نظر جعفر إلى رسول الله (9) حجل([18])، فقبل رسول الله بين عينيه).

وروى زرارة، عن أبي جعفر (A) (أن رسول الله (9) لما استقبل جعفراً التزمه ثم قبل بين عينيه، قال: وكان رسول الله (9) بعث قبل أن يسير إلى خيبر عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي عظيم الحبشة ودعاه إلى الإسلام فأسلم، وكان أمر عمرواً أن يتقدم بجعفر وأصحابه، فجهز النجاشي جعفراً وأصحابه بجهاز حسن، وأمر لهم بكسوة وحملهم في سفينتين).

 وروى الشيخ الصدوق في الخصال والعيون بإسناده عن أبي محمد العسكري، عن آبائه، عن علي (^) قال: (إن رسول الله (9) لمّا جاءه جعفر بن أبي طالب من الحبشة قام إليه واستقبله اثنتي عشرة خطوة، وقبل ما بين عينيه وبكى، وقال: لا أدري بأيهما أنا أشد سروراً، بقدومك يا جعفر أم بفتح الله على أخيك خيبر؟ وبكى فرحاً برؤيته)([19]).

صلاة جعفر: هدية أهل الكمالات المعنوية:

وقدّم له النبي (9) هدية معنوية جليلة بهذه المناسبة وهي الصلاة المعروفة بصلاة جعفر الطّيار التي يصفها العرفاء بأنها الإكسير الأعظم لنيل الكمالات المعنوية، وهي من مختصات أهل الولاية التي حباهم الله تعالى بها، فكانت صدقة جارية لجعفر يأتيه مثل ثواب من أقامها إلى يوم القيامة فجزاه الله خير جزاء المحسنين وأحسن مثواه.

وقد وردت عشرات الأحاديث في فضلها وثواب أدائها وكيفيتها، روى الكليني بسند صحيح عن أبي بصير عن الإمام الصادق قال: (قال رسول الله (9) لجعفر: يا جعفر ألا أمنحك ألا أعطيك ألا أحبوك فقال له جعفر: بلى يا رسول الله، قال: فظن الناس أنه يعطيه ذهباً أو فضة، فتشرف الناس لذلك، فقال له: إني أعطيك شيئاً إن أنت صنعته في كل يوم كان خيراً لك من الدنيا وما فيها وإن صنعته بين يومين غفر لك ما بينهما أو كل جمعة أو كل شهر أو كل سنة غفر لك ما بينهما، تصلي أربع ركعات تبتدئ فتقرأ وتقول إذا فرغت: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، تقول ذلك خمس عشرة مرة بعد القراءة فإذا ركعت قلته عشر مرات فإذا رفعت رأسك من الركوع قلته عشر مرات فإذا سجدت قلته عشر مرات فإذا رفعت رأسك من السجود فقل بين السجدتين عشر مرات فإذا سجدت الثانية فقل عشر مرات فإذا رفعت رأسك من السجدة الثانية قلت عشر مرات وأنت قاعد قبل أن تقوم فذلك خمس وسبعون تسبيحة في كل ركعة ثلاثمائة تسبيحة في أربع ركعات ألف ومائتا تسبيحة وتهليلة وتكبيرة وتحميدة إن شئت صليتها بالنهار وإن شئت صليتها بالليل)([20]).

أقول: وهي أربع ركعات كل اثنتين على حدة بتشهّد وتسليم، ويؤتى بها في أي وقت وأفضل أوقاتها صدر النهار من يوم الجمعة ويستحب أداؤها عند زيارة المعصومين فهي هدية مناسبة لهم سلام الله عليهم أجمعين.

وفي رواية إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي الحسن (A) (تقرأ في الأولى إذا زلزلت، وفي الثانية والعاديات، وفي الثالثة إذا جاء نصر الله، وفي الرابعة بقل هو الله أحد. قلت: فما ثوابها؟ قال: لو كان عليه مثل رمل عالج - وهو جبل معروف - ذنوباً غفر (الله) له، ثم نظر إلي فقال: إنما ذلك لك ولأصحابك)([21]).

قيادته الجيش إلى معركة مؤتة وشهادته:

ولم يلبث في المدينة طويلاً حيث أمّره النبي (9) في جمادى من السنة الثامنة للهجرة على جيش وأرسله إلى قتال الروم في بلاد الشام انتقاماً لقتل رسوله إليهم، وفي رواية أبان بن عثمان عن الصادق (A) (أنه استعمل عليهم جعفراً فإن قُتل فزيد - بن حارثة - فإن قتل فعبد الله بن رواحة)([22]) وقد التقى الجيشان في مؤتة من بلاد الشام.

وروي عن ابن شهاب الزهري قال: (لما قدم جعفر بن أبي طالب من بلاد الحبشة بعثه رسول الله (9) إلى مؤتة واستعمل على الجيش معه زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة فمضى الناس معهم حتى كانوا بنحو البلقاء فلقيهم جموع هرقل من الروم والعرب فانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها: مؤتة ليعسكروا فيها فالتقى الناس عندها، واقتتلوا قتالاً شديداً)([23]) حتى استشهدوا وكانت الحرب غير متكافئة فالمسلمون ثلاثة آلاف والروم ومن والاهم من القبائل العربية تجاوزا مائة ألف وروي أنهم مائتا ألف وفي الاستيعاب عن ابن عمر انه قال وجدنا ما بين صدر جعفر بن أبي طالب ومنكبيه وما أقبل منه تسعين جراحة ما بين ضربه بالسيف وطعنة بالرمح.

وأنه قاتل قتالاً شديداً، حتى قطعت يده اليمنى فأخذ الراية بيده اليسرى وقاتل إلى أن قطعت اليسرى أيضاً فاعتنق الراية وضمها إلى صدره حتى قُتل، ووجد به نيف وسبعون وقيل نيف وثمانون ما بين طعنة وضربة ورمية([24]).

وفي الاستيعاب أيضاً أنه لما أتى النبي (9) نعي جعفر أتى امرأته أسماء بنت عميس فعزاها في زوجها جعفر ودخلت فاطمة وهي تبكي وتقول وا عمّاه فقال رسول الله (9) على مثل جعفر فلتبك البواكي.

فضله وعظيم منزلته:

روى الفريقان في فضله وعظيم منزلته عند الله تعالى وعند رسول الله (9) أحاديث كثيرة، وقد تقدّم بعضها من مصادرنا حيث شكره الله تعالى على استقامته وحسن سيرته وأبان النبي (9) للمسلمين فضله وعلوّ منزلته.

وهو ممن نزلت في فضله آيات قرآنية، منها قوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب : 23).

روى الشيخ الصدوق في الخصال حديثاً طويلاً عن أمير المؤمنين (A) قال: (ولقد كنت عاهدت الله عز وجل ورسوله (9) أنا وعمي حمزة وأخي جعفر، وابن عمي عبيدة على أمر وفينا به لله عز وجل ولرسوله، فتقدمني أصحابي وتخلفت بعدهم لما أراد الله عز وجل فأنزل الله فينا (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً) حمزة وجعفر وعبيدة، وأنا -والله- المنتظر)([25]).

وكان لجعفر منزلة كبيرة عند رسول الله (9) وعند أخيه أمير المؤمنين (A) ذكر ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة عن الشعبي قال: (سمعت عبد الله بن جعفر يقول: كنت إذا سألت عمي علياً شيئاً فمنعني أقول له: بحق جعفر فيعطيني)([26]).

 وكذا من مصادر العامة، ففي صحيح البخاري وسنن الترمذي أن النبي (9) قال له: (أشبهت خلقي وخلقي)([27])، ورواه في الاستيعاب بسنده عن علي (A) أن النبي (9) قال لجعفر: (أشبهت خلقي وخلقي يا جعفر).

زوجه وأولاده وولاؤهم لأهل البيت (G):

 تزوج في مكة قبل الهجرة أسماء بنت عميس الخثعمية وهاجرت معه إلى الحبشة، وهي امرأة جليلة واعية ذات بصيرة سبقت إلى الإسلام مع زوجها جعفر، أثنى عليها رسول الله (9) وعلى رجحان عقلها.

وأسماء هي أم أولاد جعفر جميعاً، وتزوجها بعد شهادته أبو بكر فولدت منه محمد بن أبي بكر الذي قال فيه أمير المؤمنين (A): (فلقد كان إليّ حبيباً وكان لي ربيباً)([28])، واستشهد في مصر حيث ولاه أمير المؤمنين (A) عليها.

وبعد وفاة أبي بكر تزوج أمير المؤمنين (A) من أسماء وولدت له يحيى بن علي.

وأولاد جعفر (رضوان الله عليه) ثلاثة وُلدوا كلهم في أرض الهجرة، وهم:

١- عبد الله بن جعفر زوج العقيلة زينب وهو من أجواد قريش وأسيادهم استشهد له ولدان مع الإمام الحسين (A) في كربلاء.

٢- محمد بن جعفر أثنى عليه أمير المؤمنين (A) ووصفه بأنه يأبى أن يعصى الله تبارك وتعالى فقد روى الكشي في رجاله بسنده عن الإمام الرضا (A) قال: (كان أمير المؤمنين (A) يقول: إن المحامدة تأبى أن يعصى الله عز وجل، قلت ومن المحامدة؟ قال: محمد بن جعفر ومحمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة وهو ابن عتبة بن ربيعة وهو ابن خال معاوية)([29]).

أقول: وكلهم استشهد على يد معاوية.

وقد روى أبو الفرج الأصفهاني أن محمداً كانت معه راية أمير المؤمنين التي تسمى الجموح في معركة صفين واستشهد فيها([30]).

3- عون بن جعفر، قال صاحب العمدة: (وقتل عون بالطف مع الحسين (A)، وقيل قتل هو وأخوه محمد بشوشتر شهيدين)([31]).

أقول: عون الشهيد في كربلاء هو ابن عبد الله بن جعفر.

 وعُرف هذا البيت بموالاته أهل البيت (^) وكثر فيه الشهداء دفاعاً عن المظلومين ومقارعة الظلم والطغيان وضمّ كتاب مقاتل الطالبيين أسماء الكثير منهم.

واشتهر من أحفاد جعفر: أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري وكان عالماً جليل القدر عظيم المنزلة عند الأئمة الذين عاصرهم وهم الإمام الرضا والجواد والهادي والعسكري (^).

نصرة آل جعفر للإمام الحسين (A)

كان ذكر جعفر حاضراً في كربلاء فقد افتخر الإمام الحسين (A) به وقال في مقام الاحتجاج على الجيش المعادي: (فأنشدكم الله هل تعلمون أن جعفر الطيار في الجنة عمي؟ قالوا اللهم نعم)([32]).

واستشهد اثنان من أولاد عبد الله بن جعفر بين يدي الإمام الحسين (A).

وكان عبد الله بن جعفر يأسى لعدم تمكنه من الشهادة بين يدي الإمام الحسين (A) ويجد السلوة في أنه قدّم ولديه شهيدين وأن زوجه العقيلة زينب كان لها الدور العظيم في إنجاز ما خرج الإمام الحسين (A) من أجله.

 وفي تأريخ الطبري (لما بلغ عبد الله بن جعفر بن أبي طالب مقتل ابنيه مع الحسين دخل عليه بعض مواليه والناس يعزونه فقال أبو السلاسل مولى عبد الله: هذا ما لقينا ودخل علينا من الحسين، قال فحذفه عبد الله بن جعفر بنعله ثم قال: يا ابن اللخناء أللحسين تقول هذا! والله لو شهدته لأحببت أن لا أفارقه حتى أقتل معه، والله إنه لمما يُسخّي بنفسي عنهما ويهون عليّ المصاب بهما أنهما أصيبا مع أخي وابن عمى مواسيين له صابرين معه، ثم أقبل على جلسائه فقال: الحمد لله، عزّ علي مصرع الحسين، إن لا أكن آست حسيناً بيدي فقد آساه ولدي)([33]).

وكل الهاشميين الذين استشهدوا في كربلاء هم من ذرية أبي طالب وفاطمة بنت أسد ومن أولاد علي وأخويه جعفر وعقيل، وقال الشاعر في ذلك:

تسعه منهمُ لصلب عليٍّ          وثمان لجعفرٍ وعقيلِ

 وفي الرواية أنه ذكر عند الإمام الباقر (A) قتل الحسين وأهل بيته فقال: (قتلوا سبعة عشر إنساناً كلهم ارتكض من بطن فاطمة بنت أسد)([34]).

 



([1]) من حديث سماحة الديني الشيخ محمد اليعقوبي مع جمع من الشباب الفاعلين وفي أحد مجالس بحثه الشريف لخص فيه كتاباً ألفّه بهذا العنوان وطبع مستقلاً وهو تحقيق كتبه سماحة المرجع بمناسبة انطلاق يوم الفتوة حيث دعا سماحته في خطبتي عيد الفطر 1440 هـ الموافق 5/6/2019 إلى تعيين يومٍ للفتوة واختار له الخامس عشر من شوّال يوم نادى وحي السماء: (لا فتى إلا عليّ).

([2]) مقاتل الطالبيين، لأبي الفرج الأصفهاني: 3، الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر المطبوع بهامش الإصابة: 1/210.

([3]) أنساب الأشراف، أحمد بن يحيى البلاذري (ت279 هـ): 40.

([4]) راجع كلمة سماحة المرجع اليعقوبي عن فاطمة بنت أسد في موسوعة خطاب المرحلة: 2/56-72.

([5]) علل الشرائع: 2/558.

([6]) وهي تعني أن يقف إلى يسار رسول الله (9) ليكمل وقوف أخيه علي إلى يمينه، أو تعني نصرته وتقويته كما في قول أمير المؤمنين (A): (صِل عشيرتك فإنهم جناحك الذي به تطير) (نهج البلاغة:3/57).

([7]) بحار الأنوار: 18/184، ح14.

([8]) الأمالي للشيخ الصدوق: 304 وأورده المجلسي في بحار الأنوار، وقال: (روى السيد في الطرائف عن أبي هلال العسكري من كتاب الأوائل مثله) (بحار الأنوار: 35/68، ح2 عن الطرائف: 87).

([9]) السيرة النبوية لابن هشام: 1/233.

([10]) الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ): 1/237.

([11]) السيرة النبوية لابن هشام: 1/280.

([12]) المصدر السابق: 1/288.

([13]) نفس المصدر: 1/290.

([14]) الإصابة في تمييز الصحابة: 1/237.

([15]) بحار الأنوار للمجلسي: 78/350 عن أمالي الصدوق: 180.

([16]) الاستيعاب في معرفة الأصحاب، لابن عبد البر يوسف بن عبد الله القرطبي (ت 463هـ): 1/210.

([17]) التهذيب للشيخ الطوسي: 3/186.

([18]) الحجل أن يمشي بخطوات متقاربة كالمقيد أدباً وهيبة لرسول الله (9)، وقيل في معناه أن يرفع رجلاً ويقفز على الأخرى من الفرح، وقد يكون بالرجلين إلا أنه قفزٌ.

([19]) بحار الأنوار: 21/24 عن الخصال: 2/82، عيون أخبار الرضا: 140.

([20]) الكافي: 3/465، ح 1، وسائل الشيعة: 8/49، أبواب صلاة جعفر، باب 1، ح1.

([21]) التهذيب: 3/187، ح 423، وسائل الشيعة: 8/54، أبواب صلاة جعفر، باب 2، ح3.

([22]) بحار الأنوار: 21 /55 ح 8 عن اعلام الورى بأعلام الهدى: 110 ــ 112 من الطبعة الثانية

([23]) بحار الأنوار: 21/51 عن أمالي ابن الشيخ: 87-88.

([24]) نقلها السيد الأمين في أعيان الشيعة: ج4، في ترجمته لجعفر بن أبي طالب.

([25]) الخصال: 376، ح58. ط. جماعة المدرسين.

([26]) بحار الأنوار: 21/64 عن شرح نهج البلاغة: 3/42-47.

([27]) صحيح البخاري، كتاب 62: فضائل الصحابة، باب 10، ح 3708، سنن الترمذي: ح 3765، وفي الإصابة وغيرها.

([28]) نهج البلاغة: 1/117، الخطبة (68)، وروى بمعناه المجلسي في البحار: 33/566 عن المدائني: (قيل لعلي ×: لقد جزعت على محمد بن أبي بكر جزعاً شديداً يا أمير المؤمنين! فقال: وما يمنعني؛ إنه كان لي ربيباً وكان لبنيّ أخاً وكنت له والداً أعده ولداً).

([29]) رجال الكشي: 47 في ترجمة محمد بن أبي حذيفة.

([30]) مقاتل الطالبيين: 11.

([31]) نقله عن العمدة السيد علي خان المدني (ت 1120 هـ) في كتاب الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة: 184.

([32]) الأمالي للصدوق: 222، ح 239، بحار الأنوار: 44/318.

([33]) تاريخ الطبري: 4/357. ورواه الشيخ المفيد في الإرشاد: 232-233.

([34]) مثير الأحزان لابن نما الحلي (ت 645 هـ): 89.